الجزء الثالث - قصة سقوط يافا عروس فلسطين 1948


كما ذكرنا في مقدمة الجزء الأول أن منظمة "الأرغون" (الإيتسل) قررت الهجوم على يافا، قبل الموعد الذي أرادته "الهاغاناه"، وليس حسب الخطة المرسومة من قبل قيادة المؤسسات الصهيونية (أو قيادة الييشوڤ كما كانوا يسمون أنفسهم)، فهؤلاء اعتقدوا أن حصار يافا واحتلال القرى المجاورة لها كفيل بجعل يافا تسقط في أيديهم تلقائيا، أما قيادة "الأرغون" فكانت ترى في يافا خطرا محدقا على تل أبيب من ناحية، وتجد الانقضاض عليها فرصة من أجل تعزيز مكانتها في صفوف المستوطنين اليهود.

الوسيلة والتوقيت كانا مختلفين، بينما إبتدأ العمل لتحقيق ذلك منذ اليوم الأول لتأسيس تل أبيب عام ١٩٠٩، واستمر طوال السنين بواسطة تزويد المدينة الفتية بالسلاح والعتاد، ومن ثم تطويرها بحيث أصبحت المركز الأول والقوي "لليشوڤ" الصهيوني في فلسطين. وأما الاستعدادات العسكرية الحقيقية فكانت قد ابتدأت مباشرة بعد قرار التقسيم، نهاية تشرين ثانٍ / نوڤمبر عام ١٩٤٧، بل وابتدأت حالا بعد إعلان بريطانيا أنها ستنهي انتدابها لفلسطين في ١٤ أيار / مايو ١٩٤٨.

وكذلك يافا، التي شعرت كما غيرها من المدن والقرى بالخطر الداهم، فصارت تتحضر لليوم الموعود، ولكن هذه الاستعدادات واجهت الكثير من المصاعب والمتاعب، والخلافات بين القيادات، وسوء فهم لإدارة المعركة، وتعامل الدول العربية تعاملا خاطئا مع موضوع الدفاع عن فلسطين بشكل عام، والدفاع عن يافا بشكل خاص، مما أدى إلى النتيجة القاسية التي وصلت إليها المدينة الأهم في فلسطين، حيث استسلمت "للهاغاناه" مباشرة قبل إعلان دولة إسرائيل، بينما كانت قد سقطت فعليا قبل ذلك بأكثر من أسبوعين، في يد عصابة "الأرغون" (الإيتسل).

هذه الحلقة تتناول مجمل الأحداث التي وقعت منذ نهاية عام ١٩٤٧ وحتى سقوط المدينة في أواسط أيار / مايو ١٩٤٨.

تأسيس اللجنة القومية ليافا

ابتدأت التحضيرات في يافا بمشاورات من أجل تأسيس قيادة للمدينة في المِحنة القادمة، وكان هذا بالتنسيق مع الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني، إذ قدم إلى يافا الشيخ حسن أبو سعود، عضو الهيئة العربية العليا، في يوم الخميس الموافق ١٣ تشرين ثانٍ/ نوفمبر، وعقد اجتماع تمهيدي لتأسيس لجنة قومية ليافا. قرر المجتمعون دعوة أشخاص يمثلون كافة فئات سكان مدينة يافا، حتى وإن لم ينتموا إلى أية جمعية أو حزب، وتقرر أن يكون الموعد بعدها بأسبوع أو أكثر.

وبالفعل تم الاجتماع في ٢٢ تشرين ثانٍ / نوفمبر بحضور ممثلي الأندية والجمعيات والمؤسسات القومية، وعدد من شخصيات المدينة، وكان الاجتماع أيضا بحضور الشيخ حسن أبو السعود، ممثلا عن الهيئة العربية العليا. وقرر الاجتماع اختيار ١٥ عضوا ليشكلوا اللجنة القومية ليافا، وذلك بالتزكية بعد ترشح ١٨ شخصا، وانسحاب ثلاثة، وبذلك لم تكن حاجة لإجراء انتخابات، وهذا الأمر لم يعجب الهيئة العربية العليا، التي كانت تفضل الانتخابات على التزكية.

أما أعضاء اللجنة الخمسة عشر فهم: محمد عبد الرحيم، وأمين عقل، والدكتور صبحي حمادة، وفائق طلاماس، وميشيل عازر، والدكتور ميشيل تادرس، والدكتور عوني حنون، والحاج خالد الفرخ، والحاج ظافر الدجاني، والحاج أحمد أبو اللبن، ومحمد البهلول، ومصطفى الطاهر، ورفيق الأصفر، وصلاح الناظر، ومحمد الهندمي.

بعد انتخاب الأعضاء اجتمعت اللجنة القومية مباشرة، وقررت أن يتولى السيد أمين عقل أمانة السكرتارية المؤقتة، واتفق أن تقوم اللجنة بتشكيل لجان أحياء، للتعاون معها في معركة الدفاع عن يافا، وكذلك تقرر إضافة خمسة ممثلين عن قرى قضاء يافا، وحدث ذلك في الاجتماع الثاني للجنة القومية والذي عقد بعدها بأسبوع، إذ أضيف التالية أسماؤهم إلى عضوية اللجنة وهم: الشيخ شاكر أبو كشك من عرب أبي كشك، وزكي عبد الرحيم من العباسية، وموسى أبو حاشية من سلمة، وحسين ياسين من بيت دجن، وذياب الموسى من كفر عانة، كممثلين للقرى التالية: يازور وسلمة وبيت دجن والسافرية والخيرية وكفر عانة والعباسية والشيخ مؤنس وجليل والحرم والجماسين وعرب أبو كشك.

في الثلاثين من تشرين ثانٍ/ نوفمبر وبعد صدور قرار التقسيم بيوم واحد، أصدرت اللجنة القومية ليافا بيانها الأول ضد قرار التقسيم، دعت فيه إلى الوحدة ونبذ الخلافات من أجل الوقوف في وجه قرار تقسيم بلاد فلسطين الذي يهدف إلى "السيطرة علينا سياسيا واقتصاديا، وإذلالنا في أوطاننا وإرسال خليط من شعوب الأرض المتباينة ذوات النزعات الضارة والآراء الهدامة، والتي عاشت قرونا في ظل العبودية والاضطهاد لتحل محلنا". ورأى البيان أن العالم أجمع سوف يعلم "أن الدول التي اشتركت في تقسيم أوطاننا كانت هازلة لا جادة، وأن وطن العرب لن يقسم أو يباع، وأن النصر لمن صبر".

أحداث إضراب يافا احتجاجا على قرار التقسيم

أعلنت الهيئة العربية العليا الإضراب العام لمدة ثلاثة أيّام، على أن يبدأ في الثاني من كانون أول/ ديسمبر ١٩٤٧، ورغم محاولات اللجنة القومية في يافا تأجيل الإضراب إلى أواسط آذار / مارس من العام القادم، وذلك بسبب موسم قطف البرتقال، وخوفهم من ضياع الموسم، إلا أن الهيئة العربية العليا أعلنت الإضراب العام، فالتزمت به يافا ومؤسساتها وجمعياتها ونواديها، وتنادي المجتمع اليافي إلى إنجاح الإضراب، لأن أهل يافا يرفضون إلا أن يكونوا في مقدمة احتجاجات شعبنا الوطنية.

في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر، أصبحت يافا وهي مضربة إضرابا عاما وشاملا، وانتشر الجمهور اليافي في أنحاء متفرقة في المدينة تحسبًا لكل طارئ، أو اعتداء من قبل يهود تل أبيب، أو تحرش من قبل جند بريطانيا.

