في الوقت الذي تقرر فيه الولايات المتحدة وقف تمويل الأونروا، فإنها تشجع بل وتدعو الدول العربية، وخصوصًا دول الخليج، إلى تمويلها. قد يبدو الأمر متناقضا في ظاهره وغير منطقي، ولكن بمراجعة الإستراتيجيتين الأميركيّة والإسرائيلية والتكتيكات المتبعة، يمكن القول إنّ التناقض الظاهر شكليّ وما هو إلّا مصيدة يراد منها التنصل من المسؤولية الدولية عن قضية اللاجئين والالتزام بحفظ حقوقهم. تتضح هذه المصيدة في تتبع ردود العديد من الدول وسياسيين فلسطينيين ممن يشددون على دعوة الدول العربية الخليجية لسد العجز الناشئ عن قرار الإدارة الأميركيّة بوقف تمويل الأونروا، على اعتبار أن هكذا تدخل سيفشل مخطط ترامب. فإذا كانت الهجمة على الأونروا سياسية، وإذا كان الهدف تصفية الأونروا فلماذا ترحب الولايات المتحدة بدعم عربي للأونروا؟ تقتضي الإجابة على هذا السؤال ضرورة البحث في المقصود بتصفية الأونروا، باعتبارها وكالة دولية تديم حالة اللجوء والصراع بحسب إسرائيل وأميركا، وذلك لمعرفة سبل وآلية مواجهة الهجمة.

لا شكّ أنّ تصاعد الهجمة على الأونروا قد ترافق مع الحديث عما يسمى بصفقة القرن، ولكن الحقيقة أن تصفيتها، باعتبارها ركنًا من أركان حفظ قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم، مشروعٌ سياسي متجدد تعمل عليه إسرائيل والولايات المتحدة منذ زمن ليس بقصير. ليس في هذا تقليل من آثار قرار الإدارة الأميركيّة القاضي بالتوقف الكامل عن دعم الأونروا على حجم ونوع الخدمات الإنسانية الأساسية التي تقدمها الأونروا لقرابة ستة ملايين لاجئ فلسطيني في مناطق عملها الخمس، إنّما من الضرورة بمكان التأكيد على أن أزمة الأونروا ليست أزمة إدارية أو مالية، إنما نتاج هجمة سياسية إستراتيجية منظمة ومتشعبة توظف فيها الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما جملة من الإجراءات لتحقيق هدف إفشال الأونروا وتحويلها إلى وكالة شكلية.

تحويل الأونروا إلى وكالة شكليّة غير فاعلة:

تدرك الولايات المتحدة أن إلغاء الأونروا بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة أمر أشبه بالمستحيل عموما، أو على الأقل غير متاح في الظروف والمعطيات الراهنة. لذلك، كثّفت من جهودها لإفشال الأونروا كسبيل لتحويلها إلى وكالة شكلية لا حول ولا قوة لها، وبالتالي غير فاعلة. وبلا شكّ، فإنّ تجربة جعل لجنة التوفيق الدولية بشأن فلسطين، المكلفة بالحماية وبحل قضية اللاجئين عبر تطبيق القرار 194 لعام 1948، هيئة شكلية غير فاعلة موجودة اسميا ولكنها غائبة كليا عن الفعل منذ مطلع الخمسينيات، هي نموذج ناجح ومتاح للولايات المتحدة وإسرائيل. وعليه، لا يمكن الفصل بين تقليص الدعم الأميركي للأونروا وإعادة تعريف من هو لاجئ بمشروع فرض حل بموافقة السلطة الفلسطينية أو بدونها على المنطقة.

إنهاء نظام الحماية الدولية الخاص باللاجئين والمهجرين الفلسطينيين:

نتيجة لإدراك الأمم المتحدة لدورها في التسبب في حالة اللجوء الفلسطيني جراء قرار 181 لعام 1947 (خطة تقسيم فلسطين بحدوده الانتدابية)، ورفض الدول العربية إدراج اللاجئين الفلسطينيين ضمن نظام الحماية الدولي العام والذي كان يعاني من خلل جسيم آنذاك، وبالاستناد إلى تقارير اممية عدة، تم تصميم نظام حماية خاص باللاجئين الفلسطينيين من اجل ضمان تمتعهم بحماية مضاعفة، ومن اجل حل قضيتهم بأسرع وقت. وعليه، تم تشكيل لجنة التوفيق الدولية بشأن فلسطين بموجب القرار رقم 194، والتي كُلّفت بجملة من المهمات أبرزها حماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين القانونية في العودة إلى ديارهم الأصلية، واستعادة الممتلكات، والتعويض، والتأهيل الاقتصادي والاجتماعي. ونتيجة لتعثر مهماتها أمام الرفض الإسرائيلي، جرى تشكيل الأونروا بموجب القرار 302 لعام 1949 كهيئة مؤقتة كُلّفت بتأمين المساعدات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين في مناطق تركزهم، بما في ذلك المهجّرون الفلسطينيون في أراضي 1948، حيث تم استثناؤهم من ولاية الأونروا في العام 1952، بناءً على تعهد إسرائيلي برعاية حقوقهم. ولإدراك المجتمع الدولي آنذاك باحتمال توقف تمتع اللاجئين بحماية أي من لجنة التوفيق الدولية أو الأونروا، أوجبت الجمعية العامة تدخل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، وهي الهيئة المسؤولة عن سائر اللاجئين في العالم، لسد الفجوة في الحماية.

