* حق تقرير المصير للفلسطينيين في إسرائيل يكفل المساواة بين الشعوب المشكِّلة للدولة

* المشكلة تكمن في قصور خطاب "الأقليات" عن تلبية حقوقنا الجماعية كمجموعة قومية

* "قانون القومية" يحصر حق تقرير المصير في كل فلسطين التاريخية بـ"الشعب اليهودي" فقط


انتقدت الخبيرة في القانون الدولي، د. سونيا بولس، في مقالين متتالين كتبتهما في الآونة الأخيرة ما وصفته بـ"خطاب الأقليات" الذي يتبناه بعض قيادة الجماهير الفلسطينية في إسرائيل، والذي يختزل النضال السياسي للفلسطينيين في إسرائيل في تفصيلات وقضايا وموارد وميزانيات، ويغيّب كون الفلسطينيين في إسرائيل مجموعةً أصلانية وجزءًا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وليسوا أقلية في فلسطين التاريخية ومحيطها العربي.

وبيّنت بولس قصور هذا الخطاب، خاصة عندما يطرح بمعزل عن السياق التاريخي الذي حول جزءًا من الشعب الفلسطيني إلى أقلية في وطنه، مشيرةً إلى أن المعاهدات والإعلانات الدولية التي تعنى بحقوق "الأقليات القومية" تعترف فقط بحقوق الأفراد المنتمين للأقلية، لا بحقوق المجموعة كوحدة واحدة.

ودعت الخبيرة في القانون الدولي إلى طرح قضية الداخل الفلسطيني، باعتبارها قضية حق تقرير المصير، وهو حق تكفله المعاهدة الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والمعاهدة الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويشكل تطبيقه شرطًا أساسيًا للضمان والاحترام الفعليين لحقوق الإنسان الفردية ولتعزيز هذه الحقوق وتقويتها، كما تقتبس.

سونيا بولس

ولكي تزيل الدهشة عن وجوه البعض، توضح د. بولس أن القانون الدولي يميّز بين طرازين لهذا الحق هما، حق تقرير المصير الخارجي، الذي ينسحب على الحالة الاستعمارية وإخضاع الشعوب للسيطرة والاستغلال والقهر والاستبداد الأجنبي؛ وحق تقرير المصير الداخلي، الذي ينسحب على ترتيبات حكم ذاتي داخلية تضمن المساواة بين الشعوب التي تتقاسم الدولة ذاتها، حيث تجسد فكرة حق تقرير المصير الداخلي مبدأ المساواة بين الشعوب.

ورغم تشديده على أن مبدأ حق تقرير المصير الداخلي، لا يجب أن يمزّق أو يخل، جزئيًا أو كليًا، بالسلامة الإقليمية والوحدة السياسية للدول المستقلة ذات السيادة، إلا أن القانون الدولي يشترط ذلك بالتزام تلك الدول بمبدأ تساوي الشعوب في حقوقها وحقها في تقرير مصيرها بنفسها، وبتمثيل الدولة لشعب الإقليم كله دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الديانة.

كما تورد بولس، في هذا السياق، التسويغَ الذي استخدمته المحكمة العليا في كندا لتبرير قرارها بعدم جواز استقلال إقليم الكويبك، بقولها إنّ القانون الدولي يحمي السلامة الإقليمية لكندا، كون الأخيرة تمثل جميع شعوبها على قدم المساواة، ولأنها تحترم مبادئ حق تقرير المصير الداخلي ضمن ترتيباتها الداخلية.

وإذا كانت الدول التي تحترم مبدأ المساواة بين شعوبها، يحق لها الحصول على حماية سلامتها الإقليمية، تحت مظلة القانون الدولي الذي يرى في الانفصال ممارسةً لحق تقرير المصير الداخلي "ملاذًا أخيرا للمظالم الخطيرة والمتواصلة"، فإنّ مسألة الانفصال غير واردة وغير قابلة للتطبيق في حالة الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، وذلك لغياب التواصل الجغرافي بين المدن والبلدات العربية، ولأن السياسات التمييزية تجاهها لا تصل درجة الخطورة التي تسوغ عملية الانفصال، كما تعتقد بولس، وإنْ كان ذلك لا يعفي إسرائيل من التزامها باحترام مبدأ المساواة بين شعوبها، خاصة وأن الفلسطينيين في إسرائيل ليسوا مجرّد أقلية، بل هم شعب أصلاني له الحق في تقرير المصير.

