ليس "قانون القوميّة" ما يشغل همّ الناس اليومي هذه الأيّام في الداخل الفلسطيني، مع ما يحمله من مخاطر مستقبليّة على حياتهم. ما يشغلهم هو الانتخابات المُرتقبة للسلطات المحليّة في الثلاثين من تشرين الأوّل/أكتوبر، ومن سوف "يحكمهم" محليًا لخمس سنواتٍ مقبلة، في ظل تنافُس عائلي أهلي (وطائفي/ جهوي/ عشائري في بعض البلدات)، يبدأ قبل أكثر من سنة من موعد الانتخابات ويحتدم في الأشهر الأخيرة.

يبدو السؤال لماذا ينشغل الناس في الانتخابات المحليّة في البلدات العربيّة، كسؤالٍ له إجابة بديهيّة: لأن القلق اليومي والمباشر لمعظم الناس مرتبط بقضايا وخدمات مسؤولة عنها السلطات المحليّة، وهي ظاهرة موجودة في كل العالم. لكن في حالتنا كفلسطينيين في الداخل، هناك اشتقاقات أخرى للسؤال: لماذا ننشغل بالانتخابات المحليّة بهذه الصورة التي لا تخلو منها الانقسامات والتشرذُم الأهلي ومظاهر العنف؟ ولماذا ينحصر الاهتمام بالشأن العام بشكل أكبر بكثير، في القضايا المحليّة، مقارنة بالقضايا السياسيّة الأكبر والأهم، المتّصلة بحياتنا ومستقبلنا في هذه البلاد، والمرتبطة بعلاقتنا مع المؤسسة الإسرائيليّة؟

الإجابة على هذه الأسئلة بحاجة لفهم المبنى الأبوي الذي تُكرِّسه طبيعة هذه الانتخابات داخل المجتمع العربي، إذ إن إسرائيل أدركت مبكرًا كيف يمكن للسلطات المحليّة أن تكون أداةَ سيطرةٍ على مواطنيها الفلسطينيين، من خلال إتاحة التنافس السياسي الداخلي على سلطات تُدير الشأن اليومي المحلي من خلال بعض الوظائف والميزانيّات التابعة لوزارة الداخليّة الإسرائيليّة، فبعد سرقة الوطن ومصادرة الأرض، تُوفّر السلطات المحليّة فضاءً لبناء الزعامة ومكانًا للعمل ومصدرَ رزقٍ جيد ومريح.

يلتفُّ الناس للوصول للسلطة حول العائلة (العشيرة/ الطائفة/ الحارة) لمنافسة العائلة الأخرى وقد تنقسم العائلة داخل نفسها حول من يمثّل مصالحها من هذه "الكعكة". حتى بعد دخول الأحزاب السياسيّة العربيّة لمعترك الانتخابات المحليّة، ولا يزال الطابع تنافسيًا عائليًا، وانجرّت الأحزاب إلى هذا المنطق تحت مسميات براغماتيّة بهدف التغيير، لكن الذي حصل أن الأحزاب هي التي تغيّرت (مع بعض الاستثنائات القليلة)، وأصبحت تعمل بالمنطق ذاته والأدوات الذي دخلت من أجل محاربتها.

شريحة واسعة من الشباب والأكاديميين يختارون الابتعاد عن المشاركة في هذه الانتخابات، ويكتفون بالتصويت فقط، ومنهم من شارك في العمل سابقًا، خصوصًا من خلال الأحزاب، ثم أصابه الإحباط. لم تعد انتخابات السلطات المحليّة الحالية مكانًا سهلًا ومُحببًا للعمل والنشاط السياسي لمن يُريد أن أن يطرح برامجًا ورؤى نهضويّة، وأصبحت محكومة بشبكة علاقات أهليّة يتنافس فيها الساعون للزعامة والوظيفة مع ما يُرافقها من مظاهر من النفاق والتملّق والمحسوبيّة. وفي السنوات الأخيرة، أصبح لـ"عائلات الجريمة المنظمة" والمصالح الاقتصادية الكبرى دورٌ في حسم نتيجة الانتخابات وازديادِ مظاهر العنف.

لكن مع كل مساوئ الحالة الراهنة وتردّي دور الأحزاب، هناك حاجة أن يكون هناك بديلٌ لقوائم تكون خارج سلطة العائليّة، تجمع من يرفض المبنى الحالي لهذه الانتخابات. فكرة وجود قائمة تقوم على رفض التقسيمات الأهليّة التي تُفرزها هذه الانتخابات وتطرح برنامج عمل مبني على مراجعة مهنيّة للقضايا المحليّة وكيفيّة حلّها، هو أمر مطلوب أكثر من أي وقت حتّى لو كانت فرص النجاح ضئيلة.

وجود مثل هذه القوائم التي تُفسح المجال لأي شخص للانضمام والترشُّح بشكل ديمقراطي دون اعتبارات هوياتيّة، يُعطي أملًا لإمكانية التغيير مستقبلًا. هذا ما ادّعت الأحزاب القيام به وفشلت. في كل انتخابات تُطرح مثل هذه الفكرة وتتحمّس لها شرائح عديدة، لكنّها لا تخرج إلى النور. هناك بعض الأمثلة لمثل هذه القوائم في بعض البلدات العربيّة التي طرحت نفسها كقوائم خارج الاصطفافات والتقسيمات العائليّة وضمّت شبابًا وأكاديميين وموظفين وعمّالا وطلابًا من مختلف الشرائح، وعملت بشكل مهني وما زالت موجودة.

هناك أهمية لدور هذه القوائم غير ما تقوم به محليًا فقط، إذ تنبُع حاجة للقاء هذه التجارب ببعضها البعض قُطريا لتبادل المعرفة والخبرات بين بعضها والتفكير في كيفيّة تعميم الفكرة في بلدات أخرى. هذا يتطلب عملا ليس لفترة أشهر قبل موعد الانتخابات، بل عملَ سنواتٍ تُرافقها مبادرات مجتمعيّة مختلفة تسعى إلى وضع الرأي العام المحلي في القضايا الحياتيّة المحليّة خارج سلطة العائلة، وإشراك الفرد بشكل مباشر، حيث تصبح عمليّة اتّخاذ القرار مبنية على التفكير العقلاني من أجل مصلحة جماعيّة.

لن تختفي العائليّة من السلطات المحليّة، وستُرافِقنا لسنوات طويلة، لكن يمكن تحجيمها والحد من توغّلها في الفضاء العام والقرار الفردي؛ من خلال إقامة قوائم جديدة تؤمن من الأساس برفض سلطة العائليّة بكافّة أشكالها، والشرط الأول لتأسيس وإقامة هذه القوائم، أن كل فرد ينضم لها لا يمثّل أحدًا... هو يُمثّل نفسه وأفكارًا يطرحها أو يوافق عليها.

اقرأ/ي أيضًا | 3 مظاهرات تخشاها إسرائيل بعد "قانون القومية"