بعد أكثر من أسبوعين على تشريع "قانون القومية" نقف أمام معطيين أو حقيقتين:

الأول، الأحزاب العربية والقائمة المشتركة "صدمت" من تشريع القانون بعدما عوّلت على أن الحريديين لن يدعموا القانون في الكنيست. وهذا ما أكده الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، امطانس شحادة، في مقابلة مع الزميل نضال محمد وتد في "العربي الجديد"، أمس الجمعة. وفي المقابلة يؤكد شحادة أن القيادة "ارتبكت" في أعقاب إقرار القانون؛

الثاني، السلطة الفلسطينية في رام الله "نصحت" رئيس لجنة المتابعة ورئيس القائمة المشتركة بعدم التصعيد أمام الحكومة الإسرائيلية في أعقاب القانون. ويبدو أن "الرئيسين" قبلا بنصيحة الرئاسة الفلسطينية، رغم نفي رئيس المتابعة، محمد بركة، لهذه المعلومات. لكن تأثير الرئاسة الفلسطينية على عملنا السياسي لا ينحصر في هذا الموضوع فقط. والنائبة حنين زعبي كتبت في "فيسبوك" أن قرارات المتابعة كانت بما معناه مخططة سلفا قبل اجتماع اللجنة بشأن "قانون القومية": "لم يتم نقاش الاقتراحات المطروحة والحسم باتجاه تبنّيها أو عدمه".

وإذا ما أضفنا إلى هذين المعطيين حقيقة أن أحد نواب القائمة المشتركة طالب وضغط على عضو الكنيست من "المعسكر الصهيوني"، زهير بهلول، للتراجع عن استقالته، فإن هذا كله لا يبشر خيرا، وأن القيادات السياسية لا تملك رؤية بعيدة المدى، بل يؤشر إلى أن إسرائيل انتقلت إلى لعب الشطرنج، بينما القيادات العربية تلعب "المحبوسة"، حيث هي حبيسة مقاعدها ومفاهيمها وأدواتها القديمة.

منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2000 صعدت إسرائيل سياستها تجاه مواطنيها العرب بعدما واجهت المظاهرات السلمية بالقناصة، ومنذ العام 2006 زادت من تصعيدها بعدما هيمن خطاب التجمع الوطني الديمقراطي (دولة كل مواطنيها والحكم الذاتي الثقافي أي الخطاب القومي الديمقراطي) على التصورات المستقبلية التي أصدرتها مؤسسات وجمعيات مدنية عربية، ليعتبرها رئيس "الشاباك" حينها، يوفال ديسكين، بأنها، أي فكرة دولة المواطنين، تآمرا أو تمردا على الدولة. وبالفعل تلا ذلك ملاحقات سياسية بأدوات أمنية للقيادات العربية، بدأت بعزمي بشارة مرورا برائد صلاح وحظر الحركة الإسلامية، ولا ندري أين ستنتهي. وطيلة هذه السنوات سقط مواطنون عرب برصاص أجهزة الأمن الإسرائيلية، وتصاعدت عملية تدمير المنازل العربية في كل مكان من الشمال إلى الجنوب.

ولم يختلف الأمر إن حصل ذلك في عهد حكومة "كاديما" أو "الليكود"، إذ جاء "قانون القومية" أساسا بفترة حكم الليكود – كاديما (بإيعاز من تسيبي ليفني التي أدارت المفاوضات مع الفلسطينيين) لمواجهة فكرة دولة المواطنين، وحسم مسألة حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني، بأنه إن طبق، فإنه سوف يطبق في الأراضي المحتلة عام 1967، وبذلك تسد الطريق على المواطنين العرب في المطالبة بحق تقرير مصير داخلي، أي داخل إسرائيل، إلى جانب حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة. أي حسم الصراع من خلال حصر أو فرز مناطق تطبيق حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، في مقابل توسيعه في كل فلسطين بالنسبة لليهود، وما يلغي الحاجة لإلزام المفاوض الفلسطيني بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية.