وبعيد أيّام من حرب العام 1967، اتخذ مجلس الأمن الدولي القرار رقم 237، والذي دعا إلى عودة من نزحوا خلال الحرب إلى ديارهم. وفي مواجهة الرفض الإسرائيلي لتطبيق القرار، تم إقرار حقّ هذه الفئة من اللاجئين بتلقي المساعدات الإنسانية، وبالتالي تم إدراج المهجرين الفلسطينيين جراء حرب 1967 ضمن الأشخاص الواجب توفير المساعدة الإنسانية لهم من قبل الأونروا، إلى أن يتم إنفاذ القرار.

اليوم، وبعد سبعين عاما من تأسيس هذا النظام الذي تعطل بسبب توقف لجنة التوفيق الدولية عن العمل، وبسبب محدودية ولاية الأونروا، وتقصير المفوضية عن الوفاء بالتزاماتها، أصبح نظام الحماية، المصمّم خصيصا للاجئين الفلسطينيين، والذي كان الهدف منه توفير حماية مضاعفة لهم، لا يفي بمتطلبات الحد الأدنى من الحماية الواجبة لهم.

مصيدة توريط الدول العربية وإعفاء المجتمع الدولي من مسؤولياته:

اللاجئ صفة قانونية يكتسب بموجبها الشخص الحقّ في الحماية الدولية نتيجة غياب الحماية الوطنية بسبب قيام الدولة نفسها أو تابعيها باضطهاد الشخص، أو بسبب عجزها عن تقديم الحماية للشخص. وقد تكون الدولة حالة استعمارية كما هو واقع الحال في فلسطين. ومفهوم الحماية تطور عبر تاريخ البشرية إلى أن أصبح التزاما دوليا عرفيا ومقررا في عدة وثائق دولية. والحماية الدولية تعني مجموع الإجراءات التي تكفل حفظ الكرامة الإنسانية، وتضمن تمتع الشخص بحقوق الإنسان الأساسية. وفي سياق اللجوء، وما دامت الدولة المسؤولة عن التسبب في اللجوء غير راغبة أو غير قادرة على ضمان تمتع الشخص بالحقوق المقررة، يلتزم المجتمع الدولي مجتمعا والدول منفردة بضمان تمتع الشخص اللاجئ بالحماية القانونية، والإنسانية، والفيزيائية. وهذا الالتزام ليس منحة، إنما مسؤولية دولية تبقى قائمة إلى أن يتم إنهاء حالة اللجوء بناء على الخيار الحر الفردي للشخص اللاجئ.

عندما أسست الأونروا كلفت للاضطلاع بمهمة توفير المساعدة الإنسانية للاجئين والمهجرين الفلسطينيين في مناطق تركزهم. وقد أسست الأونروا لتكون وكالة دولية مؤقتة ذات تكليف محدود قانونيا، وزمانيا، وجغرافيا (ليس كل اللاجئين الفلسطينيين كما هو تكليف لجنة التوفيق الدولية)، على اعتبار أنّ الأصل هو تطبيق القرار 194 المناط إنفاذه بلجنة التوفيق الدولية. وقد كان متصورًا، آنذاك، أن مأساة اللجوء سيتم تسويتها في أقرب وقت بحسب القرار، ولذلك قررت الدول أن نظام مساهماتها في صندوق الأونروا الطوعي سيفي بالغرض. وعليه، يمكن القول إن ولاية الأونروا ونظام تمويل صندوقها اعتراهما خلل منذ تأسيسها.

إن الخلل البنيوي في تأسيس وولاية الأونروا (وكالة مؤقتة، ذات صلاحيات محدودة، وموازنة غير مستقرة)، بالإضافة إلى تعريف الأونروا المحدود للاجئ، والذي وضع لغايات عملية تتعلق بالحاجة إلى المساعدة فحسب، تراكم عبر السنوات وصار بابًا مشرعا لاستثناء فئات من اللاجئين والمهجرين، وللتدخل في وظيفة الأونروا وبرامجها، والاشتراط عليها، وتوجيهها بحسب التوجهات السياسية للدول المانحة.

