رحلة شخصيّة في الانتفاضة الأولى وتعريج على تجربة جنوب أفريقيا... اَن الأوان لخيار الشعب والعودة إلى مشروع التحرر

من أكثر الأحداث الفلسطينية الكبرى، التي لا تزال تُشغل مُخيلتي، وتُثير انبهاري الكبير، فضلًا عن الحزن والحسرة، هي الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى. هذه الانتفاضة، أثارت، آنذاك، انبهارَ الشعوب والحكومات كلها، وأحدثت هزةً في الذهنيّة الغربيّة تجاه إسرائيل التي عرّتها انتفاضة الحجارة الجبّارة. ولكنها، للأسف، باتت جزءًا من التاريخ لا غير، حتى في أذهان الكثير من النخب التي استرخت، منذ زمن طويل في مستنقع الانهزاميّة. واعتقد أننا بحاجه إلى العودة إليها، وإلى دروسها التي باتت الحاجه إليها أكثر إلحاحًا. وتُغريني، منذ سنوات، المحاولة لإجراء مقارنةٍ مع انتفاضة جنوب أفريقيا، وخاصّة، في ثمانينيات القرن الماضي، والتي أدّت إلى سقوط نظام الأبارتهايد، في حين أن انتفاضتنا الفلسطينيّة، أدت إلى تكريس الأبارتهايد ونظام البانتوستانات في فلسطين. فهل يعود سبب الإخفاق إلى الجماهير وأُطرها القاعديّة أم إلى بُنية القيادة الفلسطينيّة التي كانت مأزومة في المنفى، المتحمّسة إلى أي إنجاز يحفظ مكانتها، أم إلى القوى الدوليّة المعادية.

ويحزنني أن يتعامل معها البعض باعتبارها حلقة طبيعيّة من حلقات المقاومة الشعبيّة الفلسطينية المتتالية، دون التوقف عند ما يُميزها عن غيرها من الانتفاضات البطوليّة، خاصة في ظروفنا الحالية، وإعادة اكتشاف دروسها وإعادة تحليل خصائصها وتوظيفها في ما نحتاجه من عدّة نضالية، يكون الطابع الشعبي الشامل سمتها الرئيسية. وفقط في الآونة الأخيرة، بدأ نموذج هذه الانتفاضة يحضر في أوساط فلسطينية مناضلة، وقيادية، وهذا أمر مشجع ويعدُ بأفق جديد من العمل الوحدوي الكفاحي.

كانت لي فرصة أن أكون في قلب هذا الحدث، وأتفاعل مع أحداثه، وأشهد مقدماته واتجاهاته، وماّلاته. كما تسنّت لي الفرصة لزيارة جنوب أفريقيا عدّة مرات خلال العشر سنوات الأخيرة لأسمع وألتقي قادة وأكاديمّيين ونقابيين، كان لهم باع طويل في صنع انتصار جنوب أفريقيا. كما اطّلعت على كتابات نقدية ليست قليلةً لهذه التجربة الفريدة، وشدّني أوجه الشبه والاختلاف، خاصّة في ما يتعلق بالبعد الشعبي.

ربما لم يكن لأحظى بهذه الفرصة، فرصة العيش في قلب هذا الحدث الوطني والإنساني الكبير، أي الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي تحلّ هذه الأيام الذكرى الـ30 لانطلاقها، وأن أتابع وأتفاعل معه ومع صانعيه، وأواكب تفاصيله وأكتب عنه، كمحرر وكمراسل، في جريدة فلسطينيّة باللغة الإنجليزية (English Al-Fajr) التي صدرت عام 1980 في القدس، لولا أن قامت المخابرات الإسرائيلية بفصلي من مهنه التدريس مرتين، من الجليل، قبل أن أكمل بضعه أشهر.