ابتدأت التحركات الشعبية منذ الصباح الباكر، بمظاهرة طلابية انطلقت من مدرسة العامرية الثانوية، وانضم إليها طلاب المدرسة الأرثوذكسية، واستمرت حتى تفرقت بشكل سلمي بعد أن وصلت إلى مكاتب اللجنة القومية.

بعد انتهاء هذه المظاهرة، انطلقت مظاهرة جبارة شارك فيها الآلاف، وانطلقت في معظم شوارع يافا، وانفضت أيضا بشكل سلمي، ولكن مسيرتها لم تخل من تحرش الجند البريطانيين، مما أثار الجماهير وأحدث هرجا ومرجا.

كما وألقيت في ساعات مبكرة من الصباح ثلاث قنابل، من حدود يافا الشرقية والشمالية، ثم تم إطلاق وابل من الرصاص، ورمي قنبلة رابعة، فقام على إثرها المتظاهرون بإحراق وإتلاف أماكن يهودية أمام مدخل المنطقة الحكومية، وفِي مدخل يافا-تل أبيب. وكذلك حصلت اشتباكات مع أفراد من "الهاغاناه" عند الحدود الشرقية جهة سوق اليهود، بعد توغلهم داخل المدينة.

في المساء، لم ينقطع سيل تفجير القنابل وإطلاق الرصاص، إذ كان ذلك يتم بشكل مستمر، خاصة في حي المنشية الذي تعرض لمحاولات اعتداء من اليهود، وقد ذهبت نجدات من مناطق أخرى من المدينة، واضطر اليهود إلى التراجع، ورابطوا حتى الصباح لمنع اليهود من تكرار ذلك. في التاسعة والنصف مساء قام اليهود بحرق دكاكين تقع في حي اليهود، وفِي العاشرة ألقوا قنبلة أصابت اثنين من العرب بجراح بالغة. أما الشرطة والجنود البريطانيون فبدأوا بعد العاشرة مساء بتفريق أهل المدينة لإجبارهم على العودة إلى منازلهم.

اليوم الثاني للإضراب، كان يوما مشهودا لكثرة ما وقع فيه من صدامات ومناوشات، وإطلاق رصاص منذ الصباح الباكر في حي اليهود، إذ تحصن بعض الصهاينة في بعض البيوت خلف السوق، وصاروا يطلقون النار بالأسلحة الأتوماتيكية، وأصيب من العرب أكثر من ١٢ شخصا برصاصهم، واستمر القتال حتى اضطرهم العرب إلى الانسحاب إلى تل أبيب.

في ساعات الظهر، قامت قوة كبيرة من "الهاغاناه" بتصويب رصاصها إلى العرب المتجمهرين عند الحدود بين المدينتين، يافا وتل أبيب، فقدمت نجدات من أحياء عدة، وجموع كبيرة من حي المنشية، وتحصنت قوة بجوار جامع حسن بيك، واستمر اطلاق النار لساعة أو اكثر، أسفرت عن استشهاد ثلاث نساء عربيّات، وجرح ستة شباب، والبعض من الرجال.

في الساعة الثانية ظهرا، قام اليهود بقنص شاب يقف بجانب مصنع البلاط الواقع بجانب شرطة المنشية، فاستشهد على الفور. ثم قام اليهود بإضرام النار في بيوت ودكاكين عربية في سوق الكرمل. ورغم تكرار الاعتداءات الصهيونية على حي المنشية، قام الجنود والشرطة البريطانيون بالهجوم على الحي بعد الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، وطبقوا نظام منع التجول.

أسفرت نتائج هذا اليوم من الإضراب عن استشهاد سبعة مواطنين، منهم ثلاث نساء، وجرح ٢٤ شخصا، بينما قتل ثلاثة من اليهود.

اليوم الثالث للإضراب كان حافلا أيضا بالأحداث، والاعتداءات الصهيونية، خاصة على بيارات البرتقال، وقريتي سلمة والخيرية، وأسفر عن استشهاد اثنين من العرب، وجرح ثلاثة، بينما قتل من اليهود اثنين وجرح تسعة.

في المساء، أعلنت مكبرات الصوت عن قرار اللجنة القومية بإنهاء الإضراب الذي استمر لمدة ثلاثة أيّام، قضاها أهل يافا في مظاهرات واشتباكات مع المعتدين اليهود وجند بريطانيا. وطالبت اللجنة القومية في بيانها الحكومة البريطانية بإلغاء منع التجول على المنشية، وتأمين عدم الاعتداء على البيوت المجاورة لتل أبيب.

تحضيرات الدفاع عن يافا

بعد شهر واحد من تشكيل اللجنة القومية ليافا، أصبح عدد مقاتلي يافا ٥٤٠ شخصا، ومعهم ٢٨٤ بندقية، ومعضم هذه الأسلحة اشترتها اللجنة بأثمان عالية، فسعر البندقية كان بين الثمانين إلى مائة جنيه، والقنبلة جنيه واحد، والطلقة بأربعة قروش على الأقل.

وكانت اللجنة القومية قد أسست لجنة للسلاح والألغام، مهمتها صنع الألغام، وكان من صناع الألغام سامي الأصفر وأخوه، واستشهدا بانفجار لغم كانا يصنعانه، فبدلهما المهندس الكيماوي سليم الدمياطي، وجرح أيضا في انفجار أصابه في وجهه، فاستبدله فيصل الطاهر، واستشهد هذا أيضا بانفجار قنبلة، فأتى مكانه يحيى الكيلاني. هذه الحوادث القاتلة تؤكد أن أهل يافا كانوا يعملون بدون مساعدة خبراء مختصين، ورغم ذلك قامت اللجنة بإنشاء مصنع لتعبئة الألغام، ومعمل لتعبئة الخرطوش، ومعمل لتعمير السلاح، ومعمل لصنع القنابل اليدوية، كل هذا بجهود أهل يافا وتبرعاتهم السخية.

ورغم شُح الأسلحة والإمكانيات وقلة عدد المقاتلين نسبة إلى عدد مقاتلي اليهود في تل أبيب، إلا أن العرب أبلوا بلاء حسنا في مواجهة اعتداءات اليهود من تل أبيب عليهم، واشتبكوا معهم في معارك متفرقة طوال أشهر، حتى أن البعض من سكان تل أبيب، تَرَكُوا أحياءهم وانتقلوا إلى أحياء أخرى لا تصليها رصاصات مجاهدي يافا.

يدعي اليهود وعلى لسان "مناحيم بيغن" زعيم تنظيم "الإيتسل" أن عدد المصابين من سكان تل أبيب وصل إلى أكثر من ألف بين قتيل وجريح، وأن العرب كانوا يرسلون الموت إلى كل مكان، ووصل رصاصهم حتى بلدية تل أبيب، وأن الألغام التي كان العرب يطلقونها على تل أبيب، دمرت أحياء يهودية بالكامل، وأحياء أخرى أخليت، وعاش الآلاف في الملاجئ والأقبية.

