تصدر بين حين وآخر بيانات تتعلق بنشاط فني أو رياضي، فتحرمّها بحجّة أنها تؤدي للاختلاط، وبأنها تفتح الطريق للفتنة والشيطان وغيرها من حجج.

يستطيع كل واحد أن يزعم بأن البيان الذي صدر مؤخّرا في أم الفحم، ليس ملزمًا لأحد، ومن يريد حضور هذا الحفل أو ذاك، فإن أحدا لن يصدّه بالقوّة.

صحيح أن هذا غير ملزم لأحد، ولكن بيانات مثل هذه في كل مرة سببت وتسبب توتّرًا اجتماعيًا، وتشير إلى إمكانية اشتعال المشاكل أو افتعالها في مجتمعنا وبسهولة كبيرة.

البيانات تؤثّم شرائح واسعة من المجتمع، وتضغط عليها، وتُشعرها بأنها تمارس أمرًا لا أخلاقيًا عندما تحضر حفلا فنيًا.

الإعلان بأن حضور حفل كهذا حرام، يضع الناس الذين يفكرون في حضوره في موضع مشبوه، وحينئذ من ذا الذي يرضى بأن يذهب إلى حفل مشبوه مع زوجته أو ابنته، في الوقت الذي يعرف بأن هناك من يشكك بأخلاقه وأخلاق زوجته وابنته! هكذا تتنازل الأكثرية عن العرض منعًا للمشاكل ولكف ألسن الناس ونظراتهم عنهم.

هناك المئات، وربما الآلاف من الشبان صغار السن الذين يتأثرون بهذه البيانات، فينظرون إلى إخوانهم وأخواتهم وأقربائهم ممن سيحضرون نظرة فيها شكوك حول سلوكهم وأخلاقهم.

لقد شاهدت مثل عشرات الآلاف من الناس عروضًا فنية كثيرة لمثل هذه الفرق، مثل سراج والكناري والمجد وفرقة ترشيحا وولعت وغيرها الكثير من الفرق والفنانين الذين لم أذكر أسماءهم ولكنهم رائعون، رأيت أناسًا فرحين بما يسمعون، ويطلبون المزيد، ويعودون إلى بيوتهم راضين، وقد أخذوا وجبة دسمة من الفن الجميل والمشاعر النبيلة الراقية.

تحريم عرض فرقة فنية أو نشاط رياضي يعني قتل روح الفن والإبداع في المجتمع، فمن يشعر أنه ذاهب باتجاه الحرام والإثم سوف يمنع ابنه من تعلم الموسيقى وغيرها من الفنون.

أن البلديات والمسؤولين عادة ما يصدرون بيانات بعد هذه النشرات تحاول التجسير بين الناس والدعوة لعدم العنف، إلا أنه واقع كئيب، عندما نضطر في كل مرة إلى إلغاء حفل موسيقي أو نشاط رياضي تحت وطأة هذا الضغط، علمًا بأنّ الموسيقى، وخصوصًا الراقية التي تحاكي أغاني السيدة أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان ونجاة الصغيرة وفيروز وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد ووردة الجزائرية ومحمد عبد المطلب وكارم محمود وليلى مراد وغيرهم من فناني ما يسمى "الزمن الجميل"، تسهم في تهذيب ذائقة الجيل الشاب، وترتقي به، وتحمل طاقاته إلى مواقع جميلة بعيدة عن الكبت والعنف، وفي الوقت ذاته مُهذِّبة بشكل راق ويلائم تقاليدنا الاجتماعية وأصالتنا، ويعين على السّلم الاجتماعي.

في هذا العالم لا يمكن منع الاختلاط، وكلما كان هناك تشدد أكثر، أسأنا لأبنائنا وبناتنا ولأجيال المستقبل من حيث لا ندري، فأنت لا يمكن أن تحرّم الاختلاط في عرض موسيقي تحت أبصار وأعين الناس، ثم وبعد كبت سنين ترسل ابنتك أو ابنك إلى الدراسة في جامعات ومعاهد أو أمكنة عمل، يضطرون فيها إلى السفر أو المبيت لفترات طويلة، أو حتى العيش في خارج البلاد لفترات طويلة. والحديث، هنا، عن الذكور والإناث.

الجميع يعرف أن هذا يسبب إشكاليات، وعقدًا لدى الكثيرين، بحيث أن الفتيات يرتدين في بلدانهن ملابس محتشمة جدًا، وفي الجامعات يستبدلنها بثياب أخرى قريبة من البيئة التي يعيشون فيها وفي محيطها، ومن الشّبان من يضطر للظهور بمظهر ديني ولكنه حين يجد فرصة يكون مختلفا تمامًا، وهذا معروف عن السعوديين والخليجيين الذين يسافرون إلى خارج بلادهم.

هذا يجعل الكثيرين من شبابنا يعيشون في انفصام وفي عدّة وجوه، واحدة في أم الفحم وباقة الغربية وأخرى في تل أبيب والقدس وحيفا وبئر السبع، وأخرى في بادوفا أو بوخارست. وهذا لا يقتصر على الطلاب الجامعيين، بل على الأهالي أيضًا، فكثير منهم تختلف ممارساته ولباسه من مدينة إلى أخرى، أنظرُ العربَ كيف يتحوّلون في أنطاليا ومرمريس وبودروم وأماكن النقاهة، إلى أناس آخرين غير الذين نعرفهم.

هذه الإفتاءات تمسُّ بشريحة كبيرة من المواطنين، في أم الفحم وغيرها من مدننا وقرانا، وليس صدفة أن كثيرين من الأزواج الشابة في مدننا يهاجرون إلى المدن المختلطة مثل حيفا وعكا والناصرة ونتسيرت عليت والقدس.

ليس فقط بسبب الضائقة السكنية، بل، أيضًا، بسبب الضغوط الاجتماعية التي تتدخل إلى درجة لا تطاق في حياة الإنسان الشخصية، إلى جانب تهديدات حكومة إسرائيل بنقل بعض هذه المناطق إلى وصاية سلطة رام الله.

لا يوجد أقسى من أن يعيش الإنسان بغير حقيقته.

كنا نود أن نرى النموذج التركي المعتدل الذي أصبح عالميًا بوصلة لهؤلاء، وليس صدفة أن أميركا تقاومه، وتريد إسقاطه، في الوقت الذي تدعم فيه النماذج الأخرى الظلامية المتخلفة التي تخنق مجتمعاتها.

أيها الناس عيشوا حياتكم الشخصية كما تشاؤون، ودعوا الناس تعيش حياتها كما تشاء، احترام الآخر وعدم التدخل في شؤونه الشخصية هو عماد المجتمعات السليمة الناجحة، أنا لن أتدخل في شؤونك ولا أنت تتدخل في شؤوني، التدخل في كل صغيرة وكبيرة، والتحول إلى أوصياء على الناس بأي شكل كان، هو وصفة لمعيشة ضنكى للجميع وبدون استثناء.