أجمع محللون في إسرائيل على أن فيديو 'التطهير العرقي' الدعائي الذي أطلقه رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، مساء الجمعة، هو تعبير عن أزمة سياسية حقيقية، يواجهها في ظل التقارير عن أن الشرطة تشتبه وتحقق بأنه حاول الاحتيال والغش، بالتوازي مع استطلاعات الرأي العام التي أظهرت، للمرّة الأولى، تفوّق حزب 'يش عتيد' بزعامة يئير لابيد على حزب الليكود بزعامة نتنياهو، وذلك على ما يبدو في أعقاب 'أزمة القطارات' قبل أسبوع.

ولا تجافي التحليلات الإسرائيلية الحقيقة أو الصواب في أن نتنياهو كلما وجد نفسه في ورطةٍ سياسيةٍ سارع إلى إطلاق حملةٍ تحريضيةٍ جديدة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في داخل إسرائيل حتى. فهذا ما حصل يوم الانتخابات البرلمانية في مارس/آذار 2015، عندما نشر فيديو تحريضياً، قال فيه إن العرب 'يهرولون' إلى صناديق الاقتراع، وصولاً إلى الفيديو الجديد. لكن اللافت، هذه المرة، أن نتنياهو سعى بخبث إلى استخدام المواطنين العرب في إسرائيل في دعايته، عندما قال إنهم 'لا يشكلون عقبة أمام السلام'، لكنه سارع ووضعهم في خانة واحدة مع المستوطنين، وزعم أنهم معًا لا يشكلون عقبة أمام السلام. وهذه المقاربة، بين سكان (وأصحاب) البلاد الأصليين ومستوطنين غزاة ليست جديدة، لكنها أول مرة تصدر عن شخصيةٍ رسمية في منصب رئيس الحكومة، وتستخدم بهذا الشكل الفظ.

كما يسعى نتنياهو من الفيديو إلى مواجهة الاستطلاعات التي استجدّت أخيراً، بإعادة النقاش في الرأي العام الإسرائيلي إلى قضية الصراع مع الفلسطينيين، وهي ساحته المفضلة، بدلاً من انشغاله بقضايا مدنية، مثل أعمال صيانة القطارات أيام السبت، وفصل الدين عن الدولة، وهي القضايا التي منحت لبيد تفوقًا على نتنياهو في الاستطلاعات أخيراً. فنتنياهو يدرك أن سيطرة قضايا الدين والدولة على الرأي العام تخدم لابيد، بينما فرض أجندة الصراع مع الفلسطينيين تخدمه هو، لإدراكه أن مواقف الإسرائيليين يمينيةٌ قريبةٌ إليه في معظمها.

وتستدعي تفوهات نتنياهو، أخيراً، التوقف عند أمرين: أولًا؛ لم تتوقف خطورة هذه التفوهات عند التحريض والمقاربة بين المواطنين العرب والمستوطنين والمناورة السياسية الداخلية، بل تصل إلى إعادة طرح خطاب 'الاعتراف بالحقوق اليهودية' التاريخية. وليس هذا الخطاب جديدًا، فقد استخدمه نتنياهو منذ صعوده إلى الحكم، أول مرة منذ نحو عقدين، وتبنته جدياً وزيرة الخارجية السابقة و'محبوبة العرب' تسيبي ليفني، وكذلك أريئيل شارون وإدارة جورج بوش الابن، ويرتكز على الادعاء بأن على الفلسطينيين الاعتراف بحقوق اليهود التاريخية، قبل التوصل إلى أي تسوية، مثل الاعتراف بإسرائيل دولةً يهودية، وحصول 'اللاجئين اليهود' على تعويضاتٍ من جرّاء مغادرتهم بلدانهم العربية الأصلية، مثل العراق واليمن وغيرهما.

 يهدف خطاب 'الحقوق اليهودية' إلى موازاتها بحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والإنسانية، والذي لا يعتبر تطبيقها والاعتراف بها اعتداءً على شعب آخر، أو تطهيرا عرقيًا، بل إحقاق العدالة النسبية في إطار تسويةٍ تاريخيةٍ تضمن العدالة النسبية أيضًا، للطرف الآخر. فيما 'الحقوق اليهودية' المزعومة دعائية، وهدفها المساواة بين الضحية والجلاد، بين السكان الأصليين والمعتدين.

