يطرح ما يسمى بـ"قانون القومية" الإسرائيلي مجددًا إشكالية الوطن والمواطنة، التي واجهت فلسطينيي 48 الذين فرضت عليهم المواطنة الإسرائيلية، وظلت طيلة السنوات السبعين الماضية سكينا في حلوقهم، لا هم قادرون على ابتلاعها والإندماج في المجتمع الإسرائيلي خوفا على هويتهم الوطنية، ولا هم قادرون على قذفها خشية من توفير الذريعة لإسرائيل لإخراجهم من وطنهم.

وبلا شك، فإن الحركة الصهيونية التي مارست سياسة التهجير والتطهير العرقي ضد العرب في فلسطين، لم تكن سعيدة ببقاء 160 ألف عربي في حدود المنطقة التي أقامت عليها دولتها في العام 1948، وكانت وما زالت تلتمس الحجج وتعد المخططات لتهجيرهم والوصول إلى مبتغاها بإقامة دولة يهودية خالصة.

إزاء ذلك، وربما من المفارقة المؤلمة أن تصبح المواطنة الإسرائيلية هي عنوان البقاء في الوطن، وأن يغدو التمسك بها هو نوع من الصمود، خاصة وأن إسرائيل كانت وما زالت ترى بالفلسطينيين المتبقين في حدود دولتها "مشكلة ديمغرافية" بالبعدين الأمني والسياسي، ولهذا فرضت عليهم الحكم العسكري على مدى عشرين عاما، كما وسعت إلى محاصرتهم وتقطيع أوصال مناطقهم الجغرافية، للحيلولة دون المطالبة بأي نوع من حق تقرير المصير، مثل تطبيق قرار التقسيم أو إقامة حكم ذاتي إقليمي في الجليل والمثلث والنقب.

وما انفكت إسرائيل تعمل حتى اليوم على تعزيز الاستيطان اليهودي في تلك المناطق، كجزء من الإستراتيجية الصهيونية التي ترى أنه حيثما يوجد استيطان توجد سيطرة، غير مكتفية ببسط سيادتها السياسية على تلك المناطق، وهو منطق جرى التعبير عنه في ما يسمى بـ"قانون القومية"، الذي دعا أحد بنوده إلى "تشجيع الاستيطان اليهودي"، مفصحا بأن الصراع مع الفلسطينيين على الأرض، حتى داخل الحدود الدولية المعترف بها لإسرائيل، لم ينته، كما تمت الإشارة إليه في التماس "عدالة" بشكل تهكمي بالقول، إن "دولة إسرائيل" تنافس "الكيرن كييمت" كمؤسسة صهيونية تسعى للاستيلاء على الأرض لصالح اليهود فقط.

في نقاش جرى مؤخرا مع أحد الأكاديميين، ذكرني بأن الحزب الشيوعي ذهب إلى انتخابات الكنيست في العام 1949، في وقت كان فيه الفلسطينيون يلعقون جراح النكبة الكبرى، وبغض النظر عن الموقف من تلك المشاركة، فإن الهامش الذي تركته إسرائيل في "وثيقة استقلالها" تحت ضغط الاستجابة لحاجة الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي، وأقصد الإشارة إلى المساواة بين مواطنيها دون التمييز باللون والعرق والجنس رغم تأكيد يهوديتها، وهو الهامش الذي نتباكى عليه اليوم بعد أن أغلقه "قانون القومية". هذا الهامش هو الذي مكن الحزب الشيوعي في العام 49 والأحزاب العربية لاحقا من المشاركة في انتخابات الكنيست، والانخراط في اللعبة السياسية الإسرائيلية.

وبلا شك، فإن إغلاق هذا الهامش هو فعل ذو بعد إستراتيجي، يشكل كسرًا في العلاقة التي أرسيت بواسطة اتفاق غير مكتوب بين المواطنين العرب الفلسطينيين والدولة، في إطار "جدلية الوطن والمواطنة"، فإذا كانت المواطنة هي "عنوان البقاء"، فإن إلقاءنا إلى حدودها الدنيا يعني المزيد من الاغتراب في وطننا، خاصة في ظل التطابق شبه الكامل بين حدود الدولة وحدود الوطن.

وقد يحار المختصون في جوهر الأشكال القانونية التي تستعملها إسرائيل وعبر عنها بشكل جلي ما يسمى بـ"قانون القومية"، وهي خليط بين "نظرية العرق" النابعة من الاعتقاد بأحقية مشتقة من تفوق مجموعة بشرية على أخرى على نسق قوانين نيرنبرغ في ألمانيا، وبين نظام "الأبرتهايد" القائم على أساس قوانين الفصل العنصري على غرار جنوب أفريقيا، ولكن في كل الحالات فإن هذا الكسر في العلاقة يتطلب رد فعل بالمستوى الإستراتيجي.

المطلوب عدم الاكتفاء بتظاهرة هنا ومظاهرة هناك، بل السعي إلى تغيير، أو على الأقل التلويح بتغيير قواعد اللعبة من طرفنا أيضًا، بعد أن قامت إسرائيل بتغييرها من طرف واحد. وفي هذ الإطار تندرج مسألة "الاستقالة" أو "التعليق" أو "المقاطعة الدائمة" أو "المؤقتة" للكنيست أو التلويح فيها، بما تعنيه من انسحاب أو تهديد بالانسحاب من اللعبة السياسية الإسرائيلية، بعد أن كسرت أو نقضت إسرائيل "الاتفاق غير المكتوب" الذي كان ينظم العلاقة بيننا وبينها.

وإذا كانت إسرائيل قد اختارت الأبرتهايد فلتكن الانتخابات في "البنتستونات" التابعة لنا، من خلال انتخاب لجنة المتابعة وتحويلها إلى برلمان عربي، ونطمئن، في هذا السياق، من يعتقدون أننا نسهل العملية على إسرائيل، بالتقوقع والانعزال، أو أننا نشكل "بنتستوناتنا" بأيدينا، بأن أكثر ما تخشاه الأخيرة هو "بانتستون" في الجليل و"بانتستون" في المثلث وآخر في النقب، لأن ذلك، وبخلاف جنوب أفريقيا، سيكون بمثابة تقطيع لأوصالها خاصة وأنها جسم بلا متن، فهي لن تعطي لمحمد بركة في ما تعتبره قلبها ما "أعطته" لمحمود عباس في الضفة الغربية، كما أننا بالمقابل لا نريد أن نبقى في الكنيست شكلا تزين به إسرائيل ديمقراطيتها أمام العالم.

في السطر الأخير، لا مندوحة أمام الأحزاب والقيادات إذا ما أرادت مواجهة بمستوى التحدي الذي يطرحه "قانون القومية"، من التفكير جديا باستعمال ورقة الكنيست وبشكل جماعي من خلال طرح الموضوع لنقاش جدي ومعمق وخال من المزايدات، داخل أطراف المشتركة وفي إطارها الموحد، وداخل إطار لجنة المتابعة واتخاذ القرار المناسب بهذا الصدد، بعد الإصغاء إلى كل الأصوات والاقتراحات المتداولة في الداخل والخارج.