(الجزء الثاني)

عبد الله تايه

نظرا لأهمية القصة القصيرة في ظل المناخ العام المقاوم للاحتلال وتصوير ما يحدث في الأرض المحتلة في الضفة والقطاع، ازداد عدد كتاب القصة القصيرة ونشطت حركة الطباعة والنشر، فبرزت ظاهرة المجموعات القصصية المشتركة مبكرا، ومنذ أواخر السبعينيات وهذا العمل الجماعي جاء لعدم وجود هيئات أو دور نشر تتبنى طباعة ونشر وتوزيع المطبوعات في هذه الفترة الزمنية، وللعامل المادي في ضيق ذات اليد لدى الكتاب وعدم تمكن بعضهم من نشر مجموعات مستقلة، والأهم، إبراز الطابع الجماعي لكتابة القصة وتنوعها وإطلاع القراء والباحثين داخل فلسطين وخارجها على نماذج من القصة لأكثر عدد ممكن من كتابها، حيث كان النشر الجماعي وسيلة وفكرة جادة وراقية للتعريف بكتاب القصة وجمع ما له علاقة بتنوع موضوعات وقدرات القص لديهم والأفكار الكثيرة التي لها علاقة بقضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ مما جعل هذه المطبوعة تعبر عن خريطة القصة القصيرة وتبيان التفاعل مع الواقع المرئي وغير المرئي لأفعال الاحتلال على الأرض، ويلاحظ الدارس والناقد والقارئ والمتابع لما صدر بعد ذلك من مجموعات مستقلة أو مشتركة، أن الهم الوطني صبغ الموضوعات التي تناولها القاصون مع تفاوت غير كبير في القدرات الفنية وأصول ومناهج وأساليب القص وفنيتها، فتلك هي البدايات، ولاحقا منهم من استمر وطور وارتقى بأدواته ومنهم من انقطع لظروفه الخاصة، وترسخت أسماء لمبدعي هذا اللون الأدبي حيث كان لهم شرف المبادرة والمقاومة بالكتابة والقص الملتزم في ظل أحكام عسكرية إسرائيلية جائرة وقهرية.

تجارب قصصية مشتركة وجديدة: "27 قصة من الوطن المحتل"

صدرت هذه المجموعة القصصية المشتركة عام 1977، "27 قصة من الوطن المحتل"، كأول تجربة عن منشورات آفاق، وقدم لها الأديب محمد البطراوي الذي كان من جيل الأفق الجديد، وضمت المجموعة أربع عشرة قصة لأربعة عشر كاتبا من الضفة والقطاع شارك كل منهم بقصتين وهم حسب ترتيب ورود قصصهم في المجموعة :إبراهيم العلم، جمال بنورة، حمدي الكحلوت، زكي العيلة، زياد حواري، سامي الكيلاني، صبحي حمدان، علي لبد، عبدالله تايه، غريب عسقلاني، فضل الريماوي، محمد أيوب، محمد كمال جبر، مفيد دويكات، وقد أعيد طباعة ونشر المجموعة في بيروت عن مجلة فلسطين الثورة.

وقد ركزت القصص على الموضوعات الاجتماعية والتمسك بالأرض والتراث، وقضايا العمال في الخط الأخضر، والسجن والاعتقال ومقاومة المحتل، وظروف المخيمات ومصادرة الأرض وهدم البيوت والقتل والاستشهاد والمقاومة بمختلف ألوانها، ومظاهرات الطلاب وصعوبة التنقل وحظر التجوال والأحكام العسكرية ومعاملة الأسرى غير الإنسانية، ووصف المعتقلات والزنازين وأقبية التحقيق وجمع الشمل وتصاريح الخروج وعلاقات الناس في المخيم وألوان القهر التي تعرض لها العمال واستغلالهم في ظروف غير إنسانية داخل الخط الأخضر، وقضايا عديدة أظهرتها هذه القصص في التزام قوي بالحرية وفضح ادعاءات الاحتلال وإهماله المتعمد لكل ظروف الحياة في الأرض المحتلة، خاصة في المخيمات، ليجبر الناس على ترك بلادهم والنزوح عنها.