لكن اللافت أيضًا أن خطاب 'الحقوق اليهودية' يعتبر الاعتراف بهذه الحقوق أمراً أخلاقياً وجوهرياً وتاريخياً ومطلقاً غير قابل للمساومة، فيما الحقوق الفلسطينية مسألة فيها نظر، ومسألة تسوية حدودية في أحسن الحالات. أما قضية اللاجئين فهامشية مقارنةً مع عدد اللاجئين السوريين مثلاً، ويمكن تجاوزها بحل دولي، مثل إقامة صندوق تعويضات دولي للاجئين، أي أن 'حقوق اليهود' هي 'فوق تاريخية'، بينما حقوق الفلسطينيين وضعية خاضعة للتغيير.

ثانيًا؛ فيما يواجه نتنياهو تحقيقاتٍ بالاحتيال والفساد ويهتز عرشه السياسي، وهو ما يدفعه إلى إطلاق مزيدٍ من المواقف المتطرفة تجاه العرب عمومًا، والفلسطينيين خصوصًا، تصر بعض الدول العربية وبمثابرة على 'التواصل' مع إسرائيل، بحجة مواجهة الخطر الإيراني، وتضغط على السلطة الفلسطينية لقبول 'عمليةٍ سياسيةٍ' صورية، تبرّر إقامة العلاقات مع إسرائيل، وترفع الحرج عن هذه الدول.

وقد تباهى نتنياهو في العام الأخير، عدة مراتٍ، بأن لدولته علاقة جيدة غير مسبوقة مع دول عربية وإسلامية غير موقعة على معاهدات سلام مع إسرائيل. وهذا التباهي والشعور بأنه لا يدفع ثمن مواقفه تجاه الفلسطينيين عربيًا يدفعه إلى المضي بقوة أكبر في الهجوم الاستيطاني في الضفة وتشديد الحصار على غزة واستهداف المواطنين العرب في إسرائيل، وضرب شرعية عملهم السياسي، وتقسيمهم إلى متطرفين ومعتدلين.

وفي الوقت الذي تواجه فيه سياسات إسرائيل رفضًا متزايدًا في الدول الغربية، وتحقق حملات المقاطعة إنجازاتٍ مهمةً ولو معنويًا، تقدّم بعض الدول العربية والإسلامية لنتنياهو 'جوائز' يروجها في الرأي العام الإسرائيلي، للتغطية على فشل سياساته وأزماته الداخلية. وليس مستبعداً أنه كلما اشتد حبل التحقيقات حول عنق نتنياهو، وكلما احتدّت أزمته السياسية، أن تقدم دول عربية حبل النجاة له، من خلال صور أو لقاءات دعائية، تظهره بأنه يحقق اختراقًا إقليميا غير مسبوق. لكن الخطير هذه المرة، خلافًا للمرات السابقة، أن 'الهرولة' العربية لا تستكفي بفرض 'عملية سياسية' صورية مع إسرائيل على الفلسطينيين، بل تصل إلى درجة محاولة فرض قيادة سياسيةٍ غير وطنية، بألطف تعبير، على الشعب الفلسطيني، كما فعلت خلال حصار الشهيد ياسر عرفات في المقاطعة في ذروة الانتفاضة الثانية. الفرق أن ذلك كان بضغط أميركي حينها، لكنه اليوم يجري طواعيةً وبرغبة 'عربية' ذاتية، وأن الشخصيات التي فرضت على الشهيد عرفات كانت من داخل البيت الوطني الفلسطيني، لكن هذه المرة يجري الحديث عن شخصياتٍ أو شخصيةٍ مرتبطةٍ عضويًا وأمنيًا بإسرائيل، ومشروعها غير فلسطيني على الإطلاق، بل هي أداة لتحقيق 'الحقوق اليهودية فوق التاريخية' في فلسطين ومحيطها.

اقرأ/ي أيضًا للكاتب: في واقعنا السياسي: أين "إرادة شعب"؟

يواجه نتنياهو أزمةً سياسية، لكنه لا يتجرأ على الاعتداء على مشروع شعبه القومي أو أمنه القومي، أما في حالتنا – أزمتنا، فإنه يجري التضحية بحقوقنا القومية والوطنية، وتنصيب قيادات معادية لها. أثبت التاريخ أن الشعوب رفضت الإملاءات التي تمسّ كرامتها الوطنية، ولفظت الشخصيات التي نصبت لتنفيذ هذه الإملاءات، بشير الجميّل مثالًا.