*منذ عام 2009 هناك محاولة لـ"دمج" شرقي القدس وتذويبها في المدينة الإسرائيلية المتشكلة

*محاولات الاستيطان التي تطال قلب المدينة تترافق مع "تحييد" الأحياء التي توصف بـ"القنابل الديمغرافية"

* القدس مستهدفة بصفتها قلب الدولة الفلسطينية العتيدة وعاصمتها 


قد يرى البعض أن قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، هو تحصيل حاصل لواقع ناجز على الأرض، تمكنت إسرائيل من خلقه على مدى 70 عاما، فبعد أن نجحت بتهويد غربي القدس بعد نكبة 1948، قامت بعد احتلال شطرها الشرقي ببناء المستوطنات حجرا حجرا، كما استقدمت إليها المستوطنين مستوطنا مستوطنا، تحت أنظار العالم والعرب والمسلمين والفلسطينيين، حتى زرعت 210 آلاف مستوطن يسكنون في 58 ألف وحدة استيطانية يحتويها 19 حيا استيطانيا، تقع على أراضي شرقي القدس المحتلة منذ عام 1967، وبذلك أصبحت تسيطر على 87% من مساحة المدينة بشطريها الشرقي والغربي.

مخطط "تهويد القدس" بدأ مباشرة مع احتلال 1967، وقبل أن تضع الحرب أوزارها في (10 حزيران/ يونيو 1967)، باشرت إسرائيل بعملية التطهير العرقي في حارة المغاربة التي مسحتها عن الوجود وهجرت سكانها لإحلال مستوطنين يهود مكانهم. وفي 27 حزيران/ يونيو من نفس العام، أقرت الحكومة الإسرائيلية قانون ضم شرقي القدس بمساحة 70 ألف دونم، علما بأن مساحتها الفعلية بلغت 6 آلاف دونم، حيث شمل قرار الضم 14 قرية فلسطينية أخرى، فيما صودرت أراضي 29 قرية إضافية، وبذلك ضاعفت إسرائيل مساحة القدس التي احتلتها عام 1948، بثلاث مرات.

وبدأت الإستراتيجية الأولى للاستيطان في شرقي القدس، عبر ربطها بغربي القدس، بعد المصادرة المباشرة لحوالي 3345 دونمًا، وبدأت جرافات الاحتلال بالعمل على عجل لإقامة الأحياء الاستيطانية في منطقة جبل المشارف، لوضع ما أطلق عليها عملية "توحيد المدينة" موضع التنفيذ، حيث أقيمت اولا مستوطنات "القفل" (التي تقفل على شرقي القدس) "رمات إشكول" و"جفعاة تسارفتيت"، ولاحقا مستوطنات "الحزام": "بسجات زئيف"،"نافيه يعكوف" و"جيلو"، جنبا إلى جنب مع الاستيطان داخل وفي قلب البلدة القديمة والأحياء الفلسطينية.

ولم تُغير حالة الانفراج السياسي شيئا من المخطط الإسرائيلي تجاه القدس، حيث بنيت مستوطنة "جبل أبو غنيم" في أوج "عملية السلام" عام 1996، كما أُقيمت البؤر الاستيطانية الضخمة في سلوان وجبل المكبر ورأس العامود وغيرها، بعد اتفاقية أوسلو.

مخطط تهويد المدينة اعتمد التطهير العرقي للمقدسيين الذين صار يتوجب عليهم، وفقا لقانون الضم، إثبات إقامتهم في المدينة كشرط للبقاء فيها، ناهيك عن معاناتهم من سياسات العزل والحصار والجدار وغيرها من الإجراءات التي استهدفت تقليص وتهميش الوجود الفلسطيني في المدينة. ومن الطبيعي أن تؤدي سياسة التعزيز والتهميش التي وظفت لها الحكومات الإسرائيلية مبالغ طائلة إلى تحويل القدس المدينة الأكبر في إسرائيل، متجاوزة بذلك تل أبيب، بعد أ فاق عدد سكانها 800 ألف نسمة، أقل من ثلثهم فقط من الفلسطينيين.

حول القدس ومخططات الاستيطان والتهويد، ومحاولات تغيير الطابع التاريخي للمدينة المقدسة وتغيير وهويتها العربية الفلسطينية، حاور موقع "عرب 48" الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع السياسي، ومديرة مركز "مدار" الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، د. هنيدة غانم.

"عرب 48": هناك من يقول إن قرار ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل هو تحصيل حاصل واعتراف بالواقع الناجز على الأرض، حيث نجحت إسرائيل في ترجمة مخططات تهويد المدينة وتحويل البلدة القديمة إلى إحدى حاراتها والأحياء الفلسطينية المحيطة بها إلى هوامش فقر؟

د. هنيدة غانم

د. غانم: "من الواضح تماما أنه منذ الانتفاضة الثانية تعرضت القدس لمحاولة اجتثاث بالقوة من المشهد الفلسطيني، وذلك في إطار تصعيد غير مسبوق لسياسة تهويد المدينة ونزع الطابع الفلسطيني عنها والتي بدأت بعد حرب 1967 مباشرة، وأقصد شرقي القدس".

"ومن المعروف أن سياسة التهويد تلك مرت بعدة مراحل، كانت المرحلة الأولى منها نقل أكبر عدد من المستوطنين اليهود إلى القدس وإقامة ما يسمى بمستوطنات الإقفال، وزرع مستوطنات داخل المدينة وإقامة حزام استيطاني حوله، وذلك بهدف واضح هو تهويد القدس ونزع الطابع الفلسطيني الأصلاني عنها".

