* في وقت نشهد فيه اندحار للمشروع الوطني في مجال السيطرة على الأرض، في الوقت ذاته نشهد تعاظم غير مسبوق في نطاق وأبعاد الهوية الوطنية وتعزيز مضطرد للشخصية الفلسطينية الموحدة والمستقلة

*  مؤسسات الداخل على غرار لجنة المتابعة ولجنة الرؤساء ومؤسسات المجتمع المدني باتت قاصرة عن ملء فراغ ونطاق تلك الهوية لدينا، بمعنى أن الواقع والخطاب، وإن حاول البعض شده إلى الوراء، قد تجاوزها

* 'الحكم الذاتي الذي يشمل الأرض وما عليها'، يعاد طرحه مجددًا بعد ربع قرن، بصفته ترجمة للحقوق الجماعية، التي يفترض أنها تكمل الحقوق الفردية من جهة، وتعوض عن أي نقص أو عطب فيها من جهة أخرى


بعد أربعين عامًا ونيف على يوم الأرض نستطيع أن نقول، من دون تحفظ، أن مخططات تهويد الجليل التي كانت سببًا لانفجار الغضب الشعبي عام 1976 قد نجحت، حيث ارتفعت نسبة الاستيطان اليهودي التي كانت في هذه المنطقة دون 50% في حينه، إلى ما يقارب 70% اليوم، وقلبت الميزان الديمغرافي الذي كان يميل لصالح العرب الفلسطينيين وأراحت بن غوريون وغولدا مئير في قبريهما.

لا نقول ذلك لتقزيم منجزات يوم الأرض، بصفته انتفاضة عارمة ومحطة مهمة في كفاح شعبنا الفلسطيني في الداخل والخارج، في مستوى تعزيز الهوية والكينونة الفلسطينية التي شكلت، وما زالت، الوعاء الحاضن للحقوق والمطالب الوطنية لشعبنا، وعلى رأسها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة على أرضه.

تلك الهوية التي سعت الصهيونية الى تصفيتها وتبديدها، جنبًا إلى جنب مع الاستيلاء على الأرض، استنادًا وتعزيزًا لمقولتها 'أرضٌ بلا شعب'. لقد كان يوم الأرض في العام 1996 الرد الأبرز على تلك المخططات، لأنه حرك الجذر الباقي في أرض الوطن والذي أهالت عليه سنوات النكبة والحكم العسكري الكثير من التراب. يوم الأرض كان إعلانا فلسطينيا شاملا بالتمرد على النكبة، بعد لحاق الجزء بالكل الذي انطلق عام 1965 ، وهو تتويج لإعادة بناء الهوية والشخصية الفلسطينية المستقلة وكينونتها الوطنية، التي سيغدو معها وبها إحقاق الحقوق الوطنية المتمثلة بالعودة وتقرير المصير تحصيل حاصل مهما طال الزمن.

بالنتيجة يمكن القول، إذا كان يوم الأرض هو محطة في الصراع على الأرض والهوية، فإن الغلبة في الشق المتعلق بالأرض ما زالت للصهيونية، ليس في الجليل فقط، بل في النقب والضفة الغربية وغزة، حيث تسيطر إسرائيل بقوة الذراع على هذه المناطق وتسعى إلى تكثيف الاستيطان لتثبيت ركائز سيطرتها عليها، وفرض أمر واقع كولونيالي كما هو الحال في الجليل والساحل.

لكن في وقت نشهد فيه اندحار للمشروع الوطني الفلسطيني في مجال السيطرة على الأرض، حيث تشير معطيات المنظمات الدولية إلى أن إسرائيل باتت تسيطر على 85% من الأرض الفلسطينية، في الوقت ذاته نشهد تعاظم غير مسبوق في نطاق وأبعاد الهوية الوطنية وتعزيز مضطرد للشخصية الفلسطينية الموحدة والمستقلة، لدى مختلف تجمعات شعبنا، وهو تعاظم يتجاوز التجزئة والجغرافيا السياسية ويستند، كما يبدو، على تحولات كمية ونوعية باتت تشكل الهيكل العظمي الذي 'يصلب' طول هذا الشعب.