حول خطاب "الأقلية" وخطاب "حق تقرير المصير" والوضعية القانونية للفلسطينيين في إسرائيل بعد "قانون القومية" العنصري، كان هذا الحوار مع د. سونيا بولس:

* عرب 48: "حق تقرير المصير للفلسطينيين في إسرائيل" يبدو غريبا إن لم نقل "مخيفا" بعض الشيء؟

بولس: الخطاب الحقوقي يتعامل مع مواثيق ومعاهدات دولية ونصوص تنطبق أو لا تنطبق على الحالة الفلسطينية بتفرعاتها المختلفة، في الضفة والقطاع والشتات وداخل الخط الأخضر.

والحقيقة أنّه وفقًا لكل المعايير الدولية تلك نحن شعب ينسحب علينا مبدأ حق تقرير المصير، ولا يمكن قصر هذا الحق على جزء من هذا الشعب دون الآخر، كأن نقول إن حق تقرير المصير يسري على الجزء الواقع في الضفة والقطاع، ولا يسري على الجزء الواقع في الجليل والمثلث والنقب، وواقع أنّ هذا الجزء تحول قسرًا إلى أقليّة داخل دولة إسرائيل لا يلغي كونه شعبا أصلانيا ينطبق عليه مبدأ حق تقرير المصير الداخلي، بما يشمل ترتيبات دستورية تضمن المساواة التامة بين الشعوب المشكلة للدولة (إسرائيل).

* عرب 48: إذا كنا أقلية فعلا داخل دولة إسرائيل، فما الخطأ في خطاب الاعتراف بنا كأقلية قومية، بما يترتّب عن ذلك من صيانة حقوقنا الجماعية؟

بولس: لا خطأ في ذلك، ولكن المشكلة تكمن في قصور هذا الخطاب عن تلبية حقوقنا الجماعية، لأن المعاهدات الدوليّة الملزِمة، التي تُعنى بحقوق الأقلّيّات القوميّة، تعترف فقط بحقوق الأفراد المنتمين للأقلّيّة لا بحقوق المجموعة كوحدة واحدة، بمعنى أنّ حامل الحقّ هو الفرد لا المجموعة.

على سبيل المثال، تنص المادة 27 من المعاهدة الدوليّة المتعلّقة بالحقوق المدنيّة والسياسية لعام 1966، على أنّه "لا يجوز في الدول التي توجد فيها أقليت إثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقلّيّات المذكورة من حقّ التمتّع بثقافتهم الخاصّة أو المجاهَرة بدينهم وإقامة شعائرهم أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم".

وحتّى إعلان الأمم المتّحدة بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقلّيّات قوميّة أو إثنيّة وإلى أقلّيّات دينيّة ولغويّة لعام 1992، يشدّد على حقّ الفرد (لا المجموعة) في التمتّع بثقافته الخاصّة وممارسة دينه الخاصّ واستخدام لغته الخاصّة بحرّيّة ومن دون تدخّل أو تمييز.

ورغم أن الإعلان بمنطوقه العام يتحدث عن واجب الدول "بحماية وجود الأقلّيّات وهُوياتها القومية أو الإثنية، وهوياتها الثقافية والدينيّة واللغويّة، وبتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهُويّة"، إلا أنّه، عندما يدخل في تفاصيل هذه الواجبات الإيجابيّة، يرى الفرد حاملًا للحقوق المقابلة لهذه الواجبات.

* عرب 48: إذًا نعود إلى المربع الأول في كون قضيتنا قضية شعب لا تنفصل عرى قطاعاته المختلفة، ولا حلول جزئية أو مرحلية؟

بولس: ليس هذا ما أطرحه أو أقصده، بل إنّ توظيف خطاب حقوق الأقلّيّات في سياقه الصحيح يكمن في إعادة إدراج الـمَطالب الحقوقيّة للفلسطينيّين في الداخل تحت إطار الحقّ في تقرير المصير، وذلك رغم ما قد يتخيله البعض، بغير وجه حقّ، أنّ حقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير المصير لا يشمل مَن هم مواطنو دولة إسرائيل.

الحقّ في تقرير المصير يشكّل إحدى الاستحقاقات الأكثر قوّة لحقوق الإنسان التي تحمل طابعًا جماعيًّا، وبعكس خطاب حقوق الإنسان الكلاسيكيّ الذي يُعنى بالفرد فقط، فإنّ الحقّ في تقرير المصير تكفله المعاهدة الدوليّة المتعلقّة بالحقوق المدنيّة والسياسيّة والمعاهدة الدوليّة المتعلقّة بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة لعام 1966؛ إذ أقرّت لجنة الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان أنّ حقّ تقريرالمصير يتّسم بأهمّيّة خاصّة، "لأن تحقيقه هو شرط أساسيّ للضمان والاحترام الفعليَّيْن لحقوق الإنسان الفرديّة، ولتعزيز هذه الحقوق وتقويتها".

