في "الأراضي المُفرغة: الجغرافيا القانونية لحقوق البدو في النقب" الذي صدر مؤخرا عن دار نشر جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة الأميركية ، يقول مؤلفو الكتاب، أحمد امارة، وأورن يفتاحئيل، والكساندر كيدار، إن دولة اسرائيل قامت بسلب أراضي العرب البدو بأثر رجعي مستخدمة عقيدة مشابهة للعقيدة الشهيرة والسيئة "تيراي نوليوس" أو "الأراضي بدون مالك" والتي استخدمها الأوروبيون الاستعماريون للسيطرة على الأراضي في أفريقيا وجنوب وشمال أميركا وفي أستراليا.

"عقيدة النقب الميت"، هي عقيدة قانونية وضعها فريق من وزارة القضاء الإسرائيلية، برئاسة المحامية بليا ألبيك، في منتصف السبعينيات، التي عرفت بدورها الرئيسي في التيسير القانوني للسيطرة والاستعمار اليهودي على أراضِ في الضفة الغربية.

وتنصّ تلك العقيدة على أنه حتى فترة الانتداب البريطاني كان البدو رُحّلا، لم يعملوا بالزراعة، ولم يكن لهم مكان سكن ثابت؛ وبذلك فإنّ الأرض في تلك المنطقة هي "ميتة" فعليا. وعلى هذا الأساس، ادّعت الدولة أنّ عدم تسجيل الأراضي عام 1921 جعل هذه الأراضي ميتةً للأبد، بغض النظر عن طول فترة زراعتها أو حيازتها.

وبسبب الضعف السياسي والقانوني للمجتمع العربي البدوي، لم تواجه عقيدة النقب الميت تحديًا فعالا حتى الوقت الحاضر مما ساهم ومكّن من خلق وإيجاد سوابق قانونية قوية لنزع ملكية العرب البدو لأراضيهم. ويبدو أنه من الصعب التغلب على هذه السوابق في النظام القانوني الإسرائيلي الذي يفتقر إلى وجود دستور، ويعتمد بشكل كبير على السوابق القانونية. وما ويزيد من هذه الصعوبة هو التحيّز السياسي للقضاء والذي سهّل وفضّل الاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي منذ 1948 وحتى الوقت الحاضر.

كما أن منطقة النقب لم تحظ بالدراسة الكافية باعتبارها أحد وجوه وأبعاد الصراع "اليهودي"- الفلسطيني على الأرض، الصراع المتواصل بين دولة إسرائيل الاستيطانية والفلسطينيين المحليين في الجليل والضفة الغربية وغزة والقدس. والذي تحول في العقد الأخير جزء منه إلى النقب، حيث تُجدّد إسرائيل محاولاتها لإخلاء السكان البدو وبناء مستوطنات يهودية جديدة، كما يتجلى ذلك في قضية أم الحيران والتي تجسد التاريخ والحاضر الاستعماري للمنطقة.

حول موضوع الكتاب وقضية أراضي النقب واستغلال القانون العثماني والبريطاني من قبل اسرائيل للسيطرة على الأرض الفلسطينية، كان هذا الحوار مع د. أحمد أمارة أستاذ القانون والباحث في معهد "فان لير"، والمحاضر في فرع جامعة نيويورك في تل أبيب.

عرب 48 : أنت ترى صراحة أن القضاء الإسرائيلي، وعلى رأسه المحكمة العليا، هو اليد الطولى في خدمة المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وهو الذي وفرغطاء قانونيا لتمويه سياسات التهويد وشرعنتها، كما أنه استغل وطوّع القانون العثماني والقانون البريطاني لهذا الغرض؟

أمارة: من الواضح أن عمليات المصادرة والترحيل والهدم وإعادة التوطين، الواسعة النطاق، التي جرت بشكل خاص في المراحل الأولى لتأسيس إسرائيل، لم يعقها أي تدخل قضائي يذكر، مع أن سلب الأرض، وهدم البيوت والتهجير، قد تم في فلك القانون والقضاء ضمن أوامر قانونية وقرارات قضائية. وهذا الدور الداعم من جهة القضاء استمر حتى اليوم على الرغم من السمعة الليبرالية العامة والمغلوطة التي تتمتع بها المحكمة العليا منذ تسعينيات القرن الماضي، وعلى الرغم مما يسمى إسرائيليا بالثورة الدستورية.

