لا تشكل دعوة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في لقائه بوفد عربي "ينشط لإقامة حزب عربي- يهودي جديد"، مطلع الأسبوع الحالي بعد مظاهرة تل أبيب، لتشكيل قوة يهودية - عربية لاختراق المجتمع الإسرائيلي، مفاجأة لمن تابعوا ويتابعون تصريحات الرئيس محمود عباس ونشاطه في هذا السياق، منذ نشطت الاتصالات الإسرائيلية - الفلسطينية في أواسط السبعينات، وازدهرت صناعتها وراجت في أواخر القرن الماضي، وتحديدا عشية الانتفاضة الأولى وحتى اتفاق أوسلو.

مع ذلك، فإن الجديد في دعوة الرئيس عباس هو شرعنة أو ما يبدو أنه شرعنة "فلسطينية" لجهة العودة لبناء تحالفات مع اليسار الإسرائيلي الصهيوني (طبعا على حساب الأحزاب العربية التي حاربت لسنوات للتخلص من تأثير هذه الأحزاب في الشارع العربي)، بما يتيح أيضا للرئيس عباس مواصلة الغزل مع اليسار الإسرائيلي الصهيوني بلا حرج من الأحزاب العربية من خلال الدعوة للتنسيق بين المشتركة وبين حزب "ميرتس"، بالرغم من وجود تنسيق محدود النطاق بين الطرفين، بسبب ضوابط يبدو أن حزب التجمع الوطني الديمقراطي هو الوحيد الذي يصر عليها، فيما يسعى آخرون للانفكاك منها.

من هنا، فإن تصريحات الرئيس عباس في مدح "مشروع للشراكة يتموضع بين المشتركة وبين ميرتس"، بحسب ما نقل الزميل وديع عواودة في "القدس العربي" عن أحد المشاركين في اللقاء، تشي بأن وراء الأكمة مشروعا للتدخل مجددا في الحراك الحزبي أو السياسي في الداخل، يستهدف إما ترويض التجمع الوطني الديمقراطي كي يتخلى عن ضوابطه التي تقيد من يسعون لشرعنة الارتماء في حضن "ميرتس" تحت غطاء ضرورات الساعة، أو القضاء عليه وإقصائه من الخريطة، من خلال سيناريو مشابه للذي قضى في انتخابات العام 1992 على فرص القائمة التقدمية للسلام والمساواة بالنجاح في الانتخابات، طمعا بوريث يأخذ مقاعدها ويكون مريحا للتوجهات الفلسطينية في بدايات مفاوضات أوسلو، ويريحها من حرج نائب عربي أو أكثر في الكنيست قد يصوتوا في البرلمان ضد الاتفاق الموعود.

لذا، لا ينبغي التهاون إطلاقا مع تصريحات عباس، خصوصا وأنه دعا بحسب ما نشر، ولم يتم نفيه بعد، إلى تخفيف لهجة الخطاب القومي، في إشارة واضحة إلى التجمع، وتحميله لهذا الخطاب ورفع الأعلام الفلسطينية في ساحة رابين، وزر تبيض صفحة نتنياهو أو "صب الماء على طاحونة نتنياهو" بحسب ما جاء في التقرير، ولم يصدر كما نعلم للآن أي نفي لهذه التصريحات أو الطعن في دقتها من جهة فلسطينية رسمية في ديوان الرئاسة.

في المقابل، هناك ما يشي بأن الرئيس عباس أطلق تصريحاته هذه بالرغم من معرفته وربما بفعل معرفته بحقيقة الخلافات في الرأي داخل القائمة المشتركة في هذا السياق، لكنه يعود مرة أخرى للمراهنة على اليسار الصهيوني، رافضا أن يتعلم من التجربة المريرة التي مرت بها القائمة التقدمية، والتي لم تسفر مؤامرة إسقاطها في الانتخابات آنذاك (وكان لبعض الأطراف في منظمة التحرير وفي نظام مبارك دور فيها)، لا عن ترويض العرب في إسرائيل للقبول بكل ما تقبل به قيادة منظمة التحرير، ولا عن يسار إسرائيلي يسعى جديا لسلام عادل ودائم وفق شعار تلك الفترة.

