قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بإغلاق مكتب البعثة الفلسطينية في واشنطن، هو جزء من سلسلة قرارات اتخذها ضد الفلسطينيين، بينها الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، نقل السفارة الأميركية إليها، وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وقف تمويل المستشفيات الفلسطينية في القدس.

واضح من هذه الممارسات أن ترامب لا يمارس سياسة خارجية، وإنما يحاول ممارسة ضغوط على الفلسطينيين في محاولة للقضاء على القضية الفلسطينية والهوية الفلسطينية وابتزاز موافقتهم على صفقة ما، يعتبر أنها ستؤدي إلى حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. ويبدو أن أداء ترامب هذا هو نهج، يستخدم فيه التصريحات العدوانية إلى جانب فرض عقوبات، أو التهديد بعقوبات كهذه حتى بحق دول عظمى، مثل روسيا والصين.

وفيما تخلو سياسة ترامب الخارجية من الدبلوماسية وأصولها، فإن الرئيس الأميركي الحالي يمارس تجاه الفلسطينيين سياسة اليمين الإسرائيلي. ومن أجل تنفيذ ذلك هو ليس بحاجة لأن يتلقى تعليمات أو توجيهات من رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو. فهو محاط بمجموعة من المستشارين الأميركيين، اليهود وغير اليهود، من غلاة المؤيدين لليمين الإسرائيلي المتطرف. وهؤلاء المستشارون يؤيدون فكرة "أرض إسرائيل الكاملة" والاستيطان ويرفضون قيام دولة فلسطينية بين النهر والبحر ولا يعترفون بأي حق للفلسطينيين، وحتى أنهم لا يرون الوجود الفلسطيني.

ويعني ذلك، إلى جانب التأييد الكبير من جانب الإنجيليين، داعمي ترامب، أنه على عكس ما يحذر منه بعض المحللين الإسرائيليين، من أن الإسرائيليين سيدفعون ثمنا في حال التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، فإن ترامب لن يتمكن من مطالبة إسرائيل بدفع أي ثمن كهذا. وفي حال طالب الإسرائيليين بدفع ثمن، فإن ما سيحصل هو أنه هو شخصيا سيدفع ثمنا. إذ أن ترامب بدون خلفية سياسية، وهو شخصية سياسية هشة، ومتورط بفضائح عديدة، تم كشفها حتى الآن. وليس مستبعدا أن يكون الثمن الذي سيدفعه هو كشف مزيد من الفضائح تقود إلى عزله عن منصبه. لذلك، يتوقع من ترامب أن "يتعقل" وألا يطالب إسرائيل بدفع أي ثمن.

وبالنسبة لإسرائيل، فإن الحالة الفلسطينية الراهنة، الانقسام والغياب الكامل لحركة تحرر وطني، هي فرصة ذهبية يقتنصها الاحتلال الإسرائيلي من أجل تنفيذ مخططات قديمة، يعود تاريخها إلى أكثر من مئة عام. إذ كان هناك إجماع داخل الحركة الصهيونية برفض قيام دولة فلسطينية. ودار نقاش داخل الحركة الصهيونية، قبل قيام إسرائيل، حول قرار التقسيم، بين معارضين له، وبين مؤيدين تبنوا مقولة "نقبل حاليا بما يعرضونه علينا الآن". كذلك كان هناك إجماع في الحركة الصهيونية على أن دور الانتداب البريطاني هو التمهيد لقيام دولة يهودية في فلسطين وليس دولتين.

ويدفع اليمين الإسرائيلي، بقيادة بنيامين نتنياهو، بشكل واضح وصريح نحو المخططات الصهيونية المذكورة. وهذا لا يعني أن حكومات حزب العمل الأخيرة، برئاسة يتسحاق رابين وشمعون بيرس وايهود باراك، وحكومة ايهود أولمرت أيضا، لم تعمل وفقا للرؤية الصهيونية التاريخية المعارضة لحق تقرير المصير للفلسطينيين. ومقولة إن اتفاق سلام إسرائيلي – فلسطيني خلال ولاية أولمرت كان قاب قوسين أو أدنى ليس صحيحا. وكذلك مقولة أن رابين رجل سلام وأراد التوصل إلى اتفاق سلام ليست صحيحة. وإلا، لماذا لم يصنعوا سلاما كهذا.

