تناول الكاتب والمحامي صبري جريس في مقابلة أجراها معه 'عرب 48' فترة الحكم العسكري من العام 1948 وحتى انتهاء (وليس زوال) هذا الحكم في العام 1966، وقد حدثنا عن تجربته التي عايشها وعاصرها بكافة تفاصيلها.

 

فسوطة استسلمت!

قال صبري جريس إن 'الفلسطينيين كانوا قد ملّوا من قصص اللاجئين، فأجريت ترتيبات معيَّنة ما دفع إلى استسلام هذه المناطق، إذ دخل الإسرائيليون فسوطة بالجيبات وكان الوجهاء في البلدة وخوري فسوطة بانتظارهم، هكذا جرى استقبال اليهود عند المدخل الرئيسي ودخلوا البلدة بدون ممانعة، علمًا أنّ الإسرائيليين اشترطوا ممن يملكون الأسلحة إيداعها في قاعة رئيسية بالبلدة، وتمّ تسليمها بعد الاتفاق بعدم التعرُض لأي شخص كان يملك سلاحًا'.

وحول تلك الحقبة المصيرية، قال: 'عشتُ تجربة وسياسة إسرائيل من الألف وحتى الياء، وأعرف قصص اليهود، من خلال تنقلاتي بين الناصرة في البداية العام 1957، حين أكملت الدراسة الثانوية، وفي أواخر العام انتقلتُ للجامعة العبريّة في القدس، فدرستُ الحقوق وتخرجتُ في العام 1962، وفي أوائل العام 1965 حصلتُ على رخصة ممارسة المحاماة، وعملتُ في مكتب حنا نقارة بحيفا، حتى العام 1970، حيثُ غادرتُ البلاد'.

فرض الحكم العسكري

وحول الحكم العسكري، قال جريس، إن ' تلك الفترة كانت معروفة بالتمييز والاضطهاد بهدف السيطرة على أملاك العرب، كانت الحركة الصهيونية تتمنى استلام البلاد خالية من العرب، لكنها لم تستطع، والوثائق الإسرائيلية دامغة بالإدانة، فمنذ العام 1946، وضعت عصابات 'الهجاناة' ما يسمى 'خطة د' للسيطرة على جميع المناطق، حسب قرار التقسيم، وتمّ طرد العرب بعد تدمير قراهم، هكذا رُسم المخطط لتهجير الفلسطينيين في الداخل. وفعلا قاموا بتهجير العرب من مناطق محدّدة مثل الجليل الأعلى، حيثُ لم يبقَ عربيٌ واحد، كما أُفرغت المنطقة الساحلية بين حيفا وعكا، أما منطقة النقب، فكانت شبه خالية، في حينه. وخلال الحرب توسّعت المناطق واحتلوا المزيد من الأراضي العربية، إلا أنّ منطقة الجليل بقيت عامرة بعدد كبير من الفلسطينيين. وفي العام 1948، كانت قضية اللاجئين الفلسطينيين منتشرة انتشارًا كبيرًا في المنطقة، وكان هناك مشروع وساطة دولية لإعادة النظر في التقسيم، حيث اختارت الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت من السويد لإدارته، فقُتل من قبل الصهاينة، حيثُ تأكد الجميع أنّ إسرائيل غير معنيّة بمزيد من اللاجئين'.

وأضاف جريس أن 'بن غوريون كتب في مذكراته أنه بعث للقائد المسؤول عن العمليات في الناصرة، يقول له بالحرف الواحد: 'لا نريد مشاكل مع العالم المسيحي بسبب الناصرة، وإذا سمعتَ عن أي جندي ارتكب خطأ يجب إجراء محكمة عسكرية وإعدامه في ساحة المدينة، لا أريد للعالم المسيحي أن يثور علينا، وهكذا احتُلت الناصرة كاملةً دون أن يُقتل ولو 'قط'، وهكذا حصل أيضًا في شفاعمرو وفسوطة'.

وشدد أنه 'في مراحل الاحتلال الأولى كان الجنود يطوقون القرى العربية ويقصفون ويقاتلون ويتركون منفذًا للفلسطينيين للهرب إلى الدول العربية، ولاحقًا تمّ احتلال الشارع الشمالي المحاذي للحدود اللبنانية بعد أن صدرت قرارات بمحاصرة منطقة الشمال ومنع هروب الفلسطينيين واللجوء إلى الدول العربية'.