لذا، تبدو المفاجأة والارتباك لدى الأحزاب والقائمة المشتركة في أعقاب "قانون القومية" أمرا مثيرا للاستغراب والتعجب. إذ كيف يعقل أن إسرائيل تصعد منذ العام 2000 ضد هذه الأحزاب وجماهيرها، بينما الأحزاب في حالة تراخ، وكذلك الحال مع الجمعيات المدنية التي وضعت تصوراتها المستقبلية لكنها لم تثابر على مراجعتها واعتبارها معيارا لتقدم الأداء السياسي. هل يدل ذلك على أن ثقافة الموضة والاستلال العشوائي لا يهيمنان فقط على المجتمع السياسي، بل أيضا على المجتمع المدني؟

ومن هذا المنطلق، يصبح موضوع الاستقالات الجماعية من الكنيست أمرا غير واقعي وجدواه غير مضمونة، لأنها تعني الرد العشوائي والانفعالي دون تخطيط مسبق، وهو أصلا غير وارد في أسوأ أحلام بعض نواب المشتركة، خصوصا من بنى "مجده" السياسي على العضوية في البرلمان الإسرائيلي، ومن لا إرث سياسيا أو فكريا له بعد الكنيست.

لكن، أمام "الصدمة" و"الارتباك" كما وصفها شحادة، من يتحمل مسؤولية فشل مواجهة "قانون القومية"؟ هل نصمت على هذا الإخفاق تحت شعار الحفاظ على الصف الوطني والوحدة الوطنية والالتحام الجماهيري؟ هل المشتركة وحدها تتحمل المسؤولية أم الأحزاب والمتابعة ورئيسها؟

المساءلة هي أحد أعمدة العمل السياسي في الأنظمة الديمقراطية، لذا واجبنا كمواطنين، ومن ثم كصحافيين أو حزبيين أو ناشطين، أن نسأل ونطلب أجوبة. هذا صحي وطنيا وسياسيا. فعلى الصعيد الفوري من يتحمل الإخفاق هم ثلاثة: رئيس القائمة المشتركة ورئيس الكتلة البرلمانية، "وعراب التفاهمات" مع الحريديين. ودون مواجهتهم بإخفاقهم سيبدو الحديث عن مواجهة حكومة نتنياهو ذرا للرماد بالعيون وضحكا على الذقون، وستتواصل الإخفاقات.

المشكلة الأساسية، هي العجز في عملنا السياسي وانعدام الرؤية الإستراتيجية، لكن أيضا انعدام المساءلة والمكاشفة والمصارحة، في المشتركة والمتابعة وداخل الأحزاب ذاتها، بحيث تحول الهدف الأسمى في العمل السياسي هو الوصول إلى العضوية في الكنيست. هذا أقصى الطموحات، وهذا ما يتحكم بقواعد عملنا السياسي (الحفاظ على امتيازات العضوية بالكنيست أو السعي للحصول عليها). لذا دون إصلاح هذا الخلل لن نغير شيئا، ولن نطور أداءنا السياسي.

لذا من باب المسؤولية نسائل ونقرع جدران الخزان للحفاظ على أخلاقية عملنا السياسي وبوصلته. ولا نطلب أجوبة كبرى وسريعة على التطورات الأخيرة، لكن المطلوب هو رفع السقف السياسي ولو قليلا، وألا نغرر بخطاب الشعبوية أو بخطاب "اختراق الشارع الإسرائيلي" و"التأثير من الداخل ديمقراطيا". وهنا لا بد من التوضيح أن من يحب أن يستشهد بنلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ، عليه أن يدرك حقيقة هامة، وهي أن مانديلا وكينغ كانا أصيلي الانتماء قبل أن يكونا مناضلين ديمقراطيين، أي كانا "سودا" قبل أن يكونا مناضلين من أجل المواطنة المتساوية.

أخيرا، في الأيام والأسابيع المقبلة هناك فرصة أمام المشتركة ولجنة المتابعة بمركباتها كي تستعيد نفسها، وتخرج من حالة الصدمة والارتباك وتلتحم مع الشارع، لأن المعركة طويلة وبحاجة للتعبئة والتثقيف السياسيين لتجنيد الناس، وأن تتحول إلى المبادرة والإبداع وليس التهدئة وتنفيس غضب الناس كيفما حصل بعد هبة أكتوبر 2000، وألا نقع بما حصل حينها من فرز بين القوى السياسية، بين معتدل يلتزم بالنضال إسرائيليا وسقفه السياسي هو الرئاسة الفلسطينية والكنيست، و"متطرف" يريد التصعيد والتدويل. المشكلة حاليا أن الطرفين يعملان دون تنظيم أو تخطيط، بل بشكل تقليدي ثبت أنه غير مجد.