سليمان أبو إرشيد

كان من الطبيعي أن تقوم إسرائيل، وهي الطرف المنتصر في الصراع الذي حسم لصالحها عام 1948، بفرض الحكم العسكري على المناطق التي تقع وفق 'قرار التقسيم' في حدود الدولة الفلسطينية، وعلى الجزء اليسير المتبقي فيها من السكان الفلسطينيين الناجين من التهجير الذي أصاب غالبية الشعب الفلسطيني في النكبة.

وشمل الحكم العسكري ثلاث مناطق هي:

منطقة الشمال: مركز الحكم في الناصرة وله 5 فروع مقرها ترشيحا، وتضم مجد الكروم، شفاعمرو، ماعونة والناصرة، وتبلغ مساحة المنطقة أكثر من مليون دونم ومعظم سكانها من العرب.

المنطقة الوسطى: وهي عبارة عن قطاع ضيق بموازاة الخط الأخضر، طوله 60 كم ويمتد من مفرق مجيدو حتى كفر قاسم، ويشمل 30 قرية من قرى المثلث بمساحة 320 ألف دونم وله فروع في عارة وباقة الغربية والطيبة. اعتبرت المنطقة الوسطى منطقة مغلقة وساد فيها نظام منع التجول الليلي مدة 14 عاما.

المنطقة الجنوبية: تشمل كل لواء الجنوب ومنطقة النقب، ولكن تطبيق النظام كان في المناطق التي يسكنها عرب النقب. مركز الحكم العسكري في بئر السبع وفروعه في شوفال، أم بطين وتل الملح.

وفرض الحكم العسكري أيضاً على المدن الساحلية اللد والرملة ويافا ومجدل عسقلان وعكا.

استند الحكم العسكري الى أنظمة الطوارئ الانتدابية من عام 1945 والتي تشمل 162 بندا، معتمدا خمسة بنود أساسية هي:

بند 109- منع التواجد في مناطق معينة.

بند 110- وضع الإنسان تحت رقابة الشرطة مع إمكانية نفيه أو نقل مكان سكناه.

بند 111- صلاحية الاعتقال الإداري.

بند 124- صلاحية فرض منع التجول.

بند 125- الإعلان عن مناطق مغلقة وتحديد إمكانية التنقل والحركة بها، منها وإليها.

أهداف الحكم العسكري:

يمكن تقسيم أهداف الحكم العسكري إلى مستويين، يتمثل الأول بمنع الفلسطينيين الذين ظلوا في المناطق التي وقعت تحت السيطرة الإسرائيلية، من الاتصال والتعاون مع إخوانهم من فلسطينيين وعرب في صراعهم مع الكيان الإسرائيلي، ويشمل ذلك:

- منع التسلل عبر الحدود، 'الاتصال بالعدو'، ونقل المعلومات والقيام بـ'أعمال تخريبية'.

- مراقبة تحركات وتنقل الفلسطينيين وفرض أنظمة الترخيص لتقييد إمكانيات التنقل.

ويتمثل الثاني باستكمال المخطط الصهيوني ضد المناطق المحتلة بأرضها وسكانها ويشمل:

- منع عودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم التي خصصت لاستيعاب المهاجرين اليهود و/أو إقامة معسكرات للجيش الإسرائيلي، ومنع العرب من الهجرة للقدس والنقب وإيلات.

- الحفاظ على الوضع القائم في المناطق التي تم احتلالها وعدم السماح بعودة أهلها النازحين إليها.

- تسهيل عملية توطين اليهود في أطراف البلاد (الجليل والنقب) ومنع الفلسطينيين من الاقتراب من المستوطنات.

الحكم العسكري كأداة سيطرة:

شكل الحكم العسكري أداة فعالة في ضبط الحدود الخارجية والداخلية ( بين القرى العربية والمستوطنات)، عبر ضبط حركة الفلسطينيين وتنقلاتهم وسهل لإسرائيل الاستيلاء على أملاك الغائبين الذين جرى تهجيرهم عام 1948 وعلى أملاك الغائبين الحاضرين، الذين نزحوا عن قراهم ومنعوا من العودة إليها رغم بقائهم داخل البلاد، وبالأرقام فقد تم الاستيلاء على 4،600،000 دونم، إضافة إلى ذلك صادرت إسرائيل في الخمسينيات والستينيات مناطق واسعة في الجليل والمثلث بلغت مساحتها 1،400،000 دونم، ناهيك عن مصادرة 700،000 دونم في النقب.

وخلال السنوات الـ18 من عمره، كان الحكم العسكري يتدخل في حياة المواطن  العربي من يوم ولادته حتى يوم وفاته، فهو صاحب القرار النهائي المتعلق بشؤون العمال  والفلاحين وأصحاب المهن  والتجار والمثقفين وصاحب الحل والربط في شؤون التعليم والخدمات الاجتماعية، وهو الوكيل على تسجيل السكان والولادات والوفيات وحتى الزواج، ناهيك عن شؤون الأراضي وتعيين المعلمين والموظفين وإقالتهم، كذلك يلعب دور الضابط في شؤون الأحزاب السياسية والنشاط السياسي والإجتماعي، وشؤون المجالس المحلية والبلدية.

ويتلخص رأي السكان العرب  بالحكم العسكري  بأنه أقيم من أجل تحقيق  ثلاثة أهداف : تسهيل عمليات مصادرة  الأراضي، والتدخل في الإنتخابات البرلمانية  للكنيست والمجالس البلدية لصالح حزب 'مباي' الحاكم وتابعيه العرب، ومنع نشوء وإقامة أية حركة سياسية مستقلة.

