من المبكر استشراف مصير ومآلات الحراك الجاري داخل المنطقة المستعمرة منذ العام 1948، في مواجهة "قانون القومية" الاستعماري العنصري، والذي يتصاعد مع اقتراب موعد المظاهرة في مدينة تل أبيب يوم السبت المقبل.

تمر على الشعوب وحركاتها السياسية عدة فرص تأتي بفضل حماقة يرتكبها المستعمر، بلا قصد أو عن تخطيط مسبق بعد إجرائه قراءة داخلية تشمل حاجات المجتمع المستعمر نفسه، وواقع الشعب المستعمر وحركته السياسية، والواقع الدولي والإقليمي. في جميع هذه المستويات ظهر للمستعمر نقاط ضعف وقوة، فهو مدعوم من نظام دولي مساند أو متواطئ، خاصة من الإمبريالية الأميركية والروسية وفي المحيط العربي حيث تفتك الأنظمة بشعوبها، يقوم هذا المستعمر بتنفيذ اعتداءات شبه يومية بالطائرات والصواريخ، دون رد. والساحة الفلسطينية لا تزال تعيش كارثة الانقسام والحصار الإسرائيلي الإجرامي. وفي داخل الخط الاخضر، تكاد تصبح الساحة السياسية عاقرة عن الإنتاج والنهوض، وباتت السياسة أو بالأحرى اللاسياسة في أيادي حفنة من المحترفين، أعضاء كنيست وغيرهم، الذين أعمى التمترس الطويل والمزمن في الكراسي عقولهم وقلوبهم، عن إدراك خطورة الحاضر وعن ضرورة التجديد، وترك المقاعد لغيرهم.

ومع أن الشعب الفلسطيني رغم كل ما يتحمله من معاناة تحت الاستعمار والحصار، وتحت قيادة أضلّت الطريق، فإنه يفاجئ المستعمر بل يفاجئنا بين الحين والآخر بهباته الشعبية واستعداده للتضحية، كما هو الحال في القدس وفي قطاع غزة، وبصورة أقل في المواقع الأخرى. نعم الشعب الفلسطيني، هو الشعب العربي والقوة العربيةر الوحيدة التي تقاوم مخطط تصفية القضية الفلسطينية.

 وفي الوقت الذي يتأرجح الصراع حول قطاع غزة بين التوصل إلى اتفاق تهدئة ورفع أو تخفيف الحصار، وبين اندلاع مواجهة عسكرية كبيرة، تعمل حماس على تجنبها، يحاول الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، استثمار حماقة تشريع "قانون القومية" عبر تنظيم المظاهرات والفعاليات المختلفة. نعم لم يكن الحافز لإطلاق هذا الحراك نابعا من قرار مسبق ومخطط منذ أشهر، كما كان مطلوبًا، بل حفّزه صدور هذا القانون؛ أي أن العقول لم تكن مشغولة على مدار اليوم بالتفكير والتخطيط لكيفية إطلاق مسيرة نضالية متراكمة كبديل عن القعود والشلل وردات الفعل. ولم يكن قادة المؤسسات التمثيلية، يجوبون المدن وشوارعها وحاراتها، ولا القرى ولا بيوتها، ويبحثون عن العمال والنشطاء الشباب والأكاديميين الملتزمين بالهم العام، للتواصل مع همومهم وللاستعانة بطاقاتهم وتنظيمهم. بل جرى تهميشهم، والتقليل من أهميتهم وأهمية دورهم.

أي أنّ هذا الحراك الحالي جاء كردة فعل وليس كمبادرة أُشتغل عليها منذ زمن بعيد، واختمرت ونضجت. ولذلك وجب التحذير من مغبة التصرف على هذا النحو، وتبديد فرصة تاسعة أو عاشرة جديدة. والمطلوب البناء على هذه الفرصة وإطلاق نهضة شعبية ونهضة مؤسساتية، والأخيرة هي الأهم.

الأيام الأخيرة تشهد مظاهر عودة الحيوية لمجتمعنا الذي ضغط وأمطر قادة الهيئات التمثيلية العربية، وتحديدًا القائمة المشتركة ولجنة المتابعة واللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، بوابل من النقد والسخط على أدائهم المتعثر وكسلهم، وعلى انتهازية وذاتية بعضهم، وعلى جعل سرقة الكراسي وأموالها أولوية على الوحدة الوطنية. 

وقد جاءت "الهبة الدرزية" التي سبقتنا في التحرك لتكشف عجز الهيئات التمثيلية القطرية، وتؤكد أنه كان بالإمكان المبادرة بإستراتيجية نضال حقيقية قبل ذلك بكثير، إذ إن المخططات التهويدية العدوانية لم تتوقف للحظة، بل متصاعدة بصورة غير مسبوقة.  

