قطاعٌ معزول عن العالم في ظلّ الحصار المستمر، والذي تجاوز عامه الحادي عشر. معابر مغلقة تفتح وفقًا لتفاهمات سياسية عادة ما يفرضها الاحتلال. "ظروف استثنائية" لا تُعتبر الأوضاع الإنسانية من ضمنها، تدفع السلطات المصرية إلى فتح معبر رفح وإغلاقه. المرضى في غزة هم الفئة الأكثر معاناة. تصاريح تُمنح بالقطّارة من السلطات الإسرائيلية للسماح لبعض الحالات بالسفر لتلقي العلاج في مستشفيات الداخل والضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس، وفي كل مرة ينقطع الأمل، وتتدهور حالتهم الصحية بصورة متواصلة.

ووفقا لمعطيات منظمة الصحة العالمية فإن هناك ارتفاعًا طفيفًا في عدد التصاريح التي أصدرتها سلطات الاحتلال الإسرائيلية للفلسطينيين الساعين إلى العلاج الطبي خارج القطاع المُحاصَر منذ 11 عامًا، حيث وافقت السلطات الإسرائيلية على 58% فقط من طلبات التصاريح، وتم رفض 42% من طلبات التصاريح لدواعٍ طبية، خلال العام الجاري، مقارنة بـ54% في العام الماضي.

تنوعت الأمراض في قطاع غزة، حيث حدّ الحصار الإسرائيلي وانقسام الفصائل الفلسطينية، من قدرة القطاع الصحي على مواجهة بعض الأمراض النادرة أو الكشف المبكر عنها وتشخيصها، وبالتالي علاجها، سواء كان ذلك بسبب ضعف الطواقم الطبية البشرية في بعض التخصصات النادرة، أو نقص الأدوية بسبب الانقسام وفرض السلطة عقوبات على القطاع.

أمراض نادرة... وتصاريح أكثر ندرة

مسك الباز

وفي حديث أجراه "عرب 48" مع أهالي القطاع، نقلوا لنا توجُّسهم من قلة الحيلة ومخاوفهم من التأخر في الكشف المبكر عن بعض الأمراض كمرض السرطان، بالإضافة إلى نقص الأجهزة اللازمة والأدوية التي يحظر الاحتلال الإسرائيلي دخولها، ذلك بالإضافة إلى العدد المحدود من الأطباء المتخصصين وعدم تمكنهم من السفر لمواكبة التطورات العلمية والأبحاث الحديثة لمكافحة أمراض الأورام السرطانية، وغيرها من الأمراض، ما يعطلهم عن اكتساب علوم ومهارات وخبرات جديدة، كحالة الطفلة مسك الباز التي تبلغُ من العمر 7 أعوام، وتُعاني من مرضٍ نادر أصاب الكلى، ولا يوجد له علاج في القطاع.

 والد الطفلة مسك، محمد الباز، قال في حديثٍ لـ"عرب 48" إن "مسك مصابة بمرض في الدم يكوّن ما يعرف شعبيًا في غزة ‘حصاوي الصوان‘ (حصوة قاسية تتكون من الأملاح التي تترسب في الدم وبالتالي في الكلى ولا تتفتت في مراحلها المتقدّمة إلا بعملية جراحية بعد أن تعجز المضادات الحيوية عن علاجها المتوفر في المستشفيات الإسرائيلية".

وأكد أن "آخر تصريح تمت الموافقة عليه لمعالجة مسك في المستشفيات الإسرائيلية كان في شهر نيسان/ أبريل 2016، وبعدها تم رفض كل طلبات التصاريح التي تقدمنا بها بشكل نهائي"، وأضاف أنه "حاولنا كثيرا ولكن دون جدوى، حالة مسك تزداد سوءًا كل يوم، وعلاجها غير متوفر في القطاع". 

وتابع الباز بلهجته المحلية: "نجيب الأدوية من ألمانيا (كابتومير) والهند (بوتاسيوم ستريت) وبنعالجها على حسابنا الشخصي، لا يوجد إمكانات في مستشفى الشفاء".

وأوضح لـ"عرب 48" أن "في القطاع هناك 15 حالة تم تشخيصها بأنها حالات مشابهة لمسك، لا يوجد أدوية لعلاج كل هذه الحالات، ومنذ 5 أشهر وجهنا مناشدات كثيرة للرئيس ووزير الصحة ولم نتلق أي رد".

مسك كغيرها من الأطفال لا تعي ما يحدث حولها ولماذا تُمنع استكمال علاجها، وتُعاني بصمت، تنظر بين اللحظة والأخرى إلى كيس البول الخارجي الذي أصبح يرافقها أينما ذهبت بذهول تام.

السرطان في غزة... وحش قادم من الأساطير

مُجرّد سماع لفظة "مرض السرطان" كفيل بمهاجمة أهالي القطاع، ليرسم في مخيّلاتهم وحشًا يُريد أن يخطف من بينهم شخصًا عزيزًا، وكل من أُصيب بهذا المرض هو "بطل" سواء انتصر عليه أم لم يتمكن من هزيمته، كما عبّر أهالٍ من القطاع في حديثهم لـ"عرب 48".

