لو عاد الشهداء، خصوصًا القادة، إلى الحياة وشاهدوا الوضع الذي وصلنا إليه، والمتدهور باستمرار، لطلبوا العودة إلى قبورهم متألمين متحسرين.

بدلًا من التماسك في مواجهة الأخطار المشتركة، نبدو في وضع لا نحسد عليه، فالسلطة لا ترحم و"لا تخلي رحمة ربنا تنزل"، خصوصًا على شعبنا في قطاع غزة. في المقابل، تفضل "حماس" التهدئة مع الاحتلال التي تحفظ سيطرتها على القطاع على أي شيء آخر، لدرجة أصبحت واشنطن وتل أبيب اللتان تمارسان أفظع أشكال الحصار على غزة تذرفان دموع التماسيح على الوضع الإنساني الذي يعيشه القطاع، ويهددون باقتطاع جزء من أموال المقاصة لتقديمها لسد رواتب موظفي غزة، في الوقت ذاته الذي توقف فيه إدارة ترامب المساعدات المدنية للسلطة، فيما تبقي على العلاقة والمساعدات الأمنية لأن فيها مصلحة للأمن الإسرائيلي .

وتبلغ المأساة ذروتها عندما نرى أن السباق لا يزال على أشده بين التهدئة والمصالحة والحرب، وحين يبدو أن التهدئة تتقدم تتراجع المصالحة، وفجأة تنقلب الصورة ويطل شبح الحرب برأسه مجددًا، فيما تبدو المصالحة بعيدة المنال.

من يسبق من؟ لا أحد يملك جوابًا قاطعًا لذلك.

فكل الأطراف تبدو في مأزق ولا تعرف ما تريد بالضبط، وماذا تفعل أو تمتنع عن فعله. يمكن أن تعرف ما لا تريد فعله وليس في مصلحتها الفردية أو الفئوية ليس أكثر. ومع ذلك، تخشى الأطراف حتى مما تعتقد أنه في صالحها، وتقترب من وضع شمشون "علي وعلى أعدائي يا رب"، وتدمير المعبد على من فيه.

فـ"حماس" التي تبدو متحمسة للتهدئة التي من شأنها أن تظهرها طرفًا فاعلًا ومعترفًا به، وتؤمّن لها استمرار سيطرتها على قطاع غزة، عليها ألا تأمَن جانب إسرائيل وهي تسمع وزراء ومسؤول "الشاباك" ومعظم الرأي العام الإسرائيلي، يقولون إن "حماس" جزءًا من المشكلة وليست جزءًا من الحل، وأن الأفضل عقد الاتفاقات مع السلطة وتسهيل عودتها إلى قطاع غزة، وأن سياسة الحرب ضد القطاع وحتى احتلاله، واغتيال قادة "حماس" يجب أن تستأنف إلى حين توفر الهدوء ونزع سلاح "حماس"، أو على الأقل توقفها عن تطوير قدراتها العسكرية، فضلًا عن قولهم إنهم لن يسمحوا بتحول "حماس" إلى "حزب الله 2".

كما تخشى "حماس" أنه إذا أخذت التهدئة شكل الهدنة طويلة الأمد أن تضرب مبرر قيامها المعلن، وهو الجهاد لتحرير فلسطين، وهو ما جعلها تعارض بالسابق كل أشكال وقف إطلاق النار والتهدئة مع الاحتلال باعتباره "حرامًا"، فالاحتلال الذي كان عند "حماس" لا يفهم سوى لغة القوة ولا تهدئة معه أصبح من الممكن إبرام هدنة طويلة الأمد معه ليست مثل اتفاق أوسلو - كما يزعم أنصاره - الذي قدم الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية لإسرائيل، ولكنها خطوة كبيرة في الاتجاه نفسه، كونها تكرس انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، مع أن ما نحتاج إليه اتجاه آخر مغاير تمامًا.

لا تستطيع "حماس" تصديق أن إسرائيل ستقوم بتسديد رواتب موظفيها عبر اقتطاعها من أموال المقاصة التي تجمعها أو ستسهل تحويلها من قطر، وإذا حدث ذلك: ما معناه، وإلى متى، وما ثمنه الحالي والمستقبلي؟ وهل سيستمر إذا استمرت "حماس" بالاحتفاظ بمعتقداتها وسلاحها وتعمل على تطويره، وهل سيكون حلفاء "حماس" في إيران وحزب الله ومعهم سورية مسرورين في التوصل إلى الهدنة، خصوصًا في وقت تتوتر فيه العلاقات الإيرانية - الأميركية منذ إلغاء الاتفاق النووي من قبل إدارة دونالد ترامب؟

وأيضًا، تعرف "حماس" أن مصر رغم شهر العسل الذي يجمعهما لا تريد استمرار سيطرتها على القطاع، وإنما تريد عودة السلطة الشرعية، على أن تبقى "حماس" القوة المحافظة على الأمن إلى حين اشتداد عود السلطة.

