في قلوب أبناء قرية صندلة حسرة وجراح لا تمحوها أيّ تفاصيل جديدة منذ أن وقعت المجزرة في السابع عشر من أيلول/ سبتمبر في العام 1957، مخلفة 15 طفلاً شهيدًا وثلاثة جرحى، لا يزال أحدهم مقعدًا، يبكي المشهد الذي يرافقه مدى الحياة.

تقع صندلة في مرج ابن عامر، وبقربها المقيبلة، وهما قريتان يديرهما مجلس 'جلبوع' الإقليمي، أما تعداد سكان القرية في حينه، فكان يُقارب الـ350 نسمة، فيما يصل عدد السكان اليوم ما يُقارب الألفي نسمة.

عمل سكانُها في الزراعة والفلاحة وتربية المواشي، كمصدرٍ أول للعيش. ومنذ إقامة إسرائيل سُلبت مساحاتٍ مِن الأراضي التي كانت تابعة لقريتي المقيبلة وصندلة، وصادرتها السلطات الإسرائيلية لصالح المستوطنات اليهودية.

عن مأساة أهالي صندلة سطّرت أم يوسف عمري بعض التفاصيل التي حدثتني عنها: 'خسارةُ الأطفال في المجزرة ليست خسارة للأجساد فقط، بل خسارة لأولادٍ أذكياء كانوا يحبون التعليم، توفي ابني يوسف في المجزرة، وكان جبارًا قويًا وحنونًا إلى آخر يومٍ في حياته، بكيتُ كثيرًا وبصمت'.

وحول ردة فعلها يوم علمت بالخبر، قالت: 'كنت صاحية ومش صاحية، واعية ومش واعية، بس متخيلة ملامحه، كان وجهه حلو، كان شاطر في المدرسة، حنون، الحمد لله إنه الله أعطاني أربعة كلهم بحفظ الله، والله يستر على إخواتهم، ويكفينا شر اللي شفناه. يومها جابولي إياه يا ميمتي بكيس، يا ويل حالي، استعجلنا وما قدرنا نستنى روَّحولي إياه عالبيت للصبح دفناه مع بقية الشهداء'.

منع إحياء ذكرى المجزرة

وكان لوقع استشهاد يحيى عمري، الشقيق الأصغر لمصطفى عمري 'أبو ناظم' وهو من مواليد العام 1938، والذي أنهى دراسته الثانوية في الناصرة، والتحق بدار المعلمين في تل أبيب، الأثر البالغ في مسيرة حياته واهتماماته.

وتحدث مصطفى عمري لـ'عرب 48' عن المدرسة التي هُدمت بعد الحادث وتحولت إلى حاجزٍ عسكري قرب مدخل جنين، إنه 'في 17 أيلول/ سبتمبر من العام 1957، وقعت المجزرة، كان يوم الثلاثاء، عند الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، عاد التلاميذ من مدرسة 'التتر' الابتدائية القائمة منذ الانتداب، كان الأطفال قد بدأوا مسيرتهم التعليميّة في العام 1952 بعد توقفٍ دام عامين، بفعل النكبة وتبعاتها، وعُيّن عدد من المدرسين من بينهم: صالح عبد القادر محاجنة، د. سامي دبيني، فوزي جرايسي، سمير ورور، نعيمة سمعان. يومها غادر معظم الطلاب صفوفهم وبقي 17 طالبًا، بينهم 15 طفلا رحلوا في دقائق. كُنتُ أدرس في الناصرة، وسمعتُ النبأ في ساعةِ مبكرة من صباح اليوم التالي، الأربعاء، لكنّ جميع أبناء القرية تناقلوا التفاصيل المؤلمة ذاتها: 'على بُعد 200 متر من مدرستهم، وجَد الأطفالُ جسمًا غريبًا لامعًا، على حافة الطريق، ومِن شدة حُب الاستطلاع الطفولي، اقتربوا منه وظنوه شيئا مسليا ينشغلون باكتشافه، وفي لحظةٍ انفجرت القنبلة واستشهد معظمهم، وبقي ثلاثة من الجرحى يئنون وجعًا وخوفًا وقهرًا، تطايرت الأشلاءُ في لحظةٍ وانعقدت في المكان سحابةٌ سوداء كثيفة من الغبار الـمُشبع برائحة الدمِ الساخِن والبارود. منظرٌ رهيبٌ ومفزع لكُل مَن عايشه ولمحه من بعيد، وصل صوت الانفجار إلى بيوتِ صندلة، لم تكن هناك وسائل نقل، سوى مسؤولين في الحكم العسكري الذين كانوا يُراقبون المواطنين ويفحصون تصريحاتهم طوال الوقت، بعض الطلاب تأخروا في مدرستهم، وفي طريق عودتهم رأوا مشهدا مرعِبا، أحشاء زملائهم مقذوفة بعيدة عنهم ورؤوس وأطراف متناثرة في كل الأرجاء، ففقدوا وعيهم وضلوا طريقهم'.

النساء رقصن وهُن يحضنّ جثث أطفالهن!

أحد شهود العيان الأستاذ والاختصاصي النفسي د. سامي دبيني، الذي كان عائدًا من المدرسة، حين رأى طلابه متناثرين في المكان، أجسادا ممزقة وأحشاءً خارج الجسد وأطرافا متناثرة وبقايا أجسام في حفرة يصل عمقها إلى المتر ونصف المتر. كانوا على ظهورهم بلا حراك، فيما بعضُ الأقدام تنتفض، وفي المكان دفاتر مبعثرة وأقلام رصاص ودفاتر يغطيها السواد، مشهد لا يفارقُ أساتذتهم.