كما أنّ الحقّ في تقرير المصير يعتبر إحدى الركائز الأساسيّة للقانون الدوليّ الحديث، ويصنَّف بأنّه قاعدة قانونيّة ذات طبيعة آمِرة، أو ما يعرف بالقاعدة الآمِرة، وهي إحدى القواعد العامّة للقانون الدوليّ المعترَف بها من قِبل المجتمع الدوليّ ككلّ على أنّها القاعـدة التي لا يجوز الإخلال بها، والتي لا يمكن تعديلها إلّا بقاعدة لاحقة من القواعد العامّة للقانون الدوليّ لها ذات الطابع.

* عرب 48: من الواضح أنّ "قانون القومية" العنصري جاء لقطع الطريق على أي نوع من حق تقرير المصير، ليس للفلسطينيين في إسرائيل فقط بل للفلسطينيين عموما؟

بولس: القانون قصر حق تقرير المصير على "الشعب اليهودي"، بإقراره أنّ "أرض إسرائيل" هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وهو، بذلك، حرم الفلسطينيين من حق تقرير المصير حتى في الضفة والقطاع، أيضًا. أما بالنسبة للفلسطينيين داخل إسرائيل، فإنّ القانون يشكّل انتهاكا لحقهم في المساواة من منظور القانون الدولي وذلك بتحديده أنّ الحق في تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل هو حق حصري للشعب اليهودي، وبذلك أوصد الباب أمام أي تسوية أو ترتيبات قد تمكن الأقلية الفلسطينية من ممارسة أي درجة من درجات حق تقرير المصير.

وبرغم أنّ حق تقرير المصير الداخلي هو خلافي بطبيعة الحال بما يتعلق بالترتيبات الدستوية التي يجب تبنيها لممارسته، إلا أنّ هناك مركبًا جوهريًا لهذا الحق يتمثل بـ"الحق بأن تكون لديك حقوق"، وقانون القومية يأتي ليقول للشعب الفلسطيني بشكل صارخ لا تمتلك الحق بأن تكون لك حقوق.

* عرب 48: القانون جاء كما يبدو ليمهد أو يقونن واقعا جديدا يتشكل ضمن سياسة الضم الزاحف للضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها بعد إسقاط حل الدولتين؟

بولس: على الرغم من ذلك، فإن طرح حق تقرير المصير، ضمن هذا الواقع وفي مجابهته، يكتسب أهمية قصوى أوّلًا لكونه يضع نضال الأقلّيّة الفلسطينيّة في سياقه التاريخيّ ويعيده إلى أحداث النكبة وما قبلها، من خلال التأكيد على العلاقة التاريخيّة بين الفلسطينيّين وأرضهم التاريخيّة؛ وثانيًا، لأنّه يعرّي مفهوم المواطَنة في إسرائيل ويكشف مدى تناقضها مع ركائز القانون الدوليّ الأساسيّة.

وغني عن البيان أنّ الدولة التي تتعامل مع شعار "دولة كلّ مواطنيها" على أنّه تهديد لمؤسّساتها ونقيض لأيديولوجيّتها المؤسِّسة، تنتهك انتهاكًا صارخًا حقَّ تقرير المصير للأقلّيّة الفلسطينيّة في الداخل، ولا تكفل الحدّ الأدنى الذي يفرضه عليها القانون الدوليّ.

من هنا، فإنّ طرح حق تقرير المصير الداخلي يضع مفهوم المواطَنة والمنظومة القانونيّة برُمَّتها في واجهة النضال، ويكشف أنّ إسرائيل لا تمثّل جميع شعوبها، ليس على مستوى الممارسة فقط، بل قامت على أساس منظومة قانونيّة ترفض جهرا أن تمثل أو أن تتماهى مع جميع مواطنيها، وهي تسعى إلى استكمال هذه المنظومة وسحبها على كامل فلسطين التاريخية

اقرأ/ي أيضًا | حق تقرير المصير للفلسطينيين في إسرائيل


* د. سونيا بولس: محاضرة في قسم العلاقات الدولية والقانون في جامعة أنطونيو دي نبريخا في إسبانيا، وباحثة في كرسي نبريخا-سانتاندير في إدارة المخاطر والصراعات.