منع التنظيم السياسي والاستقلال الاقتصادي:

ويمكن تلخيص الأهداف الموجهة لسياسة إسرائيل (وهي أهداف ما زالت صالحة إلى اليوم) والذي يعتبر الحكم العسكري الأداة التنفيذية لها بالتالية:

- العمل على الحد من عدد ونسبة العرب الفلسطينيين في البلاد.

- اعتبار العرب قنبلة موقوتة وخطر أمني.

- مصادرة أراضي العرب وتجميعهم على أقل بقعة جغرافية والفصل الجغرافي بين تجمعاتهم.

- اعتماد سياسة فرق تسد ومنع نشوء قيادة عربية موحدة التجاهل العلني والفعلي للوجود العربي ومنع استقلالهم الاقتصادي.

كذلك نجح الحكم العسكري في تكريس سياسة التعاطي مع العرب في البلاد كملل وطوائف، ووضع العقبات امام صياغة هويتهم الجمعية وحقوقهم المشتركة، عبر قمع كافة أشكال التعبير السياسي عن هذه الهوية، وهذه الحقوق من خلال منع إقامة المنابر الإعلامية وإخراج التنظيمات الوطنية عن القانون ومصادرة، وقمع كافة أشكال النهوض الوطني، ومثال على ذلك نشرة 'الأرض' وحركة الأرض وقائمة الأرض للكنيست، وأوامر النفي والاقامات الاجبارية ضد الناشطين الوطنيين.

انقسام حول المبررات الأمنية للحكم العسكري:

في وقت انقسم الباحثون حول ضرورة فرض الحكم العسكري، في حينه، فقد اتفقوا حول عدم ضرورة استمراره مدة 18 عاما بعد الاحتلال، على مناطق اعتبرت رسميا جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل، وعلى سكان تم منحهم المواطنة الإسرائيلية ومارسوا حقهم في التصويت لبرلمانها، ويعتقد هؤلاء أن الحكم العسكري الذي تسلل إلى مختلف مجالات الحياة المدنية للفلسطينيين، تحول إلى أداة سيطرة سياسية واقتصادية واجتماعية على 'الأقلية العربية'، وأن أسباب استمراره طيلة 18 عاما لم تكن أمنية بحتة، خصوصا وأن خبراء كبار في المجالات الأمنية أوصوا بإلغائه، هذا ناهيك عن أن رئيس الحكومة آنذاك، دافيد بن غوريونـ وحزب 'مباي' الحاكم استخدموه لأغراض حزبية أيضا، وهو ما سيفسر معارضة حزب 'حيروت' بزعامة مناحيم بيغين لاستمرار الحكم العسكري.

الحكم العسكري كأداة بيد حزب السلطة:

عشية الانتخابات اهتم الحكم العسكري بتأليف قوائم انتخابية، تقوم على أساس طائفي أو عائلي من بين الأوساط المقبولة على حزب 'مباي' مقابل قمعه بقوة للقوائم غير المقبولة عليهم، وصل ذلك حد استخدام النفي عن البلد لمرشحين لا يروقون للحكم العسكري.

قاضي المحكمة العليا أشار لدى بحثه قضية إبعاد أعضاء مجلس من الطيرة، إلى أن أوامر النفي تثير شكوك جدية حول أهدافها، التي يبدو أنها تتمثل بإبعاد عضوي المجلس المذكورين من البلد، بهدف إضعاف وزن قائمتهما في انتخابات رئاسة المجلس. كذلك فإن نظام التصاريح جرى استغلاله لسحب تصاريح المشاركين في أحداث سياسية أو لمنع أناس من المشاركة في مهرجان سياسي أو اجتماع حزبي.

لقد فطن بيغن إلى القوة التي يضعها الحكم العسكري في أيدي خصمه بن غوريون وحزبه 'مباي'، فعمل على تجريده من هذه القوة، إلا أن الأخير ظل متمسكا بها حتى النهاية، وليس صدفة أن الحكم العسكري جرى الغاؤه في عهد خليفته ليفي أشكول فقط.

اليوم بعد خمسين عاما، يحاول 'مركز تراث بيغن'، إعلاء شأن موقف حزب 'حيروت' سالف الذكر، في محاولة للتدليل على تبني هذا الحزب لمبادئ المساواة وحقوق الانسان رغم يمينيته، ولعل أهم الوثاق الهامة التي يتم أبرازها هذه الأيام للتدليل على دور الليكود/ حيروت بزعامة بيغن، في مناهضة الحكم العسكري هي افتتاحية جريدة 'حيروت' في شهر آذار/ مارس من عام 1949، والتي يرد فيها: 'صحيح أن الحكم العسكري كان ضروريًا في البداية، لكنه فقد شرعيته لاحًقا. في البداية كانت الحرب في أوجها وكان من الضروري أن تتولى السلطة مؤسسات عسكرية، ولكن الحرب انتهت منذ أشهر طويلة وجرى توقيع اتفاقية هدنة مع كبرى الدول العربية... الحكم العسكري تحول إلى شيء فارغ من أي مضمون وإلى شيء مضر'.

اقرأ/ي أيضًا | أعيدوني إلى بيتي

بيغن واظب على مناهضة الحكم العسكري وأيد قرار لجنة روزين التي أوصت بالأغلبية بإلغائه، وصوت في الكنيست مع الشيوعيين إلى جانب قرار إلغاء الحكم العسكري، وظل متحمسا لذلك بالقدر الذي ظل خصمه بن غوريون متمسكا به.