وصل بؤس الحالة الفلسطينية حدًّا، أصبحت فيه الاستعانة بجهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك) ضد خصم سياسي مشروعةً.

فقد صرّح مسؤولٌ في حركة حماس، بأن جهات في المخابرات الفلسطينية في رام الله تتعاون مع الـ"شاباك" لضرب فرص المصالحة الوطنية. كما قال رئيس حركة حماس في قطاع غزة، يحيى السنوار، إن "هناك دولًا كبيرة أرادت إحباط المصالحة، وعلى وجه الخصوص جهاز الـ’شاباك’، وللأسف الشديد، هناك جهات داخل الاستخبارات الفلسطينية تعاونت مع الاستخبارات الإسرائيلية لإفشال المصالحة". ("العربي الجديد"، 6\9\2018)

بعد هذا النشر بيوم، قالت مصادر فلسطينية إن الرّئيس محمود عباس "هدد بقطع أي علاقة مع إسرائيل في حال أبرمت اتفاق التهدئة المحتمل مع حركة حماس، قائلًا: ’مبروك عليكم حماس’...". ("الحياة"، 7\9\2018)

وفي مطلع الأسبوع الجاري، نقل ناشطون في حركة "سلام الآن" عن عباس قوله خلال لقائه بهم في رام الله، إنّ لديه "مشكلة مع (رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين) نتنياهو، وليس مع الليكود (أي الحزب الذي يتزعمه نتنياهو). وأنا ورئيس الشاباك نلتقي بصورة دائمة ونتفق على 99% من المواضيع". ("عرب 48"، 2\9\2018)

وفي التصريحين المنقولين عن عباس كما وردا أعلاه في الفقرتين الثالثة والرابعة تناقضات واضحة لكنها تعكس شخصنة في مقارباته، فهل يعقل أن يهدد من يتفق بنسبة 99 في المئة مع رئيس الـ"شاباك"، بقطع كل العلاقات مع إسرائيل أي أيضا وقف التنسيق الأمني؟ أم أن الأمر مجرد تهديد ومحاولة للابتزاز، ظنًا منه أن إسرائيل لن تتنازل عنه بسبب التنسيق الأمني؟

تصريحات عباس الأخيرة، وتحديدًا اتفاقه بـ99 في المئة مع رئيس الـ"شاباك" هي تصريحات تاريخية بالمعنى السلبي، وهي التي تفسر تهديداته المتكررة بوقف التنسيق الأمني الذي يعتبره مقدسا. إن تصريحاته نتيجة ذهنية ترى أن إسرائيل تراهن على الأشخاص في أمنها، وأنها لن تتنازل عنه شخصيا لأنه يقوم بمهامه على أكمل وجه بالتنسيق الأمني. وهذه الشخصنة لم تتوقف عند حد الاتفاق مع شخص رئيس الـ"شاباك"، بل التصريح بأن لا مشكلة عنده مع الليكود، وإنما مع شخص نتنياهو، وقبلها شتم شخص السفير الأميركي في تل أبيب، دافيد فريدمان، بـ"ابن الكلب".

لكن تصريحات عباس لا تعكس موقفه وأسلوبه وحده، بل موقف وأسلوب جهازٍ كاملٍ اسمه السلطة الفلسطينية في رام الله، التي تؤمن أو تنفذ ما يفكر به، أي أن المشكلة ليست بشخص عباس بل بالجهاز السياسي والأمني الذي يقوده، وحتى لو تبدل شخص الرئيس فإن "العقيدة الأمنية" ستستمر.

أما أن يجاهر "زعيم شعب" بأنه يلتقي بشكل ثابت بموظف أمني رفيع المستوى في جهاز استخبارات بلد آخر (وقد يكون هذا الموظف قد أصدر تعليمات بقتل مناضلين بدقائق قبل اللقاء)، فإن ذلك إهانة لكل الشعب الفلسطيني، لأن ذلك ليس لقاء بين زعيمين، بل بين رئيس دولة وموظف مخابرات يخضع في نهاية الأمر لقرارات رئيس حكومته وليس العكس. لنتخيل مثلا أن يعقد نتنياهو لقاءات دورية مع رئيس المخابرات الفلسطينية، ويتفق معه بـ99 في المئة من المواضيع. سيصفه اليمين حينها بأنه "يساري خائن".

