قبل سنّ الكنيست الإسرائيلي قانون القومية الذي طُرح للتداول منذ بداية العقد الحالي، كان بالإمكان إدراج معظم الإسرائيليين المُعارضين له ضمن الفئة التي تعتقد أنه إجراءٌ فائضٌ عن الحاجة، ولا لزوم له قطّ، كون إسرائيل دولة يهودية  من ناحية فعلية، منذ تأسيسها في عام 1948، ولأن من شأنه أن يمسّ صورتها في العالم، المُهتزّة أصلًا.

الآن بعد سنّـه بشكل نهائيّ، يتمحور جوهر الخطاب الذي يتبناه هؤلاء حول مقولاتٍ متصلة، مبنًى ومعنًى، كان أبرزها أن الحكومة الإسرائيلية الحالية اليمينية أقرّت قانونًا جديدًا يستبدل مبدأ المساواة والقيم العالمية التي كانت "بوصلة الآباء المؤسسين للصهيونية" بالقومية المتطرفّة والعنصرية، كما كتب، مثلا، الموسيقار اليهودي العالمي دانيال بارنباوم في صحيفة هآرتس (22/7/2018). 

ولاحقًا نشرت هذه الصحيفة، يوم 27/7/2018، مقالًا افتتاحيًا جاء فيه أن سنّ قانون القومية يدلّ على "المقاربة غير الديمقراطية وغير الصهيونية التي يمتاز بها المُشرّعون في اليمين" الإسرائيلي. وإن خوف هؤلاء المشرّعين على الهوية اليهودية للدولة، والذي لا أساس له، جعلهم ينسون مضمون مصطلح المواطنة الذي لا يميّز بين دين أو عرق أو جنس، وفقًا لما ورد في وثيقة تأسيس إسرائيل، ويقومون بتقسيم سكان الدولة إلى "أخيار" وأشرار"، وهذا يهدف إلى "سحق ثقافة الأقلية العربية" و"تحويل الصهيونية، التي تتخذ المساواة في الحقوق بين جميع سكان البلد شعارًا لها، إلى نظرية عنصرية"! 

ولم يفت بارنباوم أيضًا أن يضمّن مقاله قطعة تمتدح وثيقة تأسيس إسرائيل، التي وصفها بأنها "مصدر إلهام للمُثل السامية التي حولتنا من يهود إلى إسرائيليين" (علمًا أنه لا يوجد إقرار بوجود هوية إسرائيلية حتى من المحكمة العليا، وإنما فقط بهوية يهودية)، وبأنها "وثيقة مدهشة تعبّر عن الالتزام بأن إسرائيل ستدأب على تطوير البلد لمصلحة سكانه جميعًا، وتكون مستندةً إلى دعائم الحرية والعدل والسلام بهدي رؤى أنبياء إسرائيل". 

وفي الوسع تقديم نماذج كثيرة لماهية هذا الخطاب الذي استقطب من حوله كثيرا من حالات المعارضة الإسرائيلية الداخلية لقانون القومية. ولكن يُكتفي هنا بما ذكر أعلاه، وبالذات من صحيفة تتصدّر حملة مناهضة القانون. 

بطبيعة الحال، كانت هناك استثناءات قليلة داخل تلك الحالات المُعارضة، منها المؤرخ شلومو ساند الذي جادل بأن قانون القومية لا يشذّ عن الإرث الصهيوني المتعلق باستعمار فلسطين، المتراكم منذ بدايات القرن العشرين الفائت. 

وفي العمق، يتطلع هذا الخطاب المُعارض، الأكثر شيوعًا بين الإسرائيليين المُستأنفين على قانون القومية، على الرغم من أنه يتقنّع بشكل عام بغاية "إضافة معرفة حول الصهيونية، فكرًا وممارسة"، إلى الدفاع عنها وإضفاء شرعية عليها، حتى بعد ما اقترفته في النكبة عام 1948، ويعيد أسّ المُعضلة إلى احتلال 1967، كما لو أنه انقطاع عن الأصل؛ "الإرث" وفقًا لتسمية ساند. والأصل المقصود غير منحصر في اليمين، بل نما وترعرع في "اليسار". 

وفي دراسة جديدة له، يؤكد أستاذ الدراسات اليهودية، ألون كونفينو، أن التعبير الأكثر دلالةً عن مكانة العرب الفلسطينيين في المخيال اليهودي هو مصطلح "المشكلة العربية". وعلى غرار مصطلح "المشكلة اليهودية" الذي صاغه الغوييم (غير اليهود) في أوروبا، لم يتطرّق المعنى الرئيسي للمصطلح إلى الاقتراحات المتعدّدة المُقدمة لحل المشكلة، بل إلى تأطير مجموعة عرقية أو دينية بأنها مشكلة. أي أنك أولًا تقوم بتعريف المجموعة بأنها مشكلة تاريخية، ثم تبذل جهدك لإيجاد سبل لحلها. وكان بين المستخدمين للصياغة المذكورة، وعلى نطاق واسع، قادة اليسار الاشتراكي كذلك، فمثلًا استخدمها يعقوب حزان، زعيم حركة "هشومير هتسعير" في 22 يناير/ كانون الثاني 1948، في أثناء مؤتمر الحركة الثاني، لوصف تحديات ما بعد تقسيم فلسطين. ويكمن أحد الفروق بين "المشكلة اليهودية" و"المشكلة العربية" في أن الأغلبية في أوروبا جعلت من الأقلية مشكلة، بينما في فلسطين كانت الأقلية هي من جعلت الأغلبية مشكلة. 

ولا بُدّ من إضافة أن "الحلّ الصهيوني" تمثّل بالنكبة.

("العربي الجديد")