رغم كل ذلك، لم يفلح عرب يافا بإقناع اللجنة العسكرية في دمشق بتزويدهم بالمال اللازم لشراء بارود لألغامهم وذخائر لأسلحتهم، مما أثر بشكل سلبي على نفوس المناضلين، وزاد الطين بلة الخلافات التي ابتدأت بالظهور بين الجهات المختلفة. رئيس بلدية يافا الدكتور يوسف الهيكل، اختلف مع اللجنة القومية، ثم اختلف مع القائد الذي انتدبته اللجنة العسكرية بدمشق من أجل قيادة القتال في يافا، وهو عبد الوهاب الشيخ علي، وقد جاء من دمشق مع ثمانين مقاتلًا في ١٤ كانون ثانٍ / يناير ١٩٤٨، وكان معه ذخيرة وبنادق ومتفجرات لاستعمالها في معركة يافا. بعد فترة قصيرة وبسبب هذه الخلافات، ترك عبد الوهاب الشيخ علي يافا، وذلك بسبب الفوضى والتدخل بالشؤون العسكرية للقادة الميدانيين، ولأنه لم يفلح بإقناع القيادة المحلية، وعلى رأسها حسن سلامة الموكل من الهيئة العربية العليا، بأن المقاتلين المحليين لن يكون باستطاعتهم الدفاع عن يافا إذا لم يتدربوا تدريبا ملائما في دمشق، وكذلك لم يفلح بإقناع اللجنة العسكرية في دمشق بزيادة عدد مقاتلي حامية يافا، وأن تزودها بأسلحة رشاشة ومدافع ثقيلة.

استبدل الرئيس عبد الوهاب الشيخ علي، بالمقدم عادل نجم الدين، الذي جاء إلى يافا مع بعض الضباط العسكريين وذلك في ٢٢ شباط/ فبراير ١٩٤٨، ولكنه سرعان ما سافر إلى رفح من أجل احضار عتاد ودخائر، وبعد عودته سافر إلى دمشق، وطلب من القيادة العامة تزويده بمدافع هاون، وخمسين رشاشا من نوع برن، ومئة رشاش خفيف من طراز تومي وستن، وخمسة مدافع مضادة للطائرات، ومليون طلقة بندقية، وقنابل ومتفجرات كافية من أجل المعركة، كما طلب أن تتكون حامية يافا من أكثر من ١٥٠٠ من المتطوعين النظاميين. وأعلمهم أن الأسلحة التي حصل عليها من مصر كانت فاسدة. ولكن اللجنة العسكرية لم تستجب لطلبه، وزودته بخمسين بندقية إنجليزية وأربعة رشاشات فرنسية و ٧٥ مقاتلًا من حماة، فعاد إلى يافا في ٩ آذار / مارس ١٩٤٨، ولكن المقاتلين الحمويين لم يمكثوا أكثر من ثلاثة أيّام فانسحبوا من يافا، ثم عادوا إليها بعد ان أقنعهم قائدهم بذلك، ولكن فعلتهم هذه تسببت بحالة من الفوضى بين المتطوعين، وصارت هناك صعوبة في السيطرة عليهم.

في ٢٢ آذار / مارس ١٩٤٨، وبعد اشتداد الاعتداءات الصهيونية على يافا، سافر وفد مكون من صلاح الناظر، ومحمد سليم أبو لبن، وَعَبَد الله الناقة، ورفيق التميمي، وأمين عقل، وأحمد أبو اللبن، والحاج ظافر الدجاني، ومحمد نمر العودة، ومصطفى الطاهر، إلى دمشق للقاء اللجنة العسكرية، واجتمعوا جميعا بالعميد طه باشا الهاشمي، وذلك في ٢٨ آذار / مارس، وشرحوا له وضع يافا الصعب، وطلبوا تزويدهم بالسلاح والعتاد والرجال، وبعد نقاشات طويلة وغضب اللجنة اليافية على اللجنة العسكرية، زودتهم هذه بسرية القادسية الثالثة، وكان قوامها ستين متطوعا يوغسلافيا من سكان البوسنة، وكانوا بقيادة الميجر شوقي شقيق مفتي المسلمين في يوغسلافيا، وتولوا الدفاع عن المنشية والبصة وسكنة درويش، وكانوا قد انطلقوا إلى يافا في ٢٦ آذار / مارس ١٩٤٨.

في ٢٨ آذار / مارس، كان عدد مقاتلي حامية يافا ٤١٠ مقاتلين منهم ٩٠ نظاميا، و ٣٢٠ من أهل يافا، وبحوزتهم ٢٥٠ بندقية فقط.

وحاولت اللجنة القومية الحصول على أسلحة أخرى ثقيلة، ولكنها لم تفلح في ذلك بسبب شُح الموارد المالية، ورفض اللجنة العسكرية في دمشق تزويدهم بالمال اللازم لشراء صفقات كبيرة، ولكنها نجحت بالحصول على مائة بندقية و ٢٥ ألف طلقة، ورشاش برن واحد مع ٥٠٠٠ طلقة.

هذا ما كان من أمر التحضيرات لمعركة الدفاع عن يافا. وكما رأينا لا يمكنها أن تقف في وجه آلاف المقاتلين المدربين من "الهاغاناه" في تل أبيب، ومئات مقاتلي "الأرغون". أما المعارك الأساسية قبل الهجوم الكبير على يافا، فكانت مستمرة بدون توقف طوال الشهور التي أعقبت قرار التقسيم.

معارك واشتباكات مستمرة

ابتدأت المعارك فورا بعد الإضراب العام، ففي السابع من كانون أول /ديسمبر ١٩٤٧ وفِي ساعات الصباح الباكر، قام رجال شرطة يهود من "الهاغاناه" بالهجوم على حي أبو كبير عند الساعة الواحدة صباحا، وحدث إطلاق نار شديد خلال ساعات النهار، أسفر عن استشهاد شخصين من يافا، وجرح ١٥ آخرين، واستمر القتال حتى العاشرة صباحا، ثم عاد مرة أخرى في المساء وبقوة، وذلك عند تمام الساعة الحادية عشر ليلا في حي المنشية وأبو كبير، إذ انسل إلى داخل يافا بعض اليهود من حي "مكابي" و"فلورنتين"، واستمر القتال لأكثر من ساعة من الزمن. في اليوم التالي قام المناضلون العرب بحرق مصنع السبيرتو على طريق يافا - القدس، وقام حراس المصنع والمستعمرات المجاورة بالهجوم على المسلحين العرب والاشتباك معهم، ولكن العرب انسحبوا بدون إصابات تذكر.

في ٩ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٨، استشهد اثنان من العرب، وجرح اثنا عشر آخرون، وذلك في معارك متفرقة في أحياء يافا، كما وقام اليهود بعمل وحشي، إذ ربطوا شابا أرمنيا يعمل في حراسة البيارات بجانب بيتح تكفا إلى شجرة، وحرقوه حيّا.

بعدها شهدت يافا هدوءً نسبيا لعدة أيّام، فابتدأ سكان المنشية العرب والذين تَرَكُوا الحي في المواجهات الحامية التي كانت في أيّام الإضراب، بالعودة إلى الحي، وفتحت الدكاكين والقهاوي واستأنف الناس أعمالهم.

رغم الهدوء إلا أن التوتر كان على أشده، وابتدأ العرب بالتشكيك بكل من لا يعرفونه، ويحاولون الاعتداء عليه، حتى أصدرت اللجنة القومية بيانا بشأن ذلك، مطالبة الناس بعدم التجمهر، واتخاذ الحيطة والحذر، ولكن بدون الاعتداء على البشر، وكان ذلك في ١٧ كانون أول / ديسمبر ١٩٤٧.