المجموعة المشتركة الثانية "قصص قصيرة من الوطن المحتل – القدس"، 1981، صدرت عن جمعية الملتقى الفكري في القدس وقدم لها الشاعر علي الخليلي، تضمنت المجموعة قصتين لكل قاص وترتبت حسب الأبجدية لأسماء الكتاب فكانت قصتي ("القرار" و"مؤتمر فعاليات القرية يصدر قرارا هاما") لأكرم هنية، وجمال بنورة له قصتان ("الحصار" و"أمومة")، وقصة (الجيل لا يأتي) و (سلال من لحم) للقاص زكي العيلة، وسامي الكيلاني له (التليفون لا ينفع) و(شعب)، والقاص صبحي حمدان (لحظات من حياة عاشق فلسطيني) و (التناسخ)، أما القاص عادل الأسطة فكان له (البوصلة) و (البحث عن المدينة)، والقاص عبدالله تايه له قصة (الدوائر برتقالية) و (الحجرة رقم 3)، وغريب عسقلاني (زائر الفجر) و (العودة والحضور المتواصل)، وفضل الريماوي (النجم الأحمر) و (بياع السوس)، والقاص محمد أيوب (الخيمة) و (هدية من عامل إلى معلمة)، والقاص محمد كمال جبر له قصة واحدة (يوم ليس كالأيام)، ومفيد دويكات له (نفس الورقة) و (سمك).

مجموعة مشتركة أخرى: تجربة فنية متطورة

والدارس لقصص المجموعة الثانية المشتركة يلاحظ تطورا فنيا لكتاب القصة الذين أصبحت أسماؤهم معروفة في كتابة القصة القصيرة، ومنهم من كان قبل المجموعة قد أصدر مجموعته القصصية الخاصة به، وقد أتى هذا النمط من النشر القصصي الجماعي بعد غياب رواد القصة القصيرة خارج فلسطين بعد 1967 إلى منافي عديدة، فكانت تجربة المجموعة المشتركة الأولى وهذه المجموعة تجربتين رائدتين في مجال النشر وتتناول الموضوعات التي استجدت على الساحة الفلسطينية، ويلاحظ القارئ والدارس أن هذه القصص جمعتها فكرة تناول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الأرض المحتلة، ومناقشتها كل حسب ثقافته ووعيه واتجاهاته، وقد تضمنت القصص نماذجا عديدة للإنسان الفلسطيني في حياته وأعماله ومقاومته للاحتلال بشتى صور المقاومة، ومن القاموس اللغوي لهذه القصص مفردات كثيرة تنبئ عما وصل إليه الحال تحت سطوة الاحتلال والسجن والفورة والشهيد والعامل الفلسطيني وعلاقته بـ"المناهيل" الإسرائيلي في العمل، والوعي الجمعي للتخلص من الاحتلال وصور الفقراء والبؤس في المخيمات والرجوع بالذاكرة إلى القرى والبلدات التي طرد منها الأهل بالقوة عام النكبة، وبذلك تكون المجموعة الثانية وسابقتها قد وضعت للدارس والناقد ما يمكنه من الاطلاع على التجربة الفنية المتطورة للقصة القصيرة وموضوعاتها بما وصل إلى سجل حافل بالأحداث في الأراضي المحتلة والممارسات اليومية للاحتلال في شتى نواحي الحياة الفلسطينية وتفاصيلها، وقد عدت هاتان المجموعتان مرآة للحال الذي يعيش فيه الفلسطينيون تحت القوانين والأوامر العسكرية ونهب الأرض وتنامي المستوطنات والأحكام التعسفية لوأد طموح شعب يسعى للحرية.