ولا تريد مصر كذلك إلقاء القطاع في حضنها، وهذا ما يمكن أن يحصل إذا أقيمت المشاريع والمناطق التجارية والصناعية والميناء والمطار في سيناء.

كما لا تريد القاهرة أن يذهب القطاع بعيدًا عنها، كما يظهر من خلال أفكار إقامة ممر مائي إلى قبرص، أي أن "حماس" تدرك أن علاقتها مع مصر اضطرارية، ويمكن أن تكون "جمعة مشمشية" ومرهونة إلى حد كبير بالتعاون الحمساوي فيما يتعلق بمواجهة الاٍرهاب في سيناء.

ما سبق كله يجعل "حماس" أمام لحظة الحقيقة، وهي مطالبة أن تختار ما بين التهدئة المنفردة التي يمكن أن تتطور إلى هدنة طويلة، وما يعنيه ذلك من وضع رقبتها تحت رحمة حكام واشنطن وتل أبيب، وتعميق الانقسام وتحوله إلى انفصال، ومساعدة "صفقة القرن" على النجاح بقصد أو من دون قصد، وفي هذه الحالة ستكون مضطرة للتكيف والتغير حتى تحافظ على الهدنة أو تعود إلى نقطة الصفر، أو بين المصالحة حتى وإن كانت بشروط ليست مؤاتية تمامًا لها، أو الحرب التي ستكون ضارية وتحدث في ظرف فلسطيني وعربي ودولي غير مناسب لها.

التهدئة التي تعقد باتفاق وطني مثلما حدث بعد عدوان 2014، وتفتح الطريق لمصالحة حقيقية أو عرجاء، قد تكون أهون الشرور، وثمنها أقل من الحرب ومن حل انفرادي يمكن ألا يمنع الانفجار أو الحرب مع إسرائيل لفترة طويلة، ويقود إلى إعلان السلطة للقطاع إقليمًا متمردًا ووقف كل علاقاتها مع القطاع وحل المجلس التشريعي، وهذا جريمة وعقوبات جماعية إذا حصلت، ولكنه يجعل القطاع يعيش في جحيم لا يطاق سيؤدي حتمًا إلى الانهيار والانفجار.

معضلة "حماس" أنها في وضع لا تحسد عليه، خاصة أن أهون الشرور المذكور ليس متاحًا ما لم تبد السلطة تغيرًا أو مرونة ملموسة على مواقفها، فهي تصر على سيطرة الحكومة من الباب إلى المحراب، أي أن تأخذ كل شيء وإخراج "حماس" من المولد بلا حُمُّص ومن دون ضمانات بأي شيء، لا محاصصة فصائلية (مرفوضة) ولا شراكة حقيقية (مطلوبة).

فالسلطة لا تزال أسيرة الوهم الذي رافقها منذ الانقلاب/ الحسم، ولم يغادرها إلا ليعود للسيطرة عليها، وهو أن "حماس" قاب قوسين أو أدنى من انهيار حكمها أو قبول شروط خصمها الداخلي، من دون أن تدرك أن "حماس" جذورها قوية في غزة وغيرها، وأن أخطاء السلطة والنموذج الذي تقدمه تعطيها المزيد من عوامل البقاء، وكذلك العكس، فالوضع الذي يعيشه القطاع تحت حكم "حماس" يذكي ادعاءات خصمها الداخلي.

إن تخوف "حماس" من إبداء مرونة له ما يبرره، فهي وافقت في اتفاق القاهرة الثاني (2017) على تمكين الحكومة أولًا حتى تلقي بالمسؤولية عن القطاع على الحكومة، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، وأجلت البحث في بقية الملفات التي تضمنها اتفاق القاهرة (2011)، وهذا خطأ كبير، مقابل تسديد سلف لموظفيها إلى حين انتهاء اللجنة الإدارية من عملها وتسكين ودمج الموظفين المستنكفين والممارسين، ولم يتم ذلك لأن الرئيس يتذرع بأن حكومته ليست طربوشًا للتغطية على استمرار حكم "حماس"، ولا يريد أن يعطيها الشرعية من خلال صرف رواتب موظفيها. والحل معروف، وهو الرزمة الشاملة التي يخرج منها الجميع منتصرين.

