نحن مُتّجهون إلى واقعٍ اجتماعي أكثر رداءةً، وإلى حالة متفاقمة من التَّهتك القيمي والسياسي. ليس هذا بسبب تغول المؤسسة الصهيونية، التي تحكم بلادنا، من البحر إلى النهر، بل بسبب انتخابات السلطات المحلية. وهذا ليس تنبؤا أو ضربا من ممارسة الغيب، بل هو معطى يقوم على قراءة التجارب الانتخابية السابقة ، والأخطر، وبناءً على ما نشهده الآن من امتداد مأساوي و تكرار أنماط السلوك في الترشح لرئاسة وعضوية السلطة المحلية العربية. وتتكثف المأساة في غياب المبادرات المختلفة، وشيوع اليأس في أوساط طلائع الأجيال الشابة، ومنهم الأكاديميون، والاُدباء والكتاب، والنشطاء السياسيّون الذين يكتفون بتركيز نشاطهم في مجالات تخصصهم، التي في الحقيقة، وبحسب ما أعرفه، يبدعون فيها ويقدمون إنتاجًا خلاقا وواعدًا. أما البعض الآخر، فيواجه أفراده صعوبات موضوعية، ومفهومة، تتصل بتكوين حياتهم الشخصية، من إكمال الدراسة، أو تدبير عمل، وبناء الحياة العائلية. لكن هذا ليس مُبرِّرا للانكفاء والاستقالة من واجب الحدّ الأدنى من الجهد المطلوب لتوليد قيادات جديدة، و مناحي عمل مبتكرة.

تؤدّي طريقة إدارة الانتخابات المحلية، غالبا، إلى تعميق حالة التقطب الاجتماعي، الحمائلي والطائفي، والحزبي أيضًا، مع أن دور الأحزاب تآكَلَ في معركة الانتخابات المحلية، وتكاد هذه الانتخابات تبتلعها.

إنّ شعارات تسييس المعركة التي كانت تطرحها بعض الأحزاب الوطنية، ذابت كالثلج، وانسحقت تحت عجلات المحاولات والتنافس على بناء أكبر اصطفاف عائلي، أو طائفي. نعم مرت فترة أفضل على معارك السلطات المحلية، في وقتٍ سابق، وتحققت تحولات نوعية لا تنكر، وبرز رؤساء مجالس، مؤهلون، ومُسَيَّسون، ولكن نحن اليوم في حقبة، ماتت فيها السياسة حتى عند غالبية، وبقي القليل من رؤساء المجالس الناجحين.

يكاد التثقيف السياسي المنهجي يندثر، ويحل محله خطابات وطنية شكلية، خالية من المضامين، والفهم العميق لجذور أزمتنا، أو فهم كيفية اشتغال النظام الصهيوني ضدنا، وإدراك المقدمات الاجتماعية الاقتصادية السياسية، التي أدت إلى انتشار العنف، وتفاقُم حالات التفكك الأسري، والحمائلي. وبخصوص التفكك الحمائلي، فإن الحمولة تجمعها الانتخابات لفترة قصيرة جدا، هي فترة التحضير للانتخابات، وتعود بعدها إلى حالتها السابقه (هناك حمائل انقسمت نهائيا في السنوات السابقة لأسباب مختلفة). إنها الحالة الانتهازية الجماعية التي نمارسها، بوعي أو بغير وعي، في ظل غياب قيمة التكافل الاجتماعي الصادق الذي ميّز الحمولة في "الزمن الجميل"، وغياب السياسة.

لقد عجز الخبراء عن تعميم أسباب التدهور الاجتماعي والتأزُّم الأخلاقي، والذي قاد إلى إضعاف الثقافة ألوطنية والسياسية، عند الأجيال الشابة. وقليلٌ جدا من الرؤساء الحاليين، أو المرشحين، منتبهون إلى ما ينتظرنا من أزمات أكثر خطورة في السنوات القادمة. طبعا هذا ينطبق على القيادات القطرية، السياسية، والتي تتحمل المسؤولية الأكبر؛ هي التي يجب أن تقود التوجهات، وتبني وتخطط للنضال، كما يجب. ولكن هذه القيادات القطرية، باتت تختلف عن قيادات السابق، أقصد في محطات الوعي الوطني والسياسي الكُبرى، قيادات ما بعد يوم الأرض، وما بعد هبة القدس والأقصى، قيادات كان غالبها يقرأ، أو يحاول القراءة.

نحن نعيش الآن في ظروف القيادات التي تُمارس السياسة، بطريقة انتهازية، أو براغماتية مُبتذلة، غير المؤسسة على المبدأ وعلى رسالة، أو على عقيدة التغيير السياسي الجذري، بمفهومها الشامل (الاقتصادي، والثقافي، والتعليمي، ومفهوم الحكم السليم).

هكذا تتآكل القيم والسياسة، وتحل محلها الانتهازية، والنجومية، والفردانية. ورويدا رويدا، يُصبح الناس يلتفُّون حول الشعبويين، الرخيصين، فينكفئ المبدئيون، الذين يُصابون في أحيانٍ كثيرة بمرض التعفُّف عن الانخراط في عملية التغيير، أو في التنظيرات التجريدية، وأحيانًا العدمية، المفصومة الواقع.