وبعد هاتين التجربتين بسنوات صدر كتاب "المهرجان الوطني الأول للأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة" عن جمعية الملتقى الفكري العربي في القدس سنة 1981، عن دائرة الكتاب في الملتقى، وتضمن الكتاب مجموعة من القصص القصيرة لمجموعة من الكتاب تناولوا جوانبا عديدة من الحياة تحت الاحتلال والعلاقات الاجتماعية، وقد تضمن كتاب المهرجان ثماني عشرة قصة، وقد ظهرت الأسماء الأولى لكتاب القصة في المجموعتين المشتركتين السابقتين مع أسماء أخرى جديدة وهم ( يعقوب الأطرش، عفيف صالح سالم، سامية فارس، جميل الحوساني، محمد زحايكة، أسامة العيسة، حليمة جوهر، يوسف العبيدي، عبدالكريم قرمان، ماهر عودة) وكانت عناوين قصصهم حسب ترتيب الأسماء (السارق، يونس الخليلي، عزة وعمر، حكاية حمدان، البراغيث تغزو جزيرة القمر، ضياع على أعتاب المدينة، ما العمل؟، من الجنوب قادم، الليل، كل عام وأنتم بخير).

القصة القصيرة والتعبير عن حالة الانتفاضة

وفي العام 1991، عن منشورات اتحاد الكتاب، صدر كتاب مشترك قدم له الكاتب عزت الغزاوي، تضمن نصوصا شعرية ودراسات نقدية وعددا من القصص القصيرة التي كانت في معظمها تعبر عن الحالة الشعبية للانتفاضة الكبرى التي بدأت سنة 1987 واستمرت حتى قدوم السلطة الوطنية 1994، وهذه النماذج القصصية تناولت شخصيات وأحداث وموضوعات ثورة شعب في وجه الاحتلال في أسلوب وتقنيات اهتمت بأن تقدم القصص بشكل فني بعيدا عن الصراخ السياسي والشعارات، وتختار النماذج الإنسانية القادرة على الوصول إلى اهتمام كل من يساند حركة التحرر وهو يرى كيف تدور الأحداث على أرض فلسطين في إصرار شعب على نيل حريته، وضم الكتاب نصوص لواحد وعشرين قاصا مع ملاحظة المدلولات القريبة والبعيدة في مناقشة أفكار وتجليات الانتفاضة، فوليام فوسكرجيان له قصة (أبو الفرج يطلق ساقيه للريح)، وجمال القواسمي (الجندي المعلوم)، ود. سمير شحادة (الاجتياز)، ومحمد خليل عليان (الحمامة)، وسامي الكيلاني (جمع الأسرى جمع)، ومحمود عفانة (الخائن)، وربحي الشوبكي (شوشانه)، وعبدالكريم سمارة (مجلس العموم)، ويعقوب الأطرش (السقوط)، وحسن أبو لبدة (ولادة حادة)، ونائلة هاشم صبري (انتفاضة)، ومحمد كمال جبر (5 قروش فلسطينية)، وإبراهيم جوهر (المتطوعون)، ومحمد أيوب (الورم)، وجمال بنورة (أم الشهيد)، وعبدالله تايه (الأشجار تموت واقفة)، وعمر حمش (أزهار إلى مقبرة المخيم)، وزكي العيلة (حيطان من دم)، وصبحي شحروري (سلة التين)، ومحمود شقير (في الطريق إلى البلدة القديمة)، وعزت الغزاوي (السمال).

يلاحظ الدارس والقارئ المتابع، ظهور أسماء جديدة في كتابة القصة، والعناوين تدل على طبيعة المواضيع التي تناولها القاصون، ولا بد من الإشارة إلى أن عددا من هذه القصص ناقش قضية السجون وأوضاع الأسرى وعلاقة المحتل والمقاوم مع المحتل والأرض، خاصة أن معظم الكتاب مروا بتجربة السجن حيث سجنوا لفترات متفاوتة، في هذه القصص يظهر عبق الانتفاضة بجروحها وصمود أهلها في كل جملة وعبارة وعنوان في اعتناء واضح بالأسس الفنية والجمالية للقص واستجلاب نماذج إنسانية ذات أبعاد خارجية وجوانية تسير من خلال السرد الفني إلى غايات الفكرة والمضمون، في عناية باللغة وأساليب القص وفنون الشكل والسرد واللغة واختيار العناوين الدالة الموحية.

اقرأ/ي أيضًا | القصة القصيرة في فلسطين المحتلة بعد هزيمة حزيران


*عبد الله تايه كاتب وناقد مقيم في غزة