إن الخروج من هذه الدوامة الجهنمية يقتضي الاستجابة للمخاطر الخارجية المتزايدة التي تهدد القضية والأرض والشعب في ظل "صفقة ترامب" و"قانون القومية"، والتي لا تميز بين فلسطيني وآخر، بين" فتح" و"حماس" وغيرهما، بل تستهدف الجميع كما يظهر من خلال وقف المساعدات للسلطة، واستمرار الحصار للقطاع والتهديد بالحرب ضده، وإخراج القدس من طاولة المفاوضات، وتكثيف المساعي لتصفية قضية اللاجئين، ومواصلة توسيع وشرعنة الاستعمار الاستيطاني، تنفيذًا للتبني الأميركي للرواية التاريخية للحركة الصهيونية.

لا يكفي أن تكون على حق، وأن تلقي المسؤولية على الآخرين، فالحكمة تقتضي إدراك النتائج، وبذل كل ما يمكن لمنع الاستمرار بالانزلاق نحو الهاوية، حتى لو تطلب ذلك تنازلات من كل الأطراف، أو تنازلات ممن يعتبر نفسه "أم الولد"، وطرفا الانقسام يدعيان أنهما "أم الولد"، ويلقي كل منهما التهم جزافًا على الآخر وأنه متساوق مع "صفقة ترامب". ولا يعبآن بأن السفينة الفلسطينية تسير نحو التحطم والغرق، جراء إصرار كل منهما على التمتع بما لديه وقبول الآخر بشروطه للمصالحة.

على "حماس" أن تتخلى عن فكرة إقامة هدنة انفرادية مع الاحتلال، لأنها لا تملك التفويض بتمثيل الفلسطينيين، وعن حماسها لفكرة إقامة ممر مائي في قبرص كونه يساعد على تمرير الحل التصفوي للقضية الفلسطينية خارج فلسطين، وتتمسك بدلًا من ذلك بإعادة فتح مطار غزة وبناء الميناء في القطاع، مع إجراءات عاجلة لتخفيف الحصار، وفي الوقت نفسه الذي تتمسك فيه بمطلب رفع العقوبات عن غزة، وبعدها أو بالتوازي مع ذلك، فليفاوض وفد وطني باسم المنظمة على التهدئة/ الهدنة.

كما على "حماس" أن تعلن للملأ بأنها لا تريد استمرار سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، وتوافق على إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس وطنية ومهنية بعيدًا عن الفصائلية، وتبدي الاستعداد لوضع سلاح المقاومة تحت مظلة وطنية، أو في إطار جيش وطني يضم كل الأجنحة العسكرية، بحيث تكون هناك منظمة واحدة وسلطة واحدة وقيادة واحدة وقرار واحد وسلاح واحد، على أساس شراكة كاملة ووفاق واتفاق على برنامج القواسم المشتركة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية توحد المؤسسات المنقسمة، وتعالج آثار الانقسام، وتحضر لانتخابات حرة ونزيهة وضمان احترام نتائجها، وأن يشكل بعدها حكومة وحدة وطنية تضم الجميع بغض النظر عن نتيجة الانتخابات.

عندها لن تكون "حماس" وحيدة إذا رفضت السلطة التجاوب مع ذلك، بل سيكون معها معظم القوى والشعب الذي سيكون قادرًا حينها على فرض إرادته على الجميع.

أكرر ثمن مصالحة حقيقية أو عرجاء من خلال تشكيل حكومة وفاق أو إعادة تشكيل حكومة رامي الحمد الله، لتصبح وفاقية ما دام تشكيل حكومة وحدة مرفوضًا، وتهدئة يتفاوض عليها وطنيًا أقل بكثير من تهدئة تعمق الانقسام وتساعد على تحوله إلى انفصال دائم وتتساوق مع "صفقة ترامب"، وتعطي ذريعة للسلطة لمزيد من الجنون الذي تمارسه.

اقرأ/ي أيضًا | التهدئة والمصالحة وصفقة ترامب: بين تحديات التدهور والخلاص الوطني

إن معادلة "إما أشيل أو حماس تشيل" قفزة مؤكدة نحو التهلكة، لأن المفروض أن المنظمة والسلطة للجميع، والأعباء والمخاطر ضخمة تتطلب من الجميع أن يشيل حتى يمكن مواجهة التحديات والمخاطر المحدقة، وتوظيف الفرص المتاحة التي ستبقى دائمًا ما دام هذا الشعب حيًّا ومتمسكًا بقضيته، ومستعدًا للدفاع عنها والنضال لانتصارها مهما طال الزمن وغلت التضحيات.

(مدير مركز "مسارات"، رام الله)