تحولت حياة العديد من العائلات في غزة إلى جحيم بعد أن أُصيب أحد أفرادها بـ"المرض الخبيث" الذي يجلب معه الخوف والقلق من فقدان عزيز أو قريب في أية لحظة، حتى أن أهالي القطاع باتوا يتجنّبون ذكر اسم "السرطان" عند حديثهم عن المرض، وباتوا يسمونه بعدة تسميات من قبيل؛ "المرض العاطل" أو "المرض الخبيث" أو "إللي ما يتسمى" وغيرها من التسميات؛ حتّى أن البعض يخفي أن أحد أفراد أسرته، قد أُصيب بالمرض.

ويتسلل المرض فجأة إلى جسم الغزيين متجاوزًا الحصار، ويغيّر حياة المريض وحياة أسرته دون استئذان، ويحولها عنوة إلى كابوس فعليّ ليتكرّر المشهد: مريض يتنقل بحالة من التشتُّت والتّعب بين جدران المستشفى والغرف التي يتلقى بها جلسات الكيماوي.

معاناة متواصلة وانتصارات متجددة: العزيمة والصبر بداية الشفاء

ريما صباح

روَت ريما صباح  لـ"عرب 48" قصتها مع مرض السرطان قائلةً: "في عام 2012 ودون مقدمات فوجئت وأهلي بأن مرض سرطان الدم ‘اللوكيميا‘ قد اجتاح جسدي، فأسرع والدي بتقديم تحويلة طبية كي أذهب للعلاج في مستشفيات الداخل (في إشارة للأراضي الـ48)، ومن حسن حظي تم قبول تصريحي والتحويلة بسرعة، فتعالجت في مستشفى المطلع في القدس لمدة 4 شهور وتعافيت من المرض، وفي بداية عام 2017، قدمت تصريحًا كي أجري الفحوصات اللازمة للاطمئنان على صحتي، ولكي أتأكد أن انتشار الورم قد توقف تماما في جسدي، وتم قبول تصريحي بعد معاناة كبيرة، وذهبت إلى المستشفى مباشرة".

وتابعت صبّاح كلامها: "للأسف، كانت النتيجة مُفاجئةً ومُخالفةً للتوقُّعات، فقد عاد المرض بنسبة كبيرة جدا للانتشار في جسدي، ومنعني الأطباء من الخروج من المستشفى، كما أصرّ أهلي على ذلك بسبب خوفهم من عدم السماح لي بالخروج من غزة مرة أخرى، وفي هذه المرة، خرجت مع أختي جمانة، وقدم أبي وأمي عدة طلباتٍ كي يحصلوا على تصاريح ولكن في كل مرة كانت سلطات الاحتلال ترفضها، ومُنع والداي من زيارتنا لمدة 5 شهور، وبعدها تم قبول تصريح أمي فيما مُنع أبي من زيارتي".

وأضافت ريما بصوت حزين: "عندما كنت أرى أن كل المرضى ‘يتمتعون‘ برفقة أهلهم وأصحابهم إلّايَ بسبب المعبر، فقط كوننا من غزة، كنت أشعر بالحزن كثيرا، وبسبب هذا الشعور جلست في غرفة معتمة لمدة شهر كامل ولم أكلم أحدًا".

واستطردت صباح قائلةً: "هاي أسوء فترة في حياتي، تشتاقي لأصحابك وأهلك وأنت في أشد الحاجة لهم، من كثر اشتياقي طبعت صورهم وحطيتهم على حيط الغرفة بالمستشفى (...) كنت خايفة كثير أنه أتعالج داخل القطاع لعدم توفر كل الإمكانات، وكنت أحس بأن الموت قريب مني، ممكن في أي لحظة أتعب وما ألاقي علاج (...) فيوحدة من  المرات بعد رجعتي للقدس تعبت، وكان لازم يحقنوني بمسكن آلام قوي  لأرتاح، بس بالمستشفى مقدروش يوفرولي المسكّن وبعتوني لمستشفى الشفاء وبعدها رجعوني لمستشفى الرنتيسي، وفي الآخر ضليت بوجعي وما عملو إشي، وبعدني بتلقى العلاج".

معدل انتشار مرض السرطان في قطاع غزة وفق المعدل الإقليمي

وفي غزة، عادة ما يدور نقاش وجدل واسع النطاق عن زيادة نسب مرضى السرطان، سواء بسبب الحروب الإسرائيلية العدوانية المتكررة على غزة، واستخدام الاحتلال أسلحة محرمة دوليًا، تتسبب، بحسب ما أشار إليه المختصون، إلى انتشار الأورام السرطانية، في ظل عدم قدرة وزارة الصحة والنظام الصحي على تزويد الناس بمعلومات حقيقية عن مرض السرطان.

ونشر الناطق باسم وزارة الصحة في قطاع غزة، د. أشرف القدرة على صفحته في "تويتر" أن معدل انتشار مرض السرطان في قطاع غزة ما يزال وفق المعدل الإقليمي، حيث يبلغ معدل الإصابة في القطاع 84 حالة بين كل 100 ألف نسمة، وأن إجمالي الحالات التي يتم متابعتها في المستشفيات حاليًا نحو 6000 حالة منها 300 طفل، ويتم تسجيل من 100 إلى 120 حالة جديدة شهريًا.