ويؤكد أحد أبرز المفاوضين الإسرائيليين ونائب وزير الخارجية خلال مفاوضات أوسلو، يوسي بيلين، في البرنامج الوثائقي "يوميات أوسلو"، على أن رابين وبيرس رفضا التوصل إلى اتفاق دائم بدلا من اتفاق مرحلي، هو اتفاق أوسلو، وتجاهلا احتمالات إحباط هذا الاتفاق خلال خمس سنوات الفترة المرحلية. كما امتنع قادة إسرائيل عن تطبيق اتفاقيات أوسلو، ومن ثم أفرغوه من مضمونه بالتعاون مع اليمين الإسرائيلي، مثلما حدث، على سبيل المثال لا الحصر، عندما وافق باراك على اقتحام أريئيل شارون للحرم القدسي، في العام 2000، رغم تحذيرات أجهزة الأمن الإسرائيلية من غضب فلسطيني وتوقع اندلاع انتفاضة.

ويدعي ما يسمى "اليسار" في إسرائيل، حزبا العمل و"ييش عتيد" برئاسة يائير لبّيد، أنه قلق على مستقبل إسرائيل، ليس لأنها ستتحول إلى دولة أبارتهايد وليس قلقا على حقوق الإنسان الفلسطيني، الذي تُنتهك حقوقه بمستوى جرائم حرب، وإنما لأن إسرائيل لن تبقى ذات أغلبية يهودية، وبزعم التخوف على الديمقراطية، رغم أن هذه الديمقراطية منتهكة منذ تأسيس إسرائيل وحتى اليوم بحق مواطنيها العرب، وهناك العديد من الأبحاث التي صدرت في إسرائيل مؤخرا التي تشكك بأن جميع اليهود يتمتعون بهذه الديمقراطية الانتقائية.

ومن خلال تطبيق اليمين الإسرائيلي لنظرية "أرض أكثر، عرب أقل"، بالتعاون مع "اليسار" الإسرائيلي، فإن الهدف، على ما يبدو، ليس ضم المناطق التي يوجد فيها كثافة سكانية فلسطينية إلى إسرائيل، لأنه لا يمكنها منح المواطنة لنحو ثلاثة ملايين فلسطيني. وهذه المناطق أطلق عليها في اتفاقيات أوسلو تسمية "المنطقة "أ"، التي تشكل 18% من مساحة الضفة الغربية. ويتبين من النظر إلى خريطة الاستيطان في الضفة، وكذلك لتصريحات وزراء مركزيين في حكومة نتنياهو، أن النية واضحة وتتجه نحو ضم 78% من الضفة. أما المنطقة "أ" فستكون على شكل كانتونات ذات حكم ذاتي، وتكون تابعة لإسرائيل أو للأردن، بحسب تصريح رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، مؤخرا.

ليس المقصود مما ذُكر أعلاه دبّ اليأس بالفلسطينيين، بل على العكس. إنها محاولة لتوضيح صورة الوضع الذي آلت إليه القضية الفلسطينية، وأن على الفلسطينيين أن يدرسوا خطواتهم المقبلة تجاه إسرائيل والعالم، وفي مقدمته الولايات المتحدة. وأن يدرسوا خطواتهم تجاه قيادتهم الحالية أيضا، التي ينبغي أن تتنحى، بعد فشل رؤيتها وإستراتيجيتها. على الفلسطينيين أن يكونوا موحدين تحت سقف أعلى، رغم الخلافات بينهم. ففي فلسطين يعيش ستة ملايين فلسطيني، ويعيش خارجها عدد مشابه، وبإمكان هذين التجمعين، في فلسطين والشتات، حيث يوجد ثقلهم السياسي والديمغرافي، بإمكانهما أن يشكلا قوة لا يستهان بها، القيام بخطوات تؤثر على العالم كله، وليس أقل من ذلك، وقلب الحالة الراهنة التي يعيشونها رأسا على عقب.