النقب

وعن منطقة النقب، قال جريس، 'في النقب كانوا قلّة منتشرين هنا وهناك، جزءٌ منهم تعاونوا مع الإسرائيليين، أما سائر العرب فبقوا رغمًا عن إسرائيل، بينما تعاطت إسرائيل معهم كأنهم جواسيس وعناصر عدائية، ففرضت الحكم العسكري، وهو جهاز اضطهاد وقمع، وليس جهاز أمن (شرطة وشين بيت)، وسيطرت إسرائيل على الأراضي وصادرتها تدريجيًا، إضافة لإغلاق مناطق معيّنة، هكذا تُركت الأراضي التابعة للعرب لتصبح بعد عامٍ أراضٍ بور، وهكذا تمّ مصادرة الأراضي والسيطرة عليها، هكذا جرى اضطهاد العرب وتقطيع أوصالهم والسيطرة على ما تبقى لهم من أراضيهم. في تلك الفترة كان العرب أقليّة ضئيلة، بقي منهم بعد الاحتلال 170 ألف عربي، بينما وصل عدد اليهود إلى مليون شخص، ثم زادوا لاحقًا، أما العرب الذين بقوا في قراهم، لم يكونوا مسلّحين ومنظمين ولا يشكّلون أي خطر، وغُلب على أمرهم، لم يكن هناك أيُ حديثٍ عن مقاومة، أو المس بأمن الدولة، مع ذلك تمّ اعتقالهم وسجنهم عدا عن مصادرة أكبر نسبة من الأراضي'.

اضطهاد وإجراءات قمعية

وحول الإجراءات القمعية، قال جريس، إنه 'منذ فُرض الحكم العسكري في العام 1948، بقي على حاله بنفس القوة والعنفوان، واستمرت الإجراءات القمعية حتى العام 1959، حيثُ أدخلت عليه تسهيلات، والحقيقة جرى ذلك نتيجة لتغييرات طرأت على المجتمع العربي، بعد مصادرة كافة الأراضي، أو جزء كبير منها، بينما تحولت قطاعات من المجتمع العربي، من الفلاحة إلى العمل، فأصبحوا عمالاً بدلاً من أن يكونوا فلاحين، إذ اضطُروا للتفتيش عن العمل في المواقع والمدن الإسرائيلية المختلفة، وكانت السوق الإسرائيلية بحاجة لهم خاصة في البناء، لذلك حدثت تغييرات من قبل الحكم العسكري، ما دفع إلى السماح للعرب بالتجول خلال ساعات النهار في المدن الرئيسية دون الحاجة لتصريح من الحاكم العسكري، في ساعات النهار فقط وليس في الليل. وسُمح للعمال العرب الوصول إلى أعمالهم في المدن اليهودية أو للكيبوتسات دون تصاريح ما سهل عليهم العمل، وكسب معيشتهم'.

ورأى جريس أنّ 'الإجراءات القمعية بقيت على حالها، بينما بدأ المواطنون العرب في الداخل يفهمون النوايا الصهيونية، وبدأت حدة المعارضة تزداد وتتبلور وبدأت تظهر عناصر جديدة، ما دفع النظام إلى أن يأخذ ذلك بالحسبان، بعد التغييرات والتعديلات اليومية، كما جرى السماح بالحركة اليوميّة داخل المناطق. وفي العام 1966 تقرر إلغاء الحكم العسكري، في الحقيقة لم يكن إلغاء للحكم العسكري وإنما تعديلاً بينما أقفل جهاز الحكم العسكري وأغلقت المكاتب، وبقيت أنظمة الطوارئ، وبقيت الأرضية القانونية للحكم العسكري على حالها. في العام 1966 عندما أُعلنت التعديلات أو (التسهيلات) كما أسموها، تمّ إرسال ملاحظات وتعديلات إلى العناصر التي لم يكن النظام راضيًا عنها، أو عناصر المعارضة (من المواطنين العرب)".

وتابع:  كنت واحدًا منهم (المعارضون للحكم العسكري)، إذ تلقينا إشعارات خطيّة من الحاكم العسكري الذي أصبح يُعرف آنذاك بقائد المنطقة العسكرية، ويملك جميع الصلاحيات المتعلقة بالحكم العسكري، سلّمونا إخطارات خطيّة مفادها أنّ التعديلات لا تسري بالنسبةِ لنا، وأنا أعتقد أنّها طالت نحو 100 شخص في منطقة الجليل، وشملوا أيضًا بعض ناشطي الحزب الشيوعي، وكل الناشطين الآخرين الذين كانوا يعملون في إطار الجبهة العربية والجبهة الشعبية التي كانت قائمة آنذاك، أي جميع عناصر المعارضة. وبقيت هذه التعليمات سارية حتى خرجت من إسرائيل في العام 1970، أي لم يكن ولو يومًا واحدًا منذ العام 1948 وحتى 1970، حرًا فيه بالتجوُّل لأي مكان كان ينبغي عليّ أن أذهب، كان عليّ طلب التصريح من الحاكم العسكري، سواء كان أثناء الذهاب من فسوطة إلى الثانوية في الناصرة (بين السنوات 1953 ولغاية 1957)، أو عند الانتقال للدراسة في الجامعة العبرية بالقدس، عام 1957 حتى 1961، وعندما ذهبت إلى حيفا للتدرُب لدى المحامي، أرسل لي أمرٌ شخصي، أنّ هذه القيود سارية المفعول، وهذا ما حصل مع معظم الناشطين الذين كانوا يعارضون سياسة الحكومة الإسرائيلية'.

اقرأ/ي أيضًا | شفاعمرو في ظل الحكم العسكري