وصف مصطفى عمري المشهد المؤلم بأن 'القرية كانت تئن وتصرخ، استقبلت العائلات أبناءها في أكياسِ الموتِ ومِن هول الصدمة، رقصت النساء وزغردن وهللن بطريقةٍ لا يُمكن وصفها إلا صعقة المُصيبة المفاجِئة. وعِند المقبرة كانت الأمهات تَنُحْنَ وتُعددن مناقب أمواتهن، ووقتها سمعتُ أمي تقول: 'ثوبَك جديد يا يحيى بعدك ما لبستو، الدفاتر جديدة، أبوك جبلك دفترين ما كتبت عليهن يا حبيبي يا يحيى، اكتب يا يحيى، وشو بدو يسع الدفتر والكتاب من هالحياة'.

مبررات واهية وكذبٌ مبطَّن

رغم المأساة التي أصابت البلدة، ظل الحاكم العسكري يقف عند مدخل البلد، ويفتش البطاقات، ولا يسمح لغير أبناء القرية بدخولها، وطُلب من العائلات الصمت والقبول بقضاء الله، وكتبت الصحافة العِبرية عن المجزرة باعتباره حدثا عاديًا بفعل مخلفات نكبة العام 1948، وظلّ الحكم العسكري جاثمًا على صدر الفلسطينيين في الداخل حتى العام 1966.

وفي ردٍ على سؤال حول سبب عدم كشف الحقيقة، قال أبو ناظم إن 'أهالينا كانوا كبار السِن واعتادوا على الحرب والخوف ومعاملة الحكم العسكري الصعبة وتضييق التحركات، إضافة إلى محاولة تبرير المُصيبة من خلال بيان وزعه الحاكم العسكري، جاء فيه أنّ الحادث قضاء وقدر، وأنّ القذيفة هي من مخلفات الحرب، (مدعيًا أنّ الجيش الأردني يتحمل المسؤولية عن القذيفة باعتبارها تابعة له) وكأنّ الجيش الأردني كان يملك قذائف متطورة كالتي قتلت الأطفال. وعلمنا أنّ قوات الأمن والجيش قامت في اليوم التالي للمجزرة بتمشيط المنطقة وعثرت على قذائف أخرى، تمّ تفجيرها، وقد سمعنا التفجيرات أثناء توديع أطفالنا الشهداء'.

المتسبِّبون بالقتل تناسوا فعلتهم

وأضاف مصطفى عمري: 'علمتُ مؤخرًا بتفاصيل جديدة مختلفة تمامًا عن حديثهم السابق، وتبريرها بمخلفات الحرب لعدم محاسبتهم، محليًا ودوليًا. ونحنُ نتحدث عن منطقة تابعة للجلمة في الضفة الغربية، استولى عليها الاحتلال وصادر الأرض التي اعتُبرت أملاك غائبين، مساحتها 3000 دونم، وقد حُوّلت إلى مزرعة تابعة للوكالة اليهودية، ومِن حُسن حظي أنني وصلت إلى منزل مدير الوكالة اليهودية في العام 1957، عندما وقعت المجزرة، زُرته في منزله ووجدته يستعد لنزهة مع زوجته مشيا على الأقدام، قال مدير الوكالة (بيسح في الثمانييات من العمر)، 'معرفتوش؟!'، وبدأ بسرد ما حدث يوم وقوع الانفجار، 'كُنت أنتظر الحصادّين في موسم زراعة الذرة الحمراء، أردتُ عدّ الأكياس الجاهزة، صعدتُ إلى الجرّار مع العمال، ورأيتُ القنبلة بين الأكياس، قلتُ للسائق: ما هذا؟! قال أنه جرن حجري يُستعمل لدق البليلة (وهي مِن طقوس الاحتفالات اليهودية أيام السبت)، قلتُ له بحزم: هذه قنبلة تعمل (بوم) وتقتُل، إرمِها بسرعة، كان السائق عراقيا (كرديا)، وقف بسرعة على جانب الطريق ورمى القنبلة، قال مدير الوكالة، في اليوم التالي جاءت الشُرطة تبحث عني ونبهتني ألا أذهب لصندلة خوفًا مِن الاعتداء عليّ وعرفتُ أنّ 15 طفلاً قتلوا في الحادث، حيثُ ألقينا القنبلة'، عندها سألته عن سائق الحصادة فأعطاني عنوانه وأخبرني أنّ اسمه أفراهام أهارون، وقد التقيته فحدثني بنفس الرواية وأنه أراد استخدام القنبلة لنقع قمح البليلة فيه، والأخير أبلغني أنّ العامل الذي رمى القُنبلة تُوفي منذ فترةٍ'.

وأضاف أنه 'هكذا كُشفت الحقيقة وتأكد أهالي صندلة أنّ مدير الوكالة اليهودية وعماله يتحملون مسؤولية المجزرة. وفي العام 2008، جرى تشكيل لجنة من أهالي الشهداء الذين توجهوا لمركز عدالة القانوني لفتح ملف ضد المسؤولين في الحكومة، وأُرسلت نُسخ لكافة المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية، وبعد المداولات أمام القضاء أغلِق الملف، بادعاء أنّ قانون التقادم يسري على هذا الملف، وهكذا تنصَّلت الحكومة الإسرائيلية والمتسبِّبون بالمجزرة مِن جريمتهم'.

اقرأ/ي أيضًا | مجزرة صندلة: 100 متر كانت كافية كي ينجو بحياته