يبدو النجاة من جحيم حرب أهلية أو صراع مسلح نهاية سعيدة، لكن في ذات الوقت تكون بداية جديدة لطريق غير معلوم الملامح، ومن هنا بدأت الكاتبة والطبيبة السورية نغم حيدر نسج أحدث رواياتها "أعياد الشتاء".

تتناول الرواية المؤلفة من 144 صفحة، والصادرة عن دار هاشيت أنطوان في بيروت، قصة فتاتين اسمهما شهيناز وراوية اللتين جمعتهما غرفة ضيقة في أحد بلدان اللجوء الباردة، وتقصّ علينا تفاصيل حياتهما الدقيقة والمتناقضة حد الانقسام وتكشف ندوب الرحيل وقساوة اللجوء.

تذهب الكاتبة إلى أبعد من علاقة بطلتيها بجسديهما، وإلى أبعد من حب شهيناز للضابط العنيف قتيبة وتناقض شعورها نحوه بعدما نفاها، إذ تلامس مأساة اللجوء والانسلاخ والندوب المعششة في النفس.

وتتطرق الكاتبة بأسوب أدبي جريء إلى العلاقة السادية بين البطلة شهيناز والضابط قتيبة، والعلاقة المبهمة بين راوية وأبيها. وبإمكاننا تسميتها قصة سياسية من دون أن تتطرق إلى السياسة.

تغوص الكاتبة التي ولدت في دمشق عام 1987 وتقيم حاليا بألمانيا، في تفاصيل الشخصيات المركبة وتتنقل بين الأزمنة والأماكن لتحكي عن العيش في الماضي ورفضه في الوقت ذاته، وكيف تتحكم الحياة السابقة بكل ما هو حاضر ومستقبلي رغم بحث شخصياتها عن الخلاص في بلد جديد ومكان جديد.

وقالت حيدر متطرقة للربط بين الواقع الذي عاشته قبل سنوات في سوريا وأحداث الرواية، في مقابلة لها مع "رويترز" إنها "لم أتوقع فعلا أن يربكني تغيير المكان إلى هذا الحد، يتعلق الأمر بما تركهُ المرء خلفه، إذ أننا غادرنا تاركين حطاما، دمارا مهولا كأنه قيامة".

وأضافت "شعرت أن حياتي السابقة جزء من هذا الدمار، تلك السنوات كأنها خدعة، حياة سابقة كأنها محض أوهام، أصبحت كل الذكريات والصور التي تتواتر على ذهني تشبه ما آلت إليه بعدها، خراب كبير".

وتابعت قائلة "تغيير المكان القسري هذا أدخلني في حالة من الاضطراب، إذ أنه ترتب علي أن أكون في البلد الجديد إنسانة جديدة أيضا وهذا ما لم أجده، قررت أن أكتب عن هذا الاضطراب، اختلال الزمن مع تغيير المكان".

وعن بطلتي الرواية قالت "الأمر شبيه بأن تلتصق بيد المرء عنوة ساعة تتحرك عقارِبها إلى الوراء، وهكذا تحدثت عن امرأتين ما زالت حيواتهما السابقة تتحكم بكل ما يحصل معهما في المستقبل، سواء أدركتا ذلك أم لم تدركاه".

وأضافت "عادة ما أُشغّل خيالي أثناء الكتابة لأنني مقتنعة أن الذهن قادر على خلق واقع حسي. أمام النص أكون على حافة رفيعة جدا وشديدة الحدة، بين الواقع الصرف والخيال الجامح وأحاول دوماً ألا أهوي في أحد هذين المسارين".

وتابعت قائلة "لا يمكنني الإجابة إن كانت شخصياتي حقيقة أم خيالا، لقد التقيتها فعلا ولكن ليس بأكملها، لقد استوحيت من كل شخص صادفته شيئاً، لباس من هُنا، تصفيفة شعر من هُناك، مشية من إحداهن، طريقة تناول الطعام من أخرى، رددت بعدها هذا الدين على هيئة إنسان كامل".

ويبرز في سرد "أعياد الشتاء" المتماسك لغة شاعرية هادئة وسلسة تدفع القارئ إلى تتبع الرواية دون ملل حتى النهاية.

وتقول حيدر عن صياغتها للعمل "أتعامل مع اللغة برهافة شديدة كأنها ريشة طائر، أعاين كل جملة وأقلبها لأوطد علاقتي مع الحرف، أريد دوما للغة أن تتنفس مع الشخصيات، هناك مشاعر جمة تنشأ بيني وبين شخصياتي لا يمكن إلا للغة شديدة الخصوصية أن تترجمها".

واستغرقت كتابة "أعياد الشتاء" وقتا طويلا وصراعا مع النفس حتى تستطيع مؤلفتها صياغة عمل أدبي بعيد عن الانفعالات والتحيزات.

وقالت "استغرقت وقتا طويلا في الكتابة إذ أنني أردت نصا يحكي عن الحدث بطريقة مختلفة، دربت قلمي على أن يتخلص من انفعالاته، حاولت أن أتجرد من جميع آلامي وخساراتي وأتفرغ لآلام هاتين الشخصيتين شهيناز وراوية فقط".

وأضافت "كانت هذه إحدى أصعب المهام التي واجهتني، حتى أن إيجاد سكون تام يناسب هذا التجرد كان وظيفة صعبة، لا يمكنني القول إن الرواية تحكي عن اللجوء فقط، لقد كان اللجوء فيها رمزا ودلالة، لدي قناعة بأن اللجوء شعور يتلبس المرء لا علاقة له بالمستندات والأختام والمعاملات ولا ببلد دون آخر، بل يمتد لأبعد من هذا، إنه يقارب العيش فوق أرضٍ مشبعة بالحصى والحجارة المُدببة وفي جو مُغبر قاتم".

وختمت قائلة "يمكن لنا أن نسير ولكن بألمٍ مُضاعف، يمكن لنا استنشاق الهواء ولكن بصعوبة كما لو أننا على حافة الاختناق. حملنا صخورنا وغبارنا معنا أينما حللنا".

اقرأ/ي أيضًا | السويد: لاجئون سوريون يصوتون للمرة الأولى في حياتهم