ولا شك أن الهجمة الأميركية الصهيونية الحالية على الأونروا أوسع من مجرد وقف تمويل الأونروا. هي هجمة ممنهجة ضمن إستراتيجية متعددة الوسائل والأدوات وتشمل: تقليص الدعم للموازنة العامة للأونروا، فرض شروط على المساهمات المقدمة، ضغط على الأونروا لتقليص الخدمات كمًا ونوعًا، ضغط و/أو إغراءات لنقل مسؤوليات الأونروا إلى الدول المستضيفة للاجئين، تحميل الدول العربية وخصوصا الخليجية مسؤولية تمويل الأونروا، تشجيع مؤسسات دولية أهليّة، ومؤسسات ولجان محلية للقيام بمهمات من اختصاص الأونروا أصلًا، ترويج فكرة أن الأونروا خصم للاجئين، وأنها وكالة تديم مأساة اللاجئين.

المطلوب تحرك فلسطيني إستراتيجي:

ليس خطأ القول إن الهدف الأميركي الإسرائيلي النهائي هو شطب حقوق اللاجئين والمهجرين، وفرض التوطين القسري. ولكن لبلوغ ذلك تدرك الولايات المتحدة أن إعفاء المجتمع الدولي من مسؤولياته والتزاماته، وأن نقل عبء تمويل الأونروا إلى الدول العربية، ومن ثم نقل مهمات الأونروا إلى الدول المضيفة خطوات ضرورية لبلوغ تلك الغاية. إن منظمة التحرير الفلسطينية، التي تملك القدرة على تقديم مشروع قرار لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مطالبة الآن بالخروج من دائرة ردة الفعل الإعلامية. على م ت ف ليس مطالبة الدول العربية بسدّ العجز في موازنة الأونروا فقط، إنما التقدم في الدورة القادمة للجمعية العامة، التي ستبدأ خلال الشهر الجاري، بمشروع قرار يمكن تمريره بأغلبية مريحة يضمن ويؤكد على أن:

1- الأونروا وكالة دولية ذات ولاية دائمة إلى أن يتم تنفيذ قرار الجمعية العامة رقم 194 لعام 1948، وقرار مجلس الأمن الدولي 237 لعام 1967.

2- نقل ولاية لجنة التوفيق الدولية بشأن فلسطين وملفاتها إلى الأونروا وهذا يقتضي عمليا:

أ‌. توسيع الولاية الشخصية للأونروا، أي توسيع تعريف من هو اللاجئ والمهجر الفلسطيني ليس بالاستناد إلى الحاجة إلى المعونات، بل بموجب التعرض إلى التهجير/الاضطهاد من عدمه بحسب القانون الدولي للاجئين؛ وذلك لتشمل ولاية الأونروا سائر اللاجئين الفلسطينيين بمن فيهم من هجروا في العام 1967، والمهجرين داخليا بمن فيهم الفلسطينيون المهجرون داخل الخط الأخضر.

ب‌. توسيع الولاية الجغرافية للأونروا لتشمل سائر اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين في مختلف مناطق تواجدهم وليس في مناطق عمل الأونروا الخمس فقط.

ت‌. توسيع الولاية القانونية للأونروا لتشمل الحماية القانونية والفيزيائية، وليس فقط تقديم المساعدات الإنسانية.

3- جعل موازنة الأونروا الأساسية اللازمة لتغطية البرامج والخدمات الأساسية جزءا من مساهمة الدول الالزامية في صندوق الأمم المتحدة، على أن تراعي الموازنة العامة نسبة زيادة سنوية تتوافق مع نسب ازدياد أعداد اللاجئين واحتياجاتهم.

4- مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة باتخاذ إجراءات عملية ووضع آلية لإنفاذ قرارات الجمعية العمومية في ما يتصل بحماية ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين وإدارتها وضمان حقهم في الانتفاع بعائداتها.

5- تكليف الأونروا - بدل ما يسمى بحارس أملاك الغائبين الإسرائيلي- بإدارة أملاك اللاجئين والمهجرين وصندوق العائدات إلى حين إنفاذ الحل الدائم بحسب القانون الدولي والقرارات ذات الصلة.

6- اتخاذ إجراءات عملية لإجبار إسرائيل على دفع عائدات الانتفاع بأملاك اللاجئين والمهجرين وتخصيص جزء منها لتغذية صندوق وموازنة الأونروا.

7- التأكيد على عدم جواز وعدم قانونية نقل مسؤوليات الأونروا إلى الدول المضيفة، أو المؤسسات والهيئات الأهلية الدولية أو المحلية.

إن مطالبة الدول العربية الخليجية بزيادة مساهماتها في صندوق الأونروا قد تؤدي، مؤقتًا، إلى استمرار تقديم بعض الخدمات للاجئين، ولكنها، على المقلب الآخر، تعني إعفاء المجتمع الدولي من مسؤولياته القانونية والأخلاقية حيال اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين. وهنا، بالذّات، تكمن المصيدة التي تسعى أميركا وإسرائيل إلى جرّ العالم إليها، وذلك تمهيدا لإنهاء ملف اللاجئين وحقوقهم عبر التوطين القسري وشرعنة الأمر الواقع.