وهكذا بدأت المؤسسات بالتحرك، وبدا لافتا تحرك فئات المثقفين والأكاديميين، الذين تجتمع شرائح واسعة منهم منذ أسابيع وتقدم التوصيات وتصدر البيانات وتتحرك في الميدان؛ وكذلك نشطاء اللجان الشعبية والطلاب وغيرهم. وكان من ثمار هذا الحراك تحفيز المئات من المثقفين الفلسطينيين في الخارج، للانضمام إلى الحملة الشعبية، والحراك المرشح للاتساع في حالة توفر الشروط الذاتية الأساسية لذلك.

مظاهرة تل أبيب ليست أم المعارك 

على الرغم من أهمية إنجاح مظاهرة تل أبيب، فإنه لا يجوز التعامل معها على أنها أوج الحراك، أو أنها أم المعارك. فالمعركة لا تحسم من جولة واحدة؛ إنه صراع طويل ومركب، وبالتالي فإن إنجاح المظاهرة وتحشيد الناس لها وحول فكرتها يجب أن يكون إحدى الرافعات لما يجب القيام به بعدها.

إن الجدل الجاري بصدد فكرتها وشعاراتها وتوجهاتها هو أمر شرعي، بل ضرورة سياسية ووطنية وإستراتيجية، بل يجب التحذير من مغبة انحراف خطابها نحو المزيد من التأسرل والهبوط.

وهنا يبرز دور التيار الوطني التحرري داخل الخط الأخضر. لقد ثبت في السنوات الأخيرة أنه عجز عن فرملة نزعة الانحراف داخل المشتركة والمتابعة، وعجز عن التميّز في الأداء على مستوى الفعل الميداني، وهذا يعود لأسباب موضوعية تتعلق بالقمع والملاحقة، و بالقدر نفسه لأسباب ذاتية.

وطالما أن ميزان القوى داخل هذه المؤسسات يحتاج إلى تعديل، فإن مجموعة من الخطوات لا بد من اتخاذها إذا كنا عازمين على استثمار هذا القانون الذي عرى به نظام الأبارتهايد نفسه: 

أولا: أن تطور الحركة الوطنية (حركات ومثقفين وطلاب وعمال) داخل الخط الأخضر، خطاب التناقض بين يهودية الدولة وديمقراطيتها إلى خطاب وطني تحرري جامع للكل الفلسطيني؛ تحرر من نظام كولونيالي وفصل عنصري، وتقدم تصورًا للعمل المشترك مع أبناء شعبنا في كل مكان. أي ألا نسمح باختزال نضالنا في محاربة القانون، بل محاربة النظام كله.

ثانيًا: التقدم بخطة وطنية جامعة تخص كل الفلسطينيين داخل الخط الأخضر من كل الأطياف والانتماءات، مثل إقامة جبهة وطنية شعبية تؤكد على الهوية الوطنية، وتعمل على قيادة النضال ضد نظام التمييز والفصل العنصري، وكل أشكال الاضطهاد.

ثالثًا: التقدم بتصور مفصل لإعادة بناء لجنة المتابعة؛ بناء مؤسساتها، وتصور لكيفية انتخابها مباشرة من الناس، وتنحو نحو البدء بوضع الخطط للاعتماد على الذات اقتصاديا.

رابعًا: في إطار إعادة بناء لجنة المتابعة، يجب التقدم بتصور مهني لكيفية بناء الصندوق القومي، وهو الفكرة التي بات يقبلها غالبية القوى السياسة والاجتماعية والمثقفين، والتي كان طرحها التجمع في ورقة أولية على لجنة المتابعة عام ١٩٩٨. لقد آن الاوان لوضع هذا المشروع على الطاولة.

في حالة استمرار الجمود داخل المؤسسات التمثيلية، فإن الطريق يجب ان تكون مفتوحة لحراكات وتحركات خارج هذه الأطر، كما هو حاصل الآن مثل تجمعات المثقفين العرب الذين يدعون إلى تطوير أداء المؤسسات التمثيلية عبر التنظم الذاتي المستقل، أو مثل الحراك الجاري حول فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، في محاولة لصياغة وعي سياسي جديد، وبديل تحرري وطني ديمقراطي بين البحر والنهر. 

حان الوقت لأن  يُنظر إلى كل هذا الحراك (الذي يشمل حراكا ثقافيا وأدبيا نوعيا، وبناء مؤسسات وروابط ثقافية وأدبية ومهنية منذ سنوات)، كبداية لاستعادة حيوية المجتمع وعافية المجتمع السياسي. ومن أجل منع إجهاض هذا الحراك من قبل القوى التقليدية، وحرفه عن مساره، لا بد لكل القوى والأفراد والفئات الاجتماعية والطلابية والعمالية، التي تؤمن بضرورة التغيير الوطني الاجتماعي الثقافي الحقيقي الذي يخدم شعبنا، أن يقدموا بعضًا من جهدهم ووقتهم من خلال الانخراط في هذا الحراك المتنوع، وتحويل انتقاداتهم إلى عمل وقوة.

 إنها اللحظة المواتية...