ما لم يدركه عباس هو أن إسرائيل دولة مؤسسات، ولا تراهن في أمنها أو أي شأن آخر على علاقات شخصية بين رئيس الـ"شاباك" ورئيس السلطة الفلسطينية. وهذه ليست مشكلة عباس وحده، بل هذه عقلية "رجال أوسلو"، الذين ظنوا بأنه من خلال "الفهلوة" و"الشطارة" و"السهر والسمر" مع شخصيات أمنية وسياسية إسرائيلية سيؤثرون على عملية اتخاذ القرارات في إسرائيل، حتى صار كل مسؤول فلسطيني أمني رفيع له "زوج" إسرائيلي يسهر ويسمر معه، وليس آخرها العلاقة الشهيرة بين موفاز ودحلان. وفي الحقيقة فإن ما حدث هو العكس تماما، أي أن "العلاقات الشخصية" ورّطت الطرف الفلسطيني بتنازلات والتزامات أمنية للاحتلال، ولم تزحزح قيد أنملة من مواقف الطرف الإسرائيلي.

وهذه العقلية يبدو أنها هي التي أدارت الثورة الفلسطينية، حيث مرت العلاقات مع الأنظمة العربية بأفراد من أجهزة المخابرات عبر علاقات شخصية، لا علاقة ندية بين طرفين. يبدو أن هذا الأمر دارجٌ في الدول العربية ولكن بكل تأكيد ليس في دول غربية حديثة مثل إسرائيل. وهذه العقلية، ذاتها، هي التي لا تمانع أن يندمج العرب في أحزاب صهيونية أو حتى دخولهم لأجهزة الأمن الإسرائيلية للسيطرة عليها من الداخل.

هل هم على هذه الدرجة من البساطة والسذاجة؟ بالطبع ليسوا سذّجا، ولكن يؤمنون بما يقومون به لأن كيانهم بات مرهونا بأجهزة الأمن الإسرائيلية، ومصالحهم الاقتصادية مربوطة برضا الـ"شاباك" والحكومة الإسرائيلية.

وبالعودة إلى تهديدات عباس بوقف التنسيق المقدس من خلال قطع كل العلاقات مع إسرائيل، فقد عبّر وزير الأمن السابق، موشيه يعالون، عند توليه منصبه، أن السلطة الفلسطينية لن تنهار ولن توقف التنسيق الأمني حتى لو حلّت نفسها، وذلك لأنه حتى لو قرر عباس "رمي مفاتيح السلطة"، فإن كثرًا سينبطحون على الأرض لتلقف هذه المفاتيح، كما قال، وأن عشرات آلاف الأسر الفلسطينية في الضفة الغربية مصدر رزقها هو الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومؤسسات السلطة عموما، وهي لن تسمح بانهيار أو حل السلطة لأنها ستخسر مصدر رزقها.

هذا كله لا يعني أن الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية لا تقدّر دور عباس، إذ أن الـ"شاباك" يعارض التهدئة في غزة لأنها تتجاوز رئيس السلطة. بل بالعكس، هي تقدر ذلك لأنه يقدم لها خدمات أمنية وسياسية بأبخس الأثمان، والمقابل الذي تقدمه له معقول لكنه مصيري بالنسبة له، فهي تمنع إقامة "بنى تحتية" لحماس في الضفة قد تنقلب على عباس، وهي تقدم تسهيلات اقتصادية تبقي الشارع الفلسطيني مخدرا ضد فساد السلطة وفشلها الاقتصادي والسياسي الواحد تلو الآخر.

ولأن كل أمور السياسة صارت شخصية، فإن العداء لحماس أيضًا هو حقد شخصي من قبل عباس، وكذلك النقمة على أهل القطاع شخصية، لأنهم لم ينتفضوا ضد حكم حماس. وإذا كانت كل الأمور شخصية، فإن الحديث عن انعدام مشروع وطني فلسطيني في هذا السياق، صار مبتذلا وهوسا شخصيا.

اقرأ/ي أيضًا | حق تقرير المصير للفلسطينيين في إسرائيل

أما عن سكوت أحزابنا في الداخل وعدم إدانتها لتصريحات عباس وتآمره على أهالي غزة، فإن أيضا "أمورا شخصية" لها دور كبير في هذا السكوت المدوي.