إذًا، فلسطيني في الثالثة والعشرين من العمر، يعيش تحت المواطنة الإسرائيلية يُصبح بالصدفة صحافيًا بسبب ملاحقة السلطات الإسرائيليّة إلى جانب كونه ناشطًا سياسيًا في حركة وطنية، هي حركة "أبناء البلد"، يحظى بفرصة التعرف عن كثب على حياة جزء آخرَ من شعبه يعيش تحت الاحتلال العسكري دون حقوق مواطنة، وفي ظل مستويات أشد من القمع والنهب والحصار والاعتقال. وهكذا تترسخ صورة فلسطين الواحدة غير المجزأة، التي كانت موجودة أصلًا في ذهني إلى ممارسة فعاليّة يومية، حيث أصبحت أدخل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الضفّة الغربية وفي قطاع غزة، والتقي مع الناس، من كافّة الطبقات والشرائح الاجتماعية، وأتعرف على قادة وناشطي الفصائل الفلسطينية. ويُسمح لي بالحصول على الأدبيّات السريّة للفصائل ولأرى كيف تُنظم النشاطات اليومية والتحولات التدريجية إلى ثورَة هادرة لم يتوقع أحد توقيتها وشموليتها. هذا إلى جانب نشاطي السياسي والصحافي داخل الخط الأخضر. لاحقتني سلطات الاحتلال، اعتقالًا واعتداءً، وحظرا على دخولي الأرض المحتلّة عام 67 لفترةٍ من الزمن، في محاولةٍ لإسكاتي دون جدوى.

رأيت الناس يدفعون أثمانًا أكبر بكثير، من اعتقالات وتعذيب وغيرها. ومع ذلك يواصل المناضلون نشاطهم، حتى الأسرى الذين كانوا ينهون فترتهم يستأنفون نشاطهم بإرادة حديديّة، دون اكتراث بالحضور الإعلامي ودون انتظار لمردودٍ أيًا كان، لمال أو وجاهة أو زعامة.

أين يكمن سحر هذه الانتفاضة؟

يكمن سحر الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انفجرت في التاسع من كانون الأول عام 1987، في اتّساعها، شموليتها، مستوى تنظيمها، وفي كونها حركة مقاومة شعبية غير مسلّحة (عنف محدود) ومستوى انضباط عالٍ، والأهم ديمومتها. أي قدرتها على الاستمرار والصعود (لحوالي 4 أعوام) وحمايتها بقيادة وطنية موحّدة مشكّلة من كافة الفصائل والحركات الفلسطينية تستند إلى شبكةٍ واسعةٍ من اللجان الشعبية الميدانية، ورؤية سياسية موحدة: دحر الاحتلال والاستيطان وإقامة دولة فلسطينيّة مستقلة.

لقد كان مذهلًا كيفية انتظام وانخراط كل المجتمع الفلسطيني، بمن فيه، ولو جزئيًا، فلسطينيو الـ48، في المقاومَةِ الشعبيّة وذلك عبر إقدام القيادة الوطنيّة الموحّدة على إقامَة اللجان الشعبية المتعدّدة الاختصاصات، ومن هذه اللجان: القوى الضاربة، لجان التجار، لجان التعليم، لجان المرأة، لجان التموين (لتوزيع المواد الغذائية على المدن والقوى والمخيمات المحاصرة) لجان الأكاديميين والمثقفين، لجان الزراعة ولجان الرعاية الصحية. وكان لافتًا الانخراط الواسع للمرأة الفلسطينية. لقد كانت حقيقةً، أيضًا، انتفاضةً على البعد الاجتماعيّة التقليدية إلى حد كبير، ومرحلة ظهور قيمٍ جديدة.

ومثّلت هذه اللجان الشعبية والوطنية أداة النضال التنظيمية الرئيسية التي اعتُمِدَت كقنوات اتصال لتمرير قرارات قيادة الانتفاضة الموحّدة إلى الناس، ولعبت، كذلك، دورًا قياديًا على المستوى المحلي، أي في حدود صلاحياتها. ومع تطور الانتفاضة، وتصاعد زخمها، ترسّخت جذور هذه اللجان وجعلت إمكانية القضاء عليها من قبل الاحتلال شبه مستحيلة. لقد كان الإنجاز الحقيقيّ للانتفاضة الفلسطينية هو قوّة التنظيم الداخلي للفلسطينييّن وفي قدرتهم على الصمود بقواهم الذاتية في مواجهة مشاقّ الانتفاضة. وكلما اعتقل أعضاء في اللجان الشعبية حل محلهم ناشطون أخرون.

تكامل الداخل مع الخارج

لقد تمكنت قيادة الانتفاضة الموحّدة، التي شكلت بعد أسابيع قليلةٍ من انطلاق الشعب إلى الشوارع، من التواصل والتكامل مع القيادة الفلسطينيّة في الخارج.