ومن دون شك، فإن تعزز نطاق وأبعاد الهوية الوطنية لا بد أن يترجم بالحاجة والرغبة بتجسيد الحقوق الجماعية المرتبطة بها في المديين القريب والبعيد. وإذا كان وعاء السلطة الفلسطينية المنقسم على نفسه بين غزة والضفة يلبي هذه الحاجة الآنية هناك مؤقتا ويتجاوزها، فإن مؤسسات الداخل على غرار لجنة المتابعة ولجنة الرؤساء ومؤسسات المجتمع المدني باتت قاصرة عن ملء فراغ ونطاق تلك الهوية لدينا، بمعنى أن الواقع والخطاب، وإن حاول البعض شده إلى الوراء، قد تجاوزها.

وفي السياق ذاته، يجدر الالتفات إلى ما أورده د. سعيد زيداني في المبررات التي ساقها لتسويغ إعادة طرح فكرة الحكم الذاتي، إذ أشار في مقال نشر مؤخرا إلى إن رفع نبرة الخطاب القومي/الثقافي من قبل قادة الأقلية القومية/الثقافية ونخبها الفاعلة، من دون اقتران ذلك بفكرة الحكم الذاتي الملتزمة بدورها بقيم ومبادئ الديمقراطية الليبرالية، لا يجلب نفعًا كثيرًا (أقل ما يقال)، وقد يكون من مضاره مواراة القضية الأساس، القضية العصب – المساواة التامة في حقوق المواطنة الديمقراطية، الفردية والجماعية على السواء.

وكأن د. زيداني يضع يده على الوجع، ولكنه يتحاشى بصفته الأكاديمي المؤدب أن يسمي الولد باسمه، ويميط اللثام عن الخطاب الشعاراتي المزاود الذي يشبع الناس مرجلة قومية فارغة، في حين يتوجس من تسمية المطالب بمسمياتها ضمن برنامج وأجندة وطنية ديمقراطية واضحة، وهو خطاب يخطئ هدف المساواة التامة في حقوق المواطنة الديمقراطية، الفردية والجماعية، دون أن ينجح بإصابة أهداف أخرى أكثر بُعدًا.

'الحكم الذاتي الذي يشمل الأرض وما عليها'، يعاد طرحه مجددًا بعد ربع قرن، بصفته ترجمة للحقوق الجماعية، التي يفترض أنها تكمل الحقوق الفردية من جهة، وتعوض عن أي نقص أو عطب فيها من جهة أخرى، في حين أن الطابع اليهودي للدولة الذي ينتقص من ديمقراطيتها وليبراليتها بالنسبة للفلسطينين داخل إسرائيل والذي يجري تسميكه مؤخرًا، كما يعتقد د. زيداني، هو الذي يجعل مطلب الحكم الذاتي واردًا ومقنعًا ومنصفًا على حد سواء.

كما أن هذا الطرح لا ينطوي على أي مساومة أو تنازل عن أو انتقاص من حقوق المواطنة الديمقراطية، بل أن بالحكم الذاتي هو سياج حماية تحت سقف المواطنة والحكم المركزي، حماية من قرارات وسياسات وممارسات قد تجنح نحو طغيان الأغلبية القومية/الإثنية الحاكمة، وهو في أحسن الأحوال يقربنا، إذا ما كان جديا، من الدولة الديمقراطية ثنائية القومية.

وزيادة في الطمأنة، يبشر د. زيداني المتخوفين على حل الدولتين بأن الحكم الذاتي المطلوب والمنشود لا يتناقض أو يتنافى بتاتًا مع أي تصور لحلّ منصف للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، سواء تمخض مثل هذا الحل عن دولتين مستقلتين متجاورتين بسلام، أو عن دولة ديمقراطية واحدة، ثنائية القومية أو مفدرلة أو غير ذلك.

وعودة إلى يوم الأرض، فإن اربعين عامًا مضت حولتنا إلى 'أقلية' عددية في الجليل العربي، ولكنها ساوت بين العرب واليهود في فلسطين التاريخية، ووضعت إسرائيل أمام خيارات صعبة أحلاها مر، تتوزع بين انهيار حلم 'أرض اسرائيل' الكاملة او فقدان دولة اليهود.

اقرأ/ي أيضًا | فكرة الحكم الذاتي مرة أخرى: ضبط المفاهيم

اقرأ/ي أيضًا | الهندسة الديمغرافية وأشكال الفصل العنصري

اقرأ/ي أيضًا | يوم الأرض | ملف خاص