في صباح يوم الاثنين الخامس من حزيران عام 1967 سافرت مع إخواني إلى تل أبيب، ومن هناك صعدت، وحدي، الحافلة المتوجهة إلى القدس، ولما كانت الأيام السابقة مشحونة بالتوتر على الحدود، وراحت تُقرع طبول الحرب بين العرب واليهود ارتأى السائق فتح المذياع ليستمع إلى الإذاعة العبرية التي واصلت بثها على غير المعتاد، فلما وصلت الحافلة إلى باب الواد في تمام الساعة الثامنة والنصف رفع السائق صوت المذياع فجاء صوت المذيع قائلاً: صرح الناطق العسكري بأن الدول العربية بدأت بالهجوم على إسرائيل، وأن الطائرات الإسرائيلية تقوم بقصف مواقع عسكرية في مصر، هذا ما فهمته فرحت أضرب أخماساً لأسداس، والحافلة تواصل المسير صعوداً في الجبال: هل حقاً بدأت الحرب؟ ماذا عليّ أن أفعل؟ هل أواصل الذهاب إلى الجامعة العبرية وأقدم طلب الالتحاق إلى قسم اللغة العربية، أم استقل الحافلة الأولى التي ستغادر بالاتجاه المعاكس إلى تل أبيب!!

كانت تشدني قوتان واحدة جاذبة وأخرى طاردة، وما أن استقر بي الحال خلال الساعة التي خلتها عقداً من الزمان، وتوقفت الحافلة في المحطة المركزية حتى أسرعت وصعدت الحافلة الأخرى لأعود إلى تل أبيب..!.

وهناك رأيت الناس في هرج ومرج، والحافلات معطلة ومركونة ومهجورة، وبينما أنا ماش على غير هدى شارد الذهن مذهولاً ربّتَ على كتفي رجل وقال لي: الأخ عربي!، فرددت من فوري: نعم! وكأنني كنت أُصلي لله أن أسمع صوتاً عربياً! فقال الرجل: اتبعني، فتبعته تساورني الظنون، ولا أدري ما أقول، فأوصلني إلى ساحة تقع إلى الشرق من المحطة المركزية، فإذا بي أشاهد بين الجموع واحداً يحمل مقصاً، وآخر يحمل طورية، وثالثاً يحمل كريكاً، ومنهم من كان يحمل العصي والفؤوس! هؤلاء أحاطوا بالقطيع، كأنهم شعروا بالتهديد، ورغم أنه ساد جو مشوب بالخوف إلا أن الشباب ما تخلوا عن الرجولة، وراح بعضهم يخاطب الحشود قائلاً: 'اتصلنا بأم الفحم، طلعت سيارات من هناك حتى ينقلونا، لا تخافوا إن هاجمونا سنصدهم بإذن الله!'، ومرت ساعات حسبتها دهراً.. وفي تمام الساعة الثانية وصلت سيارات شحن كبيرة إلى المحطة المركزية في تل أبيب، فقام الشباب من أبناء أم الفحم بتنظيم الصعود إلى سيارات، فكدسونا كالفسيخ، وما هي إلا دقائق حتى كانت سيارات الفحامنة تمخر بنا عباب السهل الساحلي، فقط ساعتها شعرت بالطمأنينة والنشوة، وفي الساعة الثالثة والنصف وصلت السيارة إلى مدخل عرعره، فطلبوا مني النزول لأنهم لا يستطيعون التأخر عن الأهل والأحباب، فاضطرت إلى أن أمشي على الأقدام، وقد فعلت ذلك مسروراً رغم الإعاقة الدائمة التي كانت في رجلي اليسرى، وما أن وصلت قبيل المغيب إلى قريب مدرسة السلام حتى شاهدت أمي الحاجة أم أحمد تهرول نحوي وتحتضنني وهي تبكي، ثم تسألني: 'أين أخوك محمود؟ لقد سافروا إلى القدس ليحضروك...'!؟