وبعد أن تمكّنت قيادة الانتفاضة الموحّدة من توحيد كل القوى الفاعلة، وتحويل النضال العفوي غير المنظم وغير المبرمج الذي ساد في الأسابيع الأولى، اندفعت نحو خوض صراع واسع ومفتوح ضد الاحتلال الإسرائيلي بكل ما يُمثله على الأرض، من أجل تفكيك كل أنظمة السّيطرة الإسرائيلية.

ولاحظ المتابعون لهذه الانتفاضة أنها تفادت السقوط في وهم النجاح السريع والحلول السهلة، إذ تميزت تكتيكاتها بالمرونة الكامنة... وتجنّبت إغراءات الكفاح المسلح التي انطلقت دعوات كثيرة بشأنه في وقت مُبكر تحث على ممارسته على نطاق واسع، وأحلت محلها تكتيك العنف المحدود، مثل الحجارة والزجاجات الحارقة. كان الهدف منها الحفاظ على استمرارية وزخم الانتفاضة، وعدم تحميل الشعب فوق طاقته. وهذا كان أحد الأسباب الرئيسية لاستمرارها لفترة طويلةٍ.

وتمثلت إستراتيجيّتُها بفك الارتباط التدريجي مع الاحتلال، مع مؤسساته الإدارية مثل استقالة موظفي الإدارة المدنيّة ورجال الشرطة. والانتقال إلى العصيان المدني الجزئي، مثل عدم دفع الضرائب ورمي بطاقات الهوية وغيرها.

وكان، أيضًا، من أسباب نجاح المرحلة الأولى للانتفاضة تطهير الساحة الوطنية من العناصر المحلية المتعاونة مع الاحتلال وإسقاط كل اللجان القروية والبلدية المعّينة.

أنقذت الانتفاضة الفلسطينية الأولى منظمة التحرير الفلسطينية من مأزقها الشديد الذي فاقمه خروجها من بيروت بعد العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان عام 1982، الذي استمر لمدة ثلاثة أشهر قاوم خلالها المقاتلون الفلسطينيون العدوان الصهيوني ببسالة منقطعةِ النظير. لقد انتهت منظمةِ التحرير وقواتها المسلحة مشتتّة في دول عربية بعيدة عن حدود فلسطين، في تونس واليمن.

وبتجريدها من قاعدتها العسكرية الأساسية والأخيرة في بيروت، ومن مؤسساتها المدنية والمالية وغيرها، ضعفت مكانة منظمه التحرير، وانحسر تأثيرها الجماهيري وكذلك في الساحة العالمية. كان الكثيرون يأخذون عليها تقديس العمل العسكري وجعله الشكل الرئيسَ للمقاومة، إضافةَ إلى تحولها إلى جهاز بيرقراطي يخترقه الفساد. ولكن داخل الضفّة الغربيّة والقطاع، كانت النشاطات الجماهيرية والثقافية، بعضها بمبادرةِ الفصائل الممثلة في منظمه التحرير وبعضها الآخر بمبادرة أطر مدنية، نقابية وطلابية وغيرها، تتزايد وتتسع.

الانتفاضة نتاج عمل تنظيمي مُكثف

شكلت الانتفاضة الأولى استمرارًا وتطويرًا وتتويجًا لمسارٍ جماهيري ومؤسساتي بدأ منذ أوائل السبعينات، وعملٍ تنظيمي مكثف عديد على يد فصائل العمل الوطني ساهم في تأطير الآلاف من الشباب الفلسطيني الراغب المستعد للنضال ضد الاحتلال. كان أبرز هذه الأطر: الجبهة الوطنيّة عام 1973، ولجنة التوجيه الوطني عام 1979. إضافةً إلى النقابات العمالية، والحركات الطلابية الوطنية في الجامعات.

ولذلك، حين تجمعت كل مقدّمات الانتفاضة، لتتحول إلى حراك شعبي هادر في مختلف مناطق قطاع غزة والضفّة الغربية ومدينه القدس، كانت التجربة التنظيمية للفصائل والأطر المدنية الأخرى قد بلغت مستوى عاليًا من النضوج والمسؤولية، تتوج في توحيد هذه الأطر في جسم وطني موحد سري، هي القيادة الوطنيّة الموحّدة، التي تمكنت منذ الأشهر الأولى من فرض سلطتها الأخلاقية بين الناس الذين تجاوبوا مع نداءاتها وتوجيهاتها المنتظمة. وقد أيدت قيادة الخارج، منظمة التحرير الفلسطيني، الحراكَ الجماهيريَ فورًا