"وفي هذا السياق، جاء قرار الضم الذي اتُخذ بعد أيام من احتلال 67، والذي، عدا عن أنه وفر الغطاء القانوني لهذا المخطط، فإنه وفر مخزون هائل من الأراضي، كما تعامل مع سكان المدينة الفلسطينيين بصفة غرباء ومنحهم صفة "مقيمين دائمين" وفقا لـ"قانون الغرباء" من عام 1952، وهنا نرى محاولة أصلنة المستعمرين استنادا إلى حيّز المواطنة الإسرائيلية واعتبار السكان الأصليين وكأنهم هم من جاءوا إلى إسرائيل وليس إسرائيل هي التي جاءت إليهم".

وبهذا المعنى تعاملت إسرائيل مع المقدسيين كـ"مارقين"، يتوجب عليهم دائما إثبات إقامتهم في المدينة كي يتمكنوا من البقاء في بيوتهم، وهو وضع جعل المقدسيين "مهووسين" بتجميع إيصالات الكهرباء والمياه وضريبة المنازل وغيرها من الوثائق، التي بدونها سيكونون عرضة لسحب هوياتهم المقدسية والقذف بهم إلى خارج حدود المدينة، ومعلوم أن إسرائيل نجحت بهذه الطريقة في طرد عشرات آلاف المقدسيين من مدينتهم".

"عرب 48": عودة إلى ما وصفته بعملية "الاجتثاث"، والتي مثلت تحولا في السياسة الاستيطانية الإسرائيلية وتصعيدا في عملية تهويدها...

د. غانم: "يلاحظ أنه منذ عام 2009 (صعود نتنياهو إلى سدة الحكم) تحولت سياسة إهمال الحيز، التي ميزت السياسة الإسرائيلية تجاه الأحياء الفلسطينية للمدينة، إلى عملية مستجدة لـ"دمج" شرق القدس وتذويبها ضمن المشهد الإسرائيلي، وقد تمثل ذلك بمجموعة من المخططات المتسارعة، منها القطار السريع الذي يربط مستوطنة "بسجات زئيف" بغربي القدس ويمر من وسط شعفاط، ومخطط "ماميلا" الذي يربط غربي القدس بالبلدة القديمة، بأسوارها وبواباتها، هذا ناهيك عن احتلال بيوت الشيخ جراح والاستيطان داخلها والمحاولة المنهجية لتهويد حي سلوان الملاصق للمسجد الأقصى ومحاولة إقامة ما يسمونه بـ"عير دافيد" وغيرها من المخططات التي تدخل إلى صلب المشهد الفلسطيني وتحاول تهويده".

"يترافق ذلك مع مقترحات إخراج الكتل السكانية الكبيرة التي يصفونها بـ"بالقنابل الديمغرافية"، والتي تتراوح بين إخراج 60 ألف فلسطيني إلى 160 ألف فلسطيني خارج الحدود البلدية للقدس، وذلك لتعديل التوازن الديمغرافي للمدينة، وفي هذا الإطار تندرج مخططات لأقطاب من حزب (العمل)، مثل اقتراح حاييم رامون. هي شبكة متداخلة من السياسات الاستعمارية؛ لا يُقتصر على التهويد، بمعنى إسباغ الطابع اليهودي على المدينة، بل هي عملية تطهير عرقي تشمل محو المشهد الفلسطيني وإثارة وإحلال المشهد اليهودي الصهيوني مكانه".

"عرب 48": من الواضح أن عملية الاستهداف الإسرائيلية تتعدى القدس نفسها، وأن استهداف المدينة يتصل بإحباط كفاح الشعب الفلسطيني من أجل تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة التي تقع القدس في قلبها...

د. غانم: "القدس هي عقدة كل السياسة الإسرائيلية، فيها تتشابك وتلتقي جميع تفرعاتها وروافدها، وهي تكثيف لسياسة فرض الأمر الواقع الإسرائيلية بقوة الدبابة، والتي تقلب مقولة كلاوزوفيتش الشهيرة، لتصبح السياسة عندها هي استمرار للحرب وليس العكس".

"ومن الواضح أن إسرائيل تسعى من خلال تهويد القدس ومحاولات ضم "معاليه أدوميم" والبناء في منطقة "E1"، إلى فصل شمال الضفة عن جنوبها ومنع إقامة دولة فلسطينية ذات تتابع جغرافي، ليتسنى لها تنفيذ مخططها في منح الفلسطينيين حكما ذاتيا مقطع الأوصال أو دولة ناقصة، كما يقول نتنياهو، أو بنتستونات، ومن الجدير التذكير في هذا السياق أن إسرائيل تشكل نموذجا هو أسوأ بكثير من جنوب أفريقيا، لأنه يدمج بين الأبرتهايد والفصل العنصري وبين الاستعمار الاستيطاني وبين الاحتلال بوصفه الأداة العسكرية لحسم الأمور على الأرض، إنه نموذج وظيفي مركب لتثبيت يهودية الدولة بعد نزع البعد الفلسطيني عن المشهد وهو رديف لعملية إبادة شعب ‘جينوسايد‘".

اقرأ/ي أيضًا | مظاهرات ومواجهات في كل الأراضي الفلسطينية احتجاجا على إعلان ترامب