سقطت القائمة التقدمية في الانتخابات للكنيست عام 1992 بعد اتهامها زورا في حرب دعائية شرسة برفض تشكيل قائمة عربية موحدة. لكن القائمة الموحدة، المدعى الحرص عليها يومها، لم تكن هي الهدف بل كانت الشعار الذي رفع لتحقيق الهدف الأساسي: القضاء على تيار وصوت فلسطيني مميز، لإفساح المجال أمام صوت يقبل بكل شيء، فسقطت القائمة التقدمية في الانتخابات التي فاز فيها رابين.

ومع أن الهدف المباشر المتوخى من تلك العملية قد تحقق نسبيا، ولمع نجم الحزب الديمقراطي العربي والكتلة المانعة في الكنيست، إلا أن توقيع اتفاق أوسلو وتسارع وتيرة الأسرلة أديا لرد فعل مضاد أسفر بعد مخاض صعب عن تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، واضطرت الجبهة للتحالف معه ليرتفع مجددا الصوت الرافض لمعادلة ترويض العرب وتحويلهم إلى شأن إسرائيلي داخلي عليه أن يقبل بما تقبل به قيادة منظمة التحرير فلسطينيا، ولا يخرج صوته عن سقف المساواة المدنية.

ولعله من غير المستبعد، في ظل جيش المستشارين للرئيس عباس، ووفود الحجاج لرام الله ومقاطعتها، مع ما يحملون من أخبار عما يدور هنا، أن يكون توقيت التصريح متزامنا مع هبوب رياح الانتخابات الإسرائيلية مقصودا، خاصة وأن السلطة الفلسطينية في رام الله مطلعة جيدا على الانتقادات الداخلية، سواء في التجمع نفسه، أم حتى في صفوف الجبهة حول آفاق ومستقبل الشراكة في القائمة المشتركة، ناهيك عن اطلاعها على ما يدور في المجتمع العربي، وخاصة انتقادات قطاعات واسعة لرد الفعل الضعيف من قبل الأحزاب المشاركة في الكنيست، وبطبيعة الحال غياب الرد الحازم من قبل أعضاء الكنيست، ولو حتى التلويح بمقاطعة جلسات الكنيست إن لم يكن الاستقالة منها.

ويعني هذا أننا مقبولون في ظل الغضب أو على الأقل، عدم رضا الجمهور الواسع من أداء الأحزاب وممثليها في الرد على القانون، بما في ذلك مظاهرة تل أبيب، على هجوم فلسطيني أوسلوي ضد أي نشاط حقيقي وغاضب يخرج عن دائرة ما تريده بعض الجهات هنا، وتسوقه للقيادة المتنفذة هناك (في السلطة الفلسطينية وفي منظمة التحرير)، باعتباره النقيض لمصلحة هذه الجماهير والنقيض لما تتصوره السلطة الفلسطينية لدور العرب في إسرائيل، وأنه يحول دون إبقاء العرب هنا في خانة "قوة مساندة لليسار الإسرائيلي"، ولو تطلب ذلك منهم التنازل عن اعتزازهم بعلمهم وهويتهم الوطنية والقومية إرضاء لهذا اليسار. والواقع أن تصريحات الرئيس عباس تعكس موقفا ليس بغريب عن رئيس لا يجد وقتا لإيفاد ممثل عن حركته وفصيله لحوارات الوحدة الوطنية في القاهرة، ويجد كل الوقت للقاء ناشطين فلسطينيين يدخلون على ديوانه من بوابة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي.

اقرأ/ي أيضًا | حاضرٌ رغم المنفى 

اقرأ/ي أيضًا | راهنية دولة كل مواطنيها