لا نعني أنه لا يوجد حيّز للتدخل والتأثير في ظروف الانتخابات المحلية الحالية، حتى لوكان هذا الحيّز ضيّقا، فإنه يتوجب على كل من لديه رؤية مختلفة، وتمسُّكا بقيم العمل والتغيير، وبأخلاقية التضحية، أن يتدخل و يُساهم بالقدر الذي يسمح بذلك. نقول ذلك لأن ما كرّسه قانون القومية الاستعماري، من ظلم فاحش، وجرائم إنسانية بحق شعبنا، منذ عام 1948، وما يحمله من مخاطر إضافية، مُحتَملة، أشد هولا علينا، تستوجب إعادة إنتاج وعيٍ جديد، يُؤسس على فهم أعمق للصهيونية وللمرحلة التي وصلت إليها، بعد أن سادت أوهام عند الكثيرين من شعبنا بأن تخفيف نبرة الخطاب السياسي، واختزال الوطنية في حقوق مدنية، دون التمسُّك بالهوية وبالحقوق الجماعية، يُمكن تحقيق المساواة. وهناك من انطلت عليه هرطقات بعض أعضاء الكنيست العرب، ومؤيديهم، بأن خطاب التجمُّع الوطني، هو الذي أدى بالمجتمع الإسرائيلي، إلى صمّ آذانه عن صرختنا، والذي يعكس جهلا وسطحيةً، وفقرًا في فهم جوهر النظام الصهيوني ورسالته المتوحشة. وقد يكون ما غردّه بنيامين نتانياهو، على صفحته من أقوال واداعاءات تافهة، بهذا الخصوص، قبل أسابيع، قد عزّز هذه الأوهام عند هؤلاء، الذين لا يُفصحون عن ذلك إلا في الدوائر الصغيرة.

لم يعُد مقبولا السكوت، أو التهاون إزاء ظاهرة إضعاف علاقة السلطات المحلية العربية بالسياسه، وإغفال ضرورة تطوير علاقة وطيدة مع مهمات مواجهة النظام السياسي القائم برُمَّته، واشتقاق إستراتيجية نضالية شعبية، لمواجهة قانون القومية، كشعب يعيش في هذا الوطن منذ مئات السنين و قبل أن يضع أي مستعمر حقير قدمه على هذه الأرض، إنه أشبه بسلوك انتحاري، تجاهل هذه الحقيقة السياسية، خلال ممارسة حملات الانتخابات المحلية، لأنه يعني المزيد من الشرذمة، والتفكك، والضعف.

ماذا تستطيع الأجيال الشابة الأكثر وعيًا عمله؟، وكذلك ، بعض المخضرمين، الذين ظلوا قابضين على الجمر، وظلّوا متفاعلين بطريقة عصرية مع الواقع المتغير؟ يستطيع هؤلاء إذا لم يجدوا أطرا انتخابية تستجيب للحد الأدنى، أن يُسمِعوا رأيهم، وأن ينتظموا كمجموعات في أُطر ثقافية، أو أدبية، أو شبابية، أو اجتماعية مستقلة في بلداتهم، وهناك في الواقع، أُطرٌ من هذا القبيل في العديد من البلدات العربية.

إن ترك الساحة كليا لحيتان الانتخابات، ولأصحاب التحالفات الكبيرة، هو خطأ كبير. لا بد للرأي المُتنوِّر، الذي يمتلك رؤية للمستقبل، بل للحاضر القريب، أن يكون حاضرا في الميدان، مها قلّ تأثيره. وعندما يتواصل فعل هذه المجوعات، تتولد حالة تراكمية، وديناميكية تغيير، قد تؤدي إلى تحوُّل نوعي في يوم ٍ من الأيام. و في خضم عملية الحراك من أجل الوصول إلى تلك اللحظة، سيعيش المبادرون ولفيف واسع من المؤيدين، حياةً اجتماعية وثقافية وأخلاقية، توفر قدرا من التوازن للمجتمع وأخلاقياته. طبعا كل ذلك مشروط باستعداد هؤلاء الأفراد لمغادرة المربّع المريح نسبيا الذي استقروا فيه، والاستعداد للعطاء في الميدان.

وقد تكون إحدى أهم مهمات مواجهة الواقع القائم، هي العودة إلى فهم واستشراف إفرازات الحالة الكولونيالية التي أُخضعنا لها منذ النكبة، والحالة الكولونيالية، هي ممارسات مستمرة من القتل والتشريد، والنهب، وإعاقة التطور الطبيعي لمجتمع أصلاني. حين يُنهب مجتمعٍ بأكمله من 93% من أراضيه الخاصة والعامة، وتتحول البلدات العربية إلى غيتوات محاصرة، بدون أرض و تصنيع، أو اقتصاد، ويزداد عدد الناس، خاصة أعداد الشباب الذين تضيق أمامهم فرص العمل و بناء البيت، وتكوين عائلة سوية، ويزداد الفقر، والفقر يُولِّد غضبًا، والغضب يولِّد عنفا، منه الفردي، والجماعي، أو الطائفي، وكذلك تنمو الجريمة المنظَّمَة.

هذا يُعيدنا، إلى جذر المشكلة الأساسي، ألا وهو نظام الأبارتهايد الكولونيالي، ولكن لكل فعلٍ فعلٌ مضاد. والفعل المضاد يأتي من الضحية، التي تخرج عادة من سلبيتها وتُقاوم. والمقاومة ليست عشوائية، بل تحتاج إلى تخطيط وإرادة، وتضحية. وهنا يأتي دور المجتمع وقياداته ونخبه. والضحية تتحمل المسؤولية عن استمرار الظلم وتفاقمه، ولذلك هي مُطالَبَة ليست في رفض الواقع، فحسب، بل في ابتكار أفضل سُبُل العمل والبناء، واستحداث الإستراتيجيات الكفاحية الناجعة. وفِي هذه المرحلة، تُصبح مهمة التدخُّل مُلحَّة، بل تُصبح واجبًا أخلاقيًا بقدر ماهو واجب وطني.

اقرأ/ي أيضًا | بداية استعادة حيوية وعافية المجتمع؟