ونرى أنه في الوقت الذي يشن فيه اليمين الإسرائيلي هجوما على ''ليبرالية'' المحكمة العليا، ويسعى إلى إعادة هيكلتها، تبدي تلك المحكمة دعما بوتيرة عالية نسبيا لممارسات التهجير والمصادرة الجارية عبر شّقي الخط الأخضر، ولعل خير مثال على ذلك هو قرارها المتعلق برفض التماس أهالي أم الحيران ضد قرارات الحكومة بهدم بيوتهم وإخلائهم من قريتهم بغرض إقامة مستوطنة يهودية تحمل نفس الاسم مكانها.

لقد وفرت العليا في أم الحيران غطاء قانونيا لعملية محو كامل لقرية فلسطينية، واستبدالها بقرية يهودية بشكل مباشر، كذلك فإن إخلاء القرية سيكون أكبر عملية ترحيل داخل إسرائيل في العقود الأخيرة.

وقبل يوم واحد فقط من قرار أم الحيران، أصدرت المحكمة العليا قرارا آخر بشأن قرية سوسيا، التي تقع جنوبي مدينة الخليل، والتي لجأ أهاليها إلى المحكمة العليا آملين أن توقف تهجيرهم للمرة الثالثة وتمنع هدم مساكنهم.

وكان أهالي قرية سوسيا قد انتقلوا بعد تهجيرهم الأول في ثمانينيات القرن الماضي، إلى السكن في مغاور منطقة جنوبي الخليل، لكن الجيش ّ الإسرائيلي طردهم من تلك المغاور، وسد مداخلها لمنعهم من العودة إليها، فاضطروا إلى العودة إلى منطقتهم الأصلية وبناء مبان ً بالموافقة وخيم، لكن المحكمة أصدرت قرارا بهدم تلك الخيم والمباني.

ويعاني أهل قرية سوسيا وباقي تجمعات وقرى جنوبي الخليل التهجير بهدف إخلاء مناطق قرب الخط الأخضر والمنطقة "جـ"، إذ تسعى إسرائيل إلى هدم قرى المناطق المحاذية للقدس، كما في الخان الأحمر وحول مستوطنة "معاليه أدوميم"، وتركيزسكانها في مجمع "النويعمة" الذي تقيمه لهذا الغرض، وهو مخطط يتم بغطاء قانوني من المحكمة العليا الإسرائيلية.

عرب 48: كيف تستغل إسرائيل قانون الأراضي العثماني وتطوعه لصالح تمرير مخططات المصادرة والاقتلاع تلك؟

أمارة: إسرائيل تتجاهل عمدا، وبشكل صارخ، التاريخ القانوني والزراعي والاستيطاني للنقب، وهي تدّعي أنّ الفرصة قد أُتيحت للبدو لتسجيل أراضيهم عام 1858، وقت تشريع قانون الأراضي العثماني، أو عام 1921 كما كان مطلوبًا بموجب تشريعات الانتداب البريطاني، ولكن البدو لم يسجلوا أراضيهم. وعليه فإن الأراضي غير المسجلة يجب تصنيفها على أنها "ميتة" أو "أراضي موات"، وهي أرض فارغة، بعيدة، غير مأهولة، غير مزروعة، وغير مملوكة؛ ولذا يجب أن تعود ملكيتها، وفق القانون العثماني، للدولة.

ولهذا الغرض كانت الحكومة الإسرائيلية قد شكلت عام 1975 ة لجنة خاضة لمعالجة دعاوى الملكية التي قدمها بدو النقب، برئاسة المحامية بليا البيك المعروفة باضفاء الشرعية على مصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات في الضفة الغربية، وخلصت استنتاجات وتوصيات تلك اللجنة إلى أن أراضي النقب المطالب بها هي أراض موات بحسب قانون الأراضي العثماني، وبالتالي فإنها أراض تابعة للدولة.