في اليوم التالي مساء، تجددت الاشتباكات، وحصل إنفجاران كبيران في شارع الملك جورج، وجرى تبادل لإطلاق النار لساعتين. وفِي اليوم الذي بعده جرى مرة أخرى إطلاق نار لمدة ساعة، لم يسفر عن قتلى أو جرحى. وكذلك الحال كان في الأيام التي تلتها، وكانت أشدها في ٢٤ كانون أول / ديسمبر ١٩٤٨، ووقعت معركة كبيرة في حي الجبالية واستمرت طوال اليوم، بعد أن حاول بعض اليهود التسلل من مستعمرة "بات يام" وضرب الاستحكامات العربية، ولكن الحرس أحسوا بهم، فاشتبكوا معهم في معركة حامية الوطيس حتى ساعات الصباح المبكرة، ولكنه تجدد في اليوم التالي عند الساعة الثانية عشر ظهرا، ثم نشبت مرة أخرى معركة كبيرة بعدها بثلاث ساعات، بعد مهاجمة سيارة مساجين يهودية مرت من يافا.

وفِي صباح ٢٦ كانون أول/ ديسمبر ١٩٤٧، قام اليهود بهجوم على حي الجبالية مرة أخرى، ولكن هجومهم فشل بسبب تصدي الحامية العربية لهم. وفِي السادسة والربع صباحا، تسلل إرهابيون يهود عن طريق شاطئ البحر جهة "بات يام"، وقتلوا حارسا عربيا، واستمر القتال لساعات، حيث قام اليهود من "بات يام" بإطلاق النار بكثافة على حي الجبالية في يافا، فاشتبك معهم المناضلون، وتوغلوا حتى المراكز اليهودية في "بات يام" لصدهم، واشتدت المعارك حتى ساعات المساء المتأخرة في جميع الجهات بيافا، في الجبالية وتل الريش وأبو كبير وشارع سلمة، وفِي هذه المعارك كانت يد العرب هي العليا.

في ٢٩ كانون أول/ ديسمبر ١٩٤٧، حاول اليهود النزول إلى محلة ارشيد بقوارب بخارية كانت تحمل مسلحين يهود، ولكن العرب عاجلوهم بالهجوم، واستمر القتال لمدة ساعة من الزمن، أصيب فيها ثلاثة من المهاجمين.

وكذلك الأمر في ٣٠ كانون الأول/ ديسمبر، إذ حاول اليهود التسلل مرة أخرى، فقتل منهم ثلاثة وجرح ثلاثة آخرون.

جريمة نكراء تنفذها العصابات الصهيونية

في يوم الأحد ٤ كانون ثانٍ / يناير ١٩٤٨، دخلت سيارتان إلى يافا، إحداهما سيارة شحن كبيرة مليئة بالمتفجرات، والثانية سيارة ركاب صغيرة، وكان يقودهما أبراهام كوهين وأليشع إيڤزوڤ من منظمة "الليحي". استمرت السيارتان في سيرهما حتى ساحة "الساعة" في يافا، وهناك توقفت السيارتان في زقاق قريب من بيت النجادة، وقام سائق سيارة الشحن بالنزول منها وركوب السيارة الصغيرة، والانطلاق بدون أن يشعر بهم أحد.

في تمام الساعة الواحدة إلا ربعاً، انفجرت سيارة الشحن انفجارا كبيرا، فنسف القسم الشمالي من عمارة النجادة (السرايا) وطوله خمسون مترا، وتهدمت أقسام من بنك "باركليز"، وواجهات البنك العربي الزجاجية، كما وأصيبت عمارة اللجنة القومية من الداخل، وأصيب بعض أعضاء اللجنة بجروح، وتضررت المحال التجارية في شارع بسترس، وتكسرت أبوابها من قوة الانفجار، وسقط عدد من المارة بين قتيل وجريح.

كان الانفجار قويا بحيث وصل دويه إلى كل أنحاء المدينة، وسمع من بعض أحياء تل أبيب. دبت الفوضى في مدينة يافا عقب الانفجار، وسمع إطلاق النار في نواحٍ عدة من المدينة، وهرع الناس إلى منطقة الانفجار من إجل إنقاذ الجرحى وإخراج القتلى من تحت الردم والأنقاض، واستمرت عمليات الإنقاذ لعدة أيّام، تولتها البلدية والجيش البريطاني، ورأى شهود العيان أن العملية كانت تتم ببطء مقارنة بإزالة الأنقاض عن ردم فندق الملك جورج في القدس قبلها بسنتين.

أسفرت العملية الأجرامية عن سقوط سبعين شهيدا، بينهم أطفال وشباب، كانوا يحتفلون بمناسبة أعياد رأس السنة والميلاد، وجرح عشرات آخرون، وقدرت الخسائر المادية من هذا الانفجار بأكثر من مائة ألف جنيه، ما عدا سعر المباني التي هدمت.

في مساء نفس اليوم، أصدرت منظمة "الليحي" الإرهابية بيانا تعترف فيه بتنفيذ هذه الجريمة النكراء. والتي كان لها التأثير الأكبر في إثارة الخوف في قلوب أهل المدينة وشعورهم بالخطر الكبير الداهم.

وفِي ١١ كانون ثان/ يناير، حقق الصهاينة نصرا آخر باحتلالهم لقرية سلمة، والتي بنيت من أجل إيواء سكان يافا الذين هدمت بيوتهم في عملية النسف التي قامت بها بريطانيا عام ١٩٣٦ (ذكرتها في الحلقة السابقة). وقد احتجت اللجنة القومية أمام حكومة الانتداب، بسبب قيامها بتسليم القرية لليهود، لأنها أزالت لهم كل الحواجز التي صنعها أهل سلمة من أجل الدفاع عن القرية، وجبرت مختار القرية بردم الخندق الذي حفره السكان لمنع الصهاينة من التقدم نحو القرية. ولما أزيلت كل الحواجز والخنادق أصبحت الطريق إلى سلمة مفتوحة أمام العصابات الصهيونية، فسقطت في أيديهم، وتحولت إلى حصن لهم يستعملونه في الهجوم على يافا.

استمرار الأحداث والمعارك

عادت الصدامات إلى يافا بعد الجريمة النكراء بأسبوع واحد، في ١٢ كانون ثانٍ/ يناير أعاد اليهود الكرة في الهجوم على يافا، واختبار يقظة المدافعين عنها، وفِي الليلة التالية حاول قاربان التسلل إلى ميناء يافا، ولكنهما لم ينجحا بذلك، وفِي ١٤ كانون ثانٍ / يناير قامت مجموعة من اليهود بالهجوم على محطة سكة الحديد، وتمكنوا من التسلل إلى الشارع الخلفي لمدرسة الطليان، وقتلوا طفلة عمرها أربع سنوات، وساءت الحالة في المنشية بسبب ذلك، وحصلت صدامات وإطلاق نار حتى تغلب العرب على المهاجمين. وتجدد إطلاق النار في نفس المكان في اليوم التالي، واستمر لعدة ساعات. في نفس اليوم قام العرب بنسف عمارة حزبون في بيت دجن، حيث كان اليهود يتحصنون فيها ويطلقون النار على العرب.

في ١٧ كانون ثانٍ / يناير قام اليهود بمهاجمة المسلخ البلدي، ولكن المدافعين ردوهم على أعقابهم. وفِي ٢٠ كانون ثان/ يناير أعاد اليهود الهجوم على محطة قطار يافا ولكنهم فشلوا مرة أخرى. في نفس اليوم قام العرب بهجوم على وكر اليهود بجانب يافا، وقاموا بتفجير مصنع السبيرتو الواقع على طريق القدس.

واشتدت الاعتداءات اليهودية في الأيام التي تلتها، ووسع اليهود دائرة هجومهم، إذ صاروا يهاجمون القرى المحيطة بيافا، الخيرية وسلمة وساكية وتل الريش، بدون أن تمنعهم القوات البريطانية، بل إنها بنت حواجز من أسلاك شائكة تفصل هذه المناطق عن باقي أجزاء يافا.

وكانت "الهاغاناه" تهدف من كل هذه الهجمات محاصرة يافا وعزلها عن باقي مناطق فلسطين، بينما العرب ما زالوا يعتقدون أن بضع مئات من البنادق، وآلاف الطلقات كافية لرد الصهاينة عن يافا، وحتى ذلك النزر اليسير من السلاح صعب على اللجنة القومية الحصول عليه، كما تقدم في التحضيرات للمعركة الحاسمة.

في ٢٢ كانون ثانٍ/ يناير حدثت عدة حوادث على طريق يافا - القدس، قتل فيها سبعة من اليهود، وعلى إثرها ابتدأ اليهود بشن هجمات متفرقة على العرب بهدف الانتقام، مما تسبب باستشهاد سبعة من العرب، وجرح ١٦ فتاة وامرأة ورجل، حيث هاجموا في المساء سيارات شحن تنقل عمالا يعملون في أحد مشاغل البرتقال، وكانت السيارات في طريقها من بيت دجن إلى اليارور، وعند اقترابها من عمارة حزبون القريبة من بيت دجن أطلق اليهود عليها وابلا من الرصاص مما أدى إلى الكثير من الإصابات كما تقدم.

في ٢٣ كانون ثانٍ/ يناير قام اليهود بنسف عمارة الحاج صفوت شاهين في البصة، وانهارت كلها.

في ٢٤ كانون ثانٍ/ يناير قام الجيش البريطاني بحملات مداهمة وإزالة استحكامات العرب، بينما لم يزل أية تحصين لليهود. وفِي ٢٧ من الشهر نسف استحكامات مسلخ يافا، بادعاء أن النار أطلقت من هناك، وأدت إلى مقتل يهوديين.

في ٢٨ كانون ثانٍ/ يناير حصلت معركة كبيرة، بعد أن قام اليهود بعملية إطلاق نار في الساعة السابعة والنصف مساء، بواسطة الأسلحة الأوتوماتيكية، وفِي الحال قام العرب بالرد على إطلاق النار، واستعملوا الأسلحة الحديثة والقنابل، وهاجموا اليهود وردوهم على أعقابهم متغلغلين في تل أبيب حتى حي "الهابوعيل".

في اليومين التاليين انتقل العرب إلى الهجوم فقاموا بمهاجمة قافلة يهودية على طريق القدس، وهاجموا مستعمرة "بيت شيمن"، وقوافل يهودية على حدود يافا، وكذلك هاجموا مستعمرة "فاف" بضواحي يافا، وقاموا بنسف عمارتين في حي اليهود لكشف شوارع تل أبيب، وتحسين إمكانية قنصها.

في عصر ٣ شباط/ فبراير، قام المناضلون العرب بنسف خمس عمارات في شارع "شبازي" بين يافا وتل أبيب، بعدها حاول اليهود القيام بعمل مضاد، ولكن العرب صدوهم ثم تابعوهم إلى داخل تل أبيب على طول شارع "شبازي". وفِي الساعة الثانية والنصف ظهرا قام عشرون صهيونيا بمحاولة للهجوم على المسلخ، ولكن المناضلين العرب صدوهم خلال نصف ساعة.

في ٤ شباط / فبراير، حصلت معركة كبيرة على حدود يافا، بعد هجوم شنته جماعة كبيرة من الصهاينة في الساعة السادسة والنصف صباحا، ولكن الهجوم فشل، وبعدها بساعتين قام العرب بهجوم مضاد، وتسللوا إلى المركز الصناعي اليهودي، ووضعوا ألغاما في مصانع النسيج واللحوم وفجروا ثلاثة مصانع، ودمروها تدميرا كاملا. واستمر القتال لمدة ثلاث ساعات، ووصلت مدافع يافا إلى شارع "هرتسل" والتحصين اليهودي على طريق سلمة، وامتد خط النار من البصة غربا على طول شارع سلمة حتى المسلخ. وكانت هذه من أكبر المعارك منذ قرار التقسيم وكان النصر فيها للعرب.

في نفس الليلة قام مناضلو حي الجبالية بهجوم على مستعمرة "بات يام"، ودمروا أنابيب المياه. كما وقامت مجموعة من اليهود بهجوم فاشل من مستعمرة "نيتر" على معملي المعكرونة والنشاء لتدميرهما، ولكن محاولتهم أحبطت.

في ٦ شباط/ فبراير، تسلل اليهود إلى حي المنشية، ولكن مقاتلي تل الريش وسلمة والجبالية، تكاثروا عليهم وقتلوا منهم تسعة، وصدوهم بعد معركة حامية.

وكذلك الأمر في ٩ شباط/ فبراير الذي شهد معارك حامية في حي المنشية، كانت فيها الغلبة للعرب، الذين صدوا المهاجمين الصهاينة، وفجروا عمارة يتمركز فيها اليهود على الحدود مع يافا.

المعارك مستمرة، و"الإيتسل" يقرر مهاجمة يافا

لم يخل يوم في يافا من الاشتباكات بين العرب واليهود، فجبهة يافا كانت ملتهبة كل الوقت، وكان العرب يبلون بلاء حسنا، ويتصدوا لكل الهجمات الصهيونية على حدود يافا.

ففي ١٠ شباط/ فبراير، قام مناضلو جبهة الجبالية بالتغلغل إلى "بات يام" وزرع ألغام حول عمارة من طابقين وتفجيرها، وعلى إثر هذا التفجير نشبت معركة حامية الوطيس بين العرب واليهود، قتل فيها بعض اليهود، ما عدا الذين ماتوا داخل العمارة، وفِي نفس اليوم شهدت جبهات يافا كلها معارك طاحنة، في المسلخ وأبو كبير وسلمة وعلى طريق القدس وتل الريش ومنطقة كرم صوان والبصة.

وكانت هناك معركة كبيرة ناحية المنشية في ١١ شباط/ فبراير، وفِي اليوم التالي دامت معركة في بيت دجن لمدة ثلاث ساعات جرح فيها عشرون يهوديا.

وابتدأ العرب يأخذون زمام المبادرة ويهاجمون الأحياء اليهودية والمستعمرات المجاورة، وكانت خسائر اليهود كبيرة، فمثلا في ١٦ شباط/فبراير سقط من اليهود ٤٠ بين قتيل وجريح، حسب المصادر الصهيونية، وذلك في معارك طاحنة عند احياء أبو كبير وكرم التوت والبصة.

وهكذا أصبحت المعارك تشتد يوما فيوما، وصارت قيادتها العربية تصدر بيانات يومية عن أحداث الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، وخلالها استمر اليهود في الهجوم اليومي على يافا من أجل إرهاق المناضلين ومنعهم من الراحة، وتحييد تفكيرهم عن الهجوم المبيت على يافا.

ومنذ نهايات آذار/ مارس ابتدأ العرب باستعمال قذائف تحمل كمية كبيرة من البارود، مما نشر الرعب والخوف في تل أبيب، وترك الكثيرون بيوتهم وامتلأت المدينة بالنازحين، ورغم ذلك ظلت "الهاغاناه" متمسكة بخطتها القاضية بالاكتفاء بمحاصرة يافا، ومضايقتها يوميا، وإشغال حاميتها في معارك جانبية، ومن ثم احتلال القرى المجاورة لها، وبذلك تصبح محاصرة حصارا كاملا، فتسقط "كثمرة نضجت" كما وصفت ذلك قيادات "الهاغاناه"، والتي كانت تعتقد أن الهجوم على يافا سيكلفها الكثير من الضحايا ولا ضمانة بأن الانتصار قد يتحقق، ولأنها كانت لا تريد التورط في معركة مع الجيش البريطاني المتمركز في يافا، وكانت تعتقد أن أي هجوم من أجل احتلال يافا يجب أن يكون بعد الانسحاب البريطاني من المدينة، أي في ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨.

أما منظمة "الإيتسل" (الإرجون) فصارت تتحضر على قدم وساق من أجل معركة الهجوم على يافا، لأنها اعتقدت أن يافا هي الخطر الأول المحدق بالدولة اليهودية المزعومة، وأن استمرار يافا بالوجود في حالتها هذه، ومهاجمتها لتل أبيب يوميا، من شأنها أن تقوض فكرة الدولة اليهودية، وصار التنظيم يبث أن الخطر على تل أبيب سيكون من البحر إذا قامت مصر بعملية إنزال على شواطئ يافا، بعد جلاء بريطانيا عنها، ودخول الجيوش العربية إلى فلسطين كما كان مقررا.

"الإيتسل" يتحضر للهجوم

كان "الإيتسل" يتمركز في تل أبيب منذ شهر تشرين ثانٍ/ نوفمبر في عدة تحصينات منها: حي "شابيرا" وحي "هاتكڤا" وحي "ناڤي تسيدك" وحي "كيرم هتيمنيم". ومن هذه التحصينات كان محاربوه يقومون بمهاجمة يافا بين الحين والآخر، ومحاولة اختراق مراكز العرب الأمامية.

في ٦ نيسان/ أبريل ١٩٤٨، تسلل مقاتلو "الإيتسل" بزي الجيش البريطاني، مستعملين سيارتين مصفحتين بريطانيتين، إلى معسكر ٨٠ بجانب مستعمرة "برديس حنا"، ودخلوا إلى مخزن الأسلحة، وسرقوا ٦٢ بندقية و ٣٩ بندقية أوتوماتيكية، و ٢١ مدفع رشاش من نوع برن، وقذائف مدافع "فيات"، وكمية كبيرة من الدخائر. وقام البريطانيون بمهاجمة القوة المتسللة، وجرى إطلاق نار بين الطرفين، قتل على إثره قائد القوة البريطانية وسبعة من جنوده.

وفي ١٧ نيسان/ أبريل، هاجمت قوة من "الإيتسل" قطارا بريطانيا محملا بالأسلحة بجانب الخضيرة، وبعد أن فجرت سكة الحديد واضطرته للتوقف، أطلقت النار على الجنود. وفِي نهاية المعركة وبعد استسلام البريطانيين، حصل رجال "الإيتسل" على ٦٠٠٠ قذيفة مدفع ٣ إنش، كان لها أكبر الأثر على معركة يافا.

في هذه الأثناء قام التنظيم بدعوة جنوده من تل أبيب ونتانيا والقدس وغيرها، وقام بتركيزهم في معسكر "دوڤ" بجانب تل أبيب، من أجل التحضير للهجوم، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها هذا العدد من المقاتلين لهذا التنظيم الإرهابي السري، ومن أجل معركة علنية كبيرة للمرة الأولى من حياة "الإيتسل"، وكان عدد الجنود الذين أعدهم للمعركة أكثر من ٦٠٠ جندي، وكان معهم ١٨٠ بندقية، و ٤٠٠ ستن، ٣٥ رشاش من نوع برن، و ٢٠٠٠ قنبلة، و ٢ مدفع فيات، و ٢ مدفع هاون ٣ إنش، و ٢٠ طن من قذائف ٣ إنش، و ٢ طن متفجرات، و ٦٠ ألف طلقة بندقية، وكمية كبيرة من الديناميت وقنابل المولوتوف.

تقرر أن يوم الهجوم على يافا سيكون في ٢٥ نيسان/ أبريل ١٩٤٨.

الهجوم على يافا

كانت الخطة تستهدف حي المنشية، رأس الحربة في الدفاع عن يافا، وذلك بواسطة الهجوم عليه بقوتين في نفس الوقت، الأولى يكون هدفها الوصول إلى شاطئ البحر، وفصل حي المنشية عن باقي أحياء يافا، والثانية تتجه جنوبا ثم تخترق الدفاعات العربية وتصل حتى البحر، وبعدها تغير مسارها إلى داخل يافا حتى تصل إلى ساحة الساعة.

في نفس الوقت، نصبت قوات "الإيتسل" مدفعي هاون من عيار ٣ إنش مقابل يافا، وذلك من أجل إطلاق القذائف كل النهار بدون توقف على مناطق مختلفة في المدينة، ولهذا الغرض أعدت القوات المعتدية أكثر من ١٢٠ خارطة لمواقع داخل المدينة من أجل قصفها. كان الهدف من القصف إثارة الرعب في قلوب السكان، والتغطية على المهاجمين، ووجهت المدافع إلى ناحية الميناء وساحة الساعة والسجن وشارع الملك جورج والعجمي، ونصبت في ساحة مدرسة "إليانس".

ابتدأت المدافع بإطلاق نيرانها في تمام الساعة التاسعة صباحا من يوم الأحد، الموافق ٢٥ نيسان/ أبريل ١٩٤٨. فِي نفس الوقت تحركت قوتان راجلتان باتجاه منطقة حدود يافا عند المنشية، الأولى باتجاه محطة القطار، والثانية تقدمت باتجاه موقع عربي بشارع "ڤولزين" من أجل احتلاله، والتغطية على القوة الثانية الذاهبة باتجاه البحر.

كانت قيادة "الإيتسل" تعتقد أن التحصينات القوية للعرب، ستؤدي بهم إلى نوع من التراخي بسبب عدم نجاح الصهاينة في اختراقها طوال الأشهر الماضية، وأن هجوما كبيرا مباغتا سيؤدي إلى انتصار سريع، ولكن العرب خيبوا آمالهم إذ أنهم كانوا جاهزين للمعركة، وكانت تحصيناتهم مبنية بطريقة مهنية محكمة.

ادعى قياديو "الإيتسل" ونشر كتّابها في أدبياتهم، أن التحصينات العربية بنيت بطريقة محكمة، وعلى الأغلب، بأيدٍ ليست عربية، في إشارة منهم إلى بريطانيا، حيث أنهم يتهمونها أيضا بأنها دافعت عن يافا، وحاربت بجانب العرب، ويعود ذلك الادعاء، أي أن التحصينات ليست بأيد عربية، إلى سببين، الأول للتغطية على فشلهم في الأيام الأولى للحملة على يافا، ومحاولة إظهار أن خطتهم كانت محكمة وقرارات الزعيم مناحيم بيغن وقادة جيشه حكيمة، ولتعظيم إنجازهم "الكبير" في احتلال يافا، رغم معارضة وسخرية "الهاغاناه" منهم وباقي القيادة والصحف الصهيونية. سبب آخر لهذا الادعاء، هو عدم احترامهم لقدرات العرب في القتال والتنظيم العسكري، إذ "أنهم مجموعة من رجال العصابات الذين يعرفون القتل والحرب العشوائية فقط".

فشل الهجوم الأول

ما أن تقدمت القوتان المدججتان بالأسلحة إلى مراكز الدفاع العربية، حتى فتحت عليهما نار شديدة أوقفت تقدهما، كانت التحصينات العربية مبنية بطريقة أن كل نقطة دفاع تغطيها أكثر من نقطة أو أكثر، وإذا سقطت نقطة دفاع متقدمة، فهناك خط دفاعي متأخر يعمل على صدّ الهجوم بقوة، ومن ثم القيام بهجوم مضاد من أجل استرداد الموقع. كما أن أغلب نقاط الدفاع كانت محصنة بالباطون المسلح، ومزودة بمدافع رشاشة قامت بصلي المهاجمين بنيران شديدة، منعتهم من التقدم السريع، بل وردّت كل مجموعة كانت تتقدم على أعقابها، وعندما استطاعت إحدى القوتين أن تسيطر على إحدى نقاط الدفاع عند سكة القطار، استطاع العرب استعادتها بعد هجوم مضاد، حيث تواجه الطرفان بالأيدي والسلاح الأبيض، وانتقلت النقطة من طرف إلى آخر حتى استطاع العرب استرجاعها، بعد انسحاب مقاتلي "الإيتسل" منها تحت وقع ضربات المناضلين العرب.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجنود اليوغسلافيين أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن المنشية.

حصلت عدة محاولات خلال النهار من أجل اختراق الدفاعات العربية، ولكنها فشلت الواحدة تلو الأخرى، وتكبد الصهاينة خسائر كبيرة، وجاء الليل بدون تحقيق أي تقدم، وارتد المهاجمون على أعقابهم للتفكير بما سيعملونه في اليوم القادم.

استمرت المدفعية بإطلاق القذائف كل نهار اليوم الأول للهجوم، وكانت كمية القذائف كبيرة جدا، وهو ما لم يتوقعه أحد. في ساعات الظهر انتشرت في المدينة معلومة تقول إن "الإيتسل" هو الذي يقوم بالهجوم، فصار أهل المدينة يفكرون بمصيرهم في حالة سقوط المدينة بيده، واعتقدوا أنه سيكون كمصير دير ياسين، فابتدأ الناس بترك المدينة والسفر شمالا، مما أعاد "للإيتسل" أمله بأن يتحقق هدفه في إخلاء المدينة من سكانها، حيث أن قوة من جنوده كانت قد تمركزت بجانب "ميكڤي يسرائيل" لمنع وصول الدعم إلى يافا، وشاهدت هذه القوة السيارات العربية المسافرة من يافا، وجاءت "بالبشرى" لقيادة "الإيتسل"، التي كانت في حيرة من أمرها، بعد استهتارها بقوة العرب قبل الهجوم، وشعورها المهزوم بعدم قدرتها على تحقيق أي تقدم في اليوم الأول من الهجوم.

الهجوم يبدأ من جديد

في يوم الإثنين صباحا، عادت المدفعية عيار ٨١ ملم، إلى قصف يافا بشدة، كانت تطلق قذائفها وتنشر الرعب والموت في كل أنحاء المدينة. وهنا بودي أن أشير، ورغم أني لست عالما بأمور العسكر، إلا أنني أستغرب كيف ترك العرب مدفعين موجودين على مقربة منهم، وفِي مرمى نيرانهم بالاستمرار في قصف يافا على هذا النحو، والتأثير على معنويات السكان.

تقرر في هذا اليوم أن يتركز الهجوم باتجاه محطة السكة الحديد، وبعد احتلالها تقوم القوات بتطويق نقاط الدفاع العربية والهجوم عليها من الخلف. تزودت القوات المهاجمة بكمية كبيرة من المتفجرات علها تستطيع تفجير بعض نقاط الدفاع وهدمها على رؤوس المدافعين.

تقدمت القوة باتجاه البحر، وعندما اقتربت من المحطة، صليت بنار شديدة من قبل المدافعين العرب، فلم تستطع التقدم قيد أنملة، ورغم تدخل المدرعات التي يملكها تنظيم "الإيتسل"، واستعمال مدفعية من نوع فيات، إلا أنهم لم ينجحوا في التقدم، ورغم أن المهاجمين استطاعوا تدمير نقطة دفاع عربية واحدة، إلا أن العرب سرعان ما استردوها، واستمر القتال كل النهار بدون تحقيق أي نجاح عسكري في جبهة المنشية.

جاء الليل، وأصبح موقف "الإيتسل" حرجا، وكانوا في حالة يأس شديد، حتى أن مناحيم بيغن قائد التنظيم، كان يفكر بأن يوقف الحملة وأن ينهي الهجوم، ويسحب أغلب القوات بعد أن اعترف بالفشل الذريع في اختراق جبهة المنشية.

في هذا اليوم المشؤوم، تزايد هروب الناس من يافا بكل أحيائها. حول القصف يافا إلى بلد ينعدم فيه الأمان، فاحتشد الناس في الميناء منتظرين قدوم سفن مصرية لتأخذهم عبر البحر إلى خارج المدينة، أو صعدوا كل مركب أرضي من الممكن أن يأخذهم شمالا، وهرب، فيمن هرب، الجنود الحمويون الذين قدموا مع قائد حامية يافا عادل نجم الدين.

يافا سقطت من الداخل، دون أن تسقط تحصيناتها، وصار الدفاع عن يافا أكثر صعوبة عندما خلت من سكانها.

اتفاق "الإيتسل" و"الهاغاناه" وحملة "حيمتس"

رغم أن مناحيم بيغن كان يريد أن يوقف الهجوم على يافا، إلا أنه غير رأيه بعد التشاور مع قيادات جيشه، والاتفاق مع تنظيم "الهاغاناه" أن لديه فرصة واحدة فقط، وذلك أن يقوم باحتلال المنشية خلال أربع وعشرين ساعة من الاتفاق، الذي كان مساء الثلاثاء ٢٧ نيسان/ أبريل. كان الاتفاق ينص على توحيد الجهود من أجل احتلال أكبر قسم من فلسطين قبل خروج بريطانيا منها. وحصل "الإيتسل" على ٢٠ ألف طلقة مدفع رشاش ستن بعد الاتفاق، وبالمقابل أعطى "الهاغاناه" مدفعية ٣ إنش من أجل استعمالها في احتلال قرية سلمة، حيث أن "الهاغاناه" قررت أن تقوم في نفس تلك الليلة بالهجوم على القرى المحيطة بيافا واحتلالها، في يسمى بحملة "حيمتس". كانت التعليمات واضحة وضوح الشمس، لا يمكن إبقاء سكان هذه القرى في بيوتهم، وعلى القوات المشاركة أن تجليهم عن أراضيهم.

اشترك في هذه الحملة ثلاث كتائب، كتيبة "كرياتي"، وكتيبة "أليكسندروني" وكتيبة "چڤعاتي".

قامت كتيبة "كرياتي" في ليل ٢٧-٢٨ نيسان/أبريل بقصف القرى سلمة وجبالية وأبو كبير، هذه القرى التي أبلت بلاء حسنا حتى اليوم في المعارك التي دارت منذ قرار التقسيم، كان الهدف من هذا الهجوم تمويه المدافعين عن القرى، ومنعهم من المشاركة في معارك احتلال القرى الأخرى.

قامت كتيبة "الكسندروني"، في نفس الليلة، بتطويق يافا من جهة الشمال، عن طريق احتلال قرية خيرية وقرية ساكيا، وبذلك قطعت طريق قرية سلمة-يهودية، عندها قام العرب بهجوم مضاد من قرية سلمة إلا أن الهجوم فشل، وفِي الليلة التالية قامت الكتيبة باحتلال قرية سلمة بمساعدة كتيبة "كرياتي".

في ٢٨ نيسان/ أبريل قامت كتيبة "چڤعاتي" بمهاجمة تل الريش. ابتدأ الهجوم في الساعة الثانية صباحا، واستطاعت الكتيبة احتلال التل بدون مقاومة تذكر، ولكن كتيبة من جيش الإنقاذ بقيادة الرئيس ميشيل العيسى، قامت بهجوم مضاد، واشتبكت مع "چڤعاتي" واضطرتها إلى الانسحاب بعد قتال مرير، وتكبيدها خسائر فادحة، حيث سقط ٢١ جنديا قتيلا، وجرح أكثر من مائة.

في اليوم التالي قامت "چڤعاتي" باحتلال قرية يازور، وبهذا انتهت الحملة التي جعلت يافا محاصرة نهائيا ولا يمكن للعرب أن يقدموا لها شيئا، ولن يستطيع أهل المناطق التي احتلتها "الهاغاناه" المشاركة في القتال الدائر في يافا المدينة.

المعركة الحاسمة وسقوط المنشية

حاول رئيس بلدية يافا، حسين الهيكل، أن يحصل على مساعدة عربية من الملك عبدالله، إلا أن طلبه رفض بسبب عدم إمكانية إمداد القوات إذا رابطت في يافا، بسبب أنها بعيدة عن المناطق العربية الأخرى، وهذه الخطوط ستكون معرضة لهجمات صهيونية.

كان الناس في حيرة من أمرهم أمام القذائف التي تسقط عليهم كل النهار من مدافع "الإيتسل"، وهربوا من بيوتهم إلى البيارات منتظرين أن يبشرهم أحد بخير، وأن يؤملهم بأن الجيوش العربية قادمة، ولكن أملهم خاب خيبة كبيرة عندما سمعوا من رئيس البلدية أن لا أمل في الدفاع عن يافا، فاشتد الهروب من المدينة، ولم يقتصر الهجيج على الأغنياء والموسرين، كما حصل في اليومين الأولين للهجوم، بل أصبح الفقراء لا يلوون على شيء، ويأخذون ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وأحيانا لا يأخذون شيئا بسبب الخوف من شبح الموت القادم من منظمة "الإيتسل". لم يبق في يافا أكثر من عدة آلاف، مما كان له أكبر الأثر على معنويات المدافعين عن يافا، فهرب منهم العشرات، عندما تخفوا بين الناس الخارجين من يافا.

أما "الإيتسل" فقد قرر قادته أن يغيروا الخطة، فالخطة الرامية إلى احتلال نقطة دفاع واحدة أو أكثر باءت بالفشل، وتسببت للتنظيم بخسائر فادحة، ولذلك تفتقت أدمغتهم عن أن يقتحموا يافا بواسطة إحداث ثغرة في خطوط الدفاع اليافية، وذلك عن طريق هدم بيوت قائمة والتسلل من خلالها إلى خلف مواقع الدفاع العربية، وعندها يقوم جنودهم ببناء تحصينات مكونة من أكياس من الرمل، على أن يتقدم الجندي الأول مع كيس رمل، ويليه آخر وآخر، حتى يستطيعوا بناء سد من أكياس الرمل، يحمي الجنود من رصاص العرب.

ابتدأ تنفيذ الخطة في الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم الأربعاء ٢٨ نيسان/أبريل، على أن تقوم قوة بإحداث الثغر بين البيوت، وتقوم قوة أخرى بالتغطية عليها بواسطة تنفيذ هجوم على المواقع العربية المتقدمة، من جانب سكة الحديد، بحيث يعتقد العرب أن الخطة الأصلية لم تتغير.

وصارت الخطة وفق ما كان مرسوما لها، ولكن مهاجمي "الإيتسل" قوبلوا بمعركة قاسية جدا، حتى بعد أن أحدثوا الثغرة، ووصلوا إلى الشارع خلف نقاط الدفاع، وتكبدوا خسائر فادحة، ولكنها لم تمنعهم من تحقيق الهدف بالوصول إلى البحر، في الساعة السابعة صباحا من يوم الخميس ٢٨ نيسان/ أبريل، بعد معركة استمرت لمدة ست عشرة ساعة.

بعد وصول "الإيتسل" إلى البحر، وفصل المنشية عن باقي أجزاء يافا، ابتدأت حملة احتلال كل أجزاء الحي، وجامع حسن بيك. أما المقاتلون العرب فقد انسحب أكثرهم إلى أحياء يافا الأخرى، ومن هناك إلى خارج المدينة، وأصبحت المدينة خاوية إلا من خمسة آلاف شخص بقوا فيها من أصل ٩٠ الفا.

هنا تدخل الجيش البريطاني، لمنع "الإيتسل" من التقدم إلى أماكن أخرى في المدينة، خوفا على قواته من التنظيم الذي نفذ ضده عدة عمليات، وتم الاتفاق على أن يسلم "الإيتسل" زمام الأمور إلى "الهاغاناه"، وينسحب جنوده من المدينة.

سقوط يافا والتوقيع على الاستسلام

سادت الفوضى في يافا، إذ أصبح الناس "أيتاما على مأدبة اللئام"، فرئيس البلدية كان قد ترك المدينة، وكذلك أعضاء اللجنة القومية، وأعضاء البلدية ما عدا أحمد أبو اللبن، الذي أخذ على عاتقه، إقامة لجنة طوارئ حاولت أن تعنى بشؤون أهل يافا، ووجهت رسائل مختلفة إلى الأمم المتحدة والدول العربية وحاكم اللواء البريطاني وغيرهم من أجل تقديم المساعدة لأهل المدينة، ولكن كل هذه الرسائل لم تلاق آذانا صاغية، فقررت اللجنة في ١٢ أيار/ مايو ١٩٤٨، التوجه إلى قائد "الهاغاناه" في منطقة تل أبيب من أجل الاتفاق على تسليم المدينة.

في نفس اليوم عقد الاجتماع بين لجنة الطوارئ و"الهاغاناه"، بحضور حاكم لواء اللد البريطاني، واستمر النقاش حول وثيقة الاستسلام حتى الساعة الرابعة إلا ربعا من ١٣ أيار/ مايو، حيث وقعت الوثيقة بين لجنة الطوارئ المكونة من أحمد أفندي أبو اللبن وأمين أفندي أندراوس وصلاح أفندي ناظر وأحمد أفندي عبد الرحيم، وكانت الاتفاقية جيدة بالنسبة إلى ظروف توقيعها، فقد نصت على عدم التعرض للعرب الذين حاربوا في معارك يافا، وأن تعطى الإمكانية لعودة أهل يافا.

سقطت يافا واستسلمت "للهاغاناه"، وبذلك كانت الإنجاز الأكبر الذي حققه الصهاينة تماما قبل إعلان دولتهم، والعرب ما زالوا ينتظرون انسحاب بريطانيا من أجل أن يدخلوا جيوشهم إلى فلسطين. والسؤال هو لماذا لم يهاجموا تل أبيب في تلك الأيام، رغم قدرتهم على فعل ذلك، فلديهم الجيوش المدربة، والعتاد اللازم لخوض المعركة؟