فإذا برتل من المدرعات ومن حاملات الجنود يخترق شارع البيادر المؤدي إلى عين السهلي للوصول إلى الحدود. لم نعد إلى بيتنا لأنه كان في طرف البلد، فأخذني والدي الحاج أبو أحمد إلى دار سيدي سالم. تلك الدار كانت واسعة، فيها مغارة تتسع لجمهور، وبجوارها بيت معقود، وفوقها دور؛ وما أن وصلت إلى هناك حتى رأيت جموعاً من الأطفال والنساء مكدسين في داخل المغارة وساحتها ورجالاً فوقها. لا زلت أذكرهم بسيماهم، معظمهم من أبناء عشيرتي وبعض جيرانهم، لقد انتابهم الخوف والفزع مما يخبئه لهم المجهول، وهم على ما فعل الجيش في مجزرة كفر قاسم شهود!، وعلا ضجيج الرضع والصغار، وراح الكل في ترقب وانتظار، وعاد أخي محمود وصحبه الكرام، وحدثنا كيف انهمر عليهم الرصاص، ولم يجدوا لي آثار، فعادوا بالتندر الأدراج، ولما جن الليل استلقيت على طراحة، لآخذ قسطاً من الراحة ويبدو أنني غفوت من شدة التعب..، فإذا بأزيز يشق الجو شقاً، وصاعقة تدك الأرض دكاً، فهببت من نومي مذعوراً،  وقد علا الضجيج والصراخ ظناً منهم أن قد أتاهم مكروه، فإذا بطائرة عليها العلم العراقي تخترق الأجواء وتختفي وراء جبل الخطاف، مَنْ اعتلى ظهور الدور أخبرونا أن طائرتين توجهتا نحو هضاب الروحا، فلما وصلتا فوق البرج في عاره، استدارت إحداها وضربت قوات عسكرية في سهل وادي عاره... وفجأة قرر والدي أن نعود إلى بيتنا في الباطن وليكن ما يكون!

وراح الكثيرون مثله يتبعثرون، ليبحثوا عن مغاور وكهوف في القمم والسفوح. نظفوها ووضعوا فيها الفراش الوفير وأدوات للنفخ والنفيخ والطبخ والطبيخ.

كان بيتنا يقوم على حاكورة جبلية، فأخذ إخوتي الفؤوس، وشرعوا في حفر خندق ليحمينا من الحرب الضروس، ولكنهم ما أن وصلوا إلى عمق شبر حتى وصلوا إلى الصخر، ولم يكن ما حفروه يصلح حتى لقبر، فعزفوا عن ذلك، فالأمور ليست مقلقة، فهذا مذيع صوت العرب المشهور أحمد سعيد يعلن كل ربع ساعة إن الجيش المصري يسقط الطائرات الإسرائيلية كالذباب، ويزداد عدد الطائرات الساقطة من 75 إلى 90، والارتفاع ملحوظ، والمدرعات الإسرائيلية التي اخترقت الحدود عند عين السهلي لا تعود، يبدو أننا بهذه الحرب سنفوز،  وأننا نحو الحسم النهائي سائرون... لم نصدق ما يبثه صوت إسرائيل بالعربية من أن سلاح الجو المصري قد دُمّر وهو على الأرض، وأن الجيش الإسرائيلي قد احتل يعبد وجنين وتدور معارك ضارية في القدس.

ولكن في اليوم الرابع بدأت تساورنا الشكوك بما يذيعه صوت العرب، فرحنا نستمع إلى هيئة الإذاعة البريطانية بالعربية (بي. بي. سي) التي أخذت تذيع أنباء الهزيمة التي تنتاب العرب، فعدنا إلى صوت إسرائيل فإذا به يطلب من سكان القرى العربية أن يضعوا فوق بيوتهم أعلاماً بيضاء، وبذلك ينجوا من عقاب الجيش الإسرائيلي.

لقد ظننا أن المقصود بذلك سكان القرى العربية الواقعة داخل الخط الأخضر، فسارع أهالي عرعره بتعليق قطع من القماش الأبيض فوق الدور والبيوت... وفي اليوم الخامس أعلن الناطق العسكري المصري أن جيش مصر قد انسحب إلى الخط الثاني، بينما ألقى الملك حسين خطابه الشهير الذي قال فيه: حاربوهم بأظافركم، حاربوهم بأسنانكم، حاربوهم بكل ما ملكتم من قوةّ..!

وفي اليوم السادس كانت القلوب معلقة بجمال عبد الناصر والأبصار مشدوهة نحو القاهرة انتظاراً لما سيقول. وفي العشاء نطق الرئيس بالحقيقة المرة معلناً تنحيه عن منصب الرئاسة... فاغرورقت العيون، ويبست الحلوق، وذوت القلوب، وهذه هي التي سمّاها العرب بنكسة وأسمتها إسرائيل بحرب الأيام الستة، وهي وكسة ما بعدها وكسة احتاجت إلى سنين لتصبح ركسة..!