وبعكس توقعات البيك ذاتها صادقت المحكمة العليا عام 1984 على توصياتها بشأن اعتبار أراضي النقب أراضي "موات"، وذلك عندما رفضت استئناف عائلة الهواشلة على قرار المحكمة المركزية بهذا الخصوص، حيث نفت المحكمة حق الهواشلة وحقوق باقي المدعين في الملكية، وأقرت بأن هذه الأراضي هي فعليا أراض موات، وبذلك صارت أراضي دولة إلا إذا ثبت عكس ذلك، ومن يومها هيمنت تلك السابقة والتوجه على التعامل مع قضية النقب في الأطر السياسية والقانونية والعامة.

عرب 48 :: لكن ما هو تعريف أراضي "الموات" وفقا للقانون العثماني، فالكثير منا يسمع مصطلحات "موات" و"ميري" ولا يعرف معناها، ثم كيف جيرت إسرائيل هذه التعريفات لمصلحة سيطرتها على أراضي الفلسطينيين؟

أمارة: تم تعريف أراضي الموات بموجب قانون الأراضي العثماني لسنة 1858( المادتان 6 و103 ) بأنها الأراضي الخالية وغير الآهلة، أو المناطق الجبلية الصخرية، والتي تقع خارج نطاق صرخة جهير الصوت إذا ما صرخ من طرف البلدة، أو التي تقع على بعد 30 دقيقة سيرا على الأقدام، أو مسافة 1.5 ميل من طرف البلدة أو المنطقة الآهلة. َوحظي كل من قام باستصلاح تلك الأراضي، أي تحويلها إلى أرض صالحة للزراعة بامتلاكها كأرض ''ميري'' (الأرض الأميرية تمنح المتصرف في الأرض حقوقا تسمح بزراعتها، وبيعها أو رهنها، تضر وحتى بتوريثها)، حتى لو فعل ذلك دون تصريح من السلطات العثمانية.

وكانت هذه السياسة تتلاءم مع الشريعة الإسلامية لإحياء أرض البور، ومع سياسة الحكومة العثمانية التي تهدف إلى توسيع نطاق الأراضي الزراعية، الأمر الذي يؤدي إلى رفع واردات خزينة الدولة من الضرائب على الأرض الزراعية.

عرب 48: وهل اعتمد هذا التشريع دون تغيير في عهد الانتداب البريطاني؟

نعم، لكن حكومة الانتداب أدخلت تعديلا عليه بواسطة سن قانون أراضي الموات (1921 ) الذي يندرج ضمن عملية إحكام السيطرة على الأراضي العامة، حيث أقر َهذا القانون أن كل من يريد زراعة وإحياء أرض الموات يتعين عليه الحصول على موافقة مسبقة من الحكومة، وإلا فإنه سيكون عرضة للمحاكمة كمعتد على أراضي الدولة.

عرب 48: وكيف تعاملت إسرائيل مع تعريفات "الموات" و"الميري"؟

أمارة: على الرغم من سن قانون الأراضي 1969 وقانون تسوية الأراضي 1969 فإن تلك القوانين ّ نصت على أن التشريعات القديمة ستبقى سارية المفعول، وتنطبق في حالة تسوية حقوق الأراضي وإذا ما تم الاعتماد عليها للمطالبة بحقوق ملكية.

وقد سعى التفسير الإسرائيلي لتلك القوانين إلى توسيع تعريف ما يعرف بأراضي الموات، وفي الوقت ّ نفسه الحد من من تعريف أراضي الميري التي تخول صاحبها ملكية مطلقة للأرض، وكان من المنطق وبحسب القانون اعتبار جميع الأراضي الزراعية أراضي ميرية، علما أن ادعاء الموات يشكل فرض نقطة بداية سياسية ً وقانونية ضد المدعين، وانتهاكا لحقوقهم في الأرض.

كذلك اعتمدت المحكمة العليا في تفسيرها لبنود القانون عامل المسافة من منطقة آهلة فقط، واشترطت أن تكون المنطقة الآهلة مدينة أو قرية أقيمت قبل عام 1858، على الرغم من أن مدينة بئر السبع ذاتها أقيمت عام 1900.

عرب 48: من الواضح أن تفصيل القانون وتفسيره يخدم غرض المصادرة والاستيلاء على الأرض، ناهيك عن محاولات قلب الجغرافيا والتاريخ لتحقيق هذا الغرض؟

أمارة: إسرائيل تتجاهل كون البدو لا زالوا يقيمون في هذه الأراضي ويزرعونها على مرّ الأجيال، وتتمسك بمسألة عدم تسجيل هذه الأراضي فقط في محاولة مسبقة لتحوّيلها لأراض "فارغة" قانونيًا وتحويل أصحابها لمُعتدين ومتسللين.

كذلك هي تدأب على دحر وإخفاء تاريخ المنطقة وثقافتها الأصلانية من أجل سلب أراضي النقب، من خلال التلاعب المُمنهج بقوانين الأراضي العثمانية والبريطانية، علما أنّ الأدلة الواضحة كثيرة، وتؤكّد تواجد الزراعة وسكن البدو العرب منذ قرون في المنطقة ( مع جباية ضرائب واعتراف الأنظمة السياسية السابقة) كما هو الحال بالنسبة للأدلة التي تشير إلى وجود نظام أراضِ محلي ناشط وفعال، والذي كان يحظى باحترام واعتراف الحكام السابقين، كما أثبتنا في كتابنا، هذا ناهيك عن أنّ ازدياد شراء اليهود لأراضي البدو خلال فترة الانتداب البريطاني، يُثبت بلا شك قبولا واعترافا بملكية البدو للأراضي في هذه المنطقة.

عرب 48: وما هي التوصيات التي خرجتم بها، وإن كانت لمقتضيات البحث العلمي؟

أمارة: كسكان المنطقة منذ قرون عديدة، فإن البدو هم مجتمع أصلاني يجب أن يتمتع بالحماية القانونية الدولية، وللحدّ من موجة سلب أراضي البدو، يجب طرح بدائل قانونية وتخطيطية عادلة ومتساوية للنقب بشكل خاص. ولتحقيق ذلك طرحنا مقترحات لتفكيك العلاقات الاستعمارية، استنادا إلى الاعتراف بالماضي والمستقبل، وهو ما قد يحول منطقة النقب من وضعية الصراع إلى حالة تصالح، ومن الفقر إلى الازدهار لجميع السكان.


* د. أحمد أمارة: باحث في معهد "فان لير" ومحاضر في جامعة نيويورك (فرع تل أبيب). حصل على اللقب الأول وأنهى اللقب الثاني في القانون بامتياز في جامعة تل أبيب. عام 2004 حصل على منحة للتعليم الماجستير في جامعة إيسيكس ببريطانيا، وأنهى دراسة القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبحث في رسالته معارك الفالوجة بالعراق من منظور القانون الدولي الإنساني والانتهاكات التي ارتكبت هناك.

بعد تخرجه في سنة 2005 بدأ العمل في مجال المرافعة الدولية في دول عديدة شملت أبحاث وتحريات لانتهاكات ودراسة صراعات دولية وعمل في برنامج حقوق الإنسان في كلية الحقوق بجامعة هارفارد بين 2007-2010. شمل عمله الدولي دولا مثل كوسوفو- البوسنة والهرسك- صربيا ومونتينيجرو- جنوب أفريقيا- الأردن- بريطانيا والولايات المتحدة وغيرها.

يتركز ببحثه وبعمله على القضية الفلسطينية وبالذات مسألة الأراضي والنقب والمصادرات وشراء الأراضي في فلسطين منذ العهد العثماني، ولذا درس اللغة التركية الحديثة والعثمانية، ويعمل بالأراشيف العثمانية العامة والإسلامية والطابو في تركيا منذ العام 2010, حيث بدأ دراسته للقب الدكتوراة بجامعة نيويورك بالتاريخ القانوني والاجتماعي لفلسطين العثمانية. وله عشرات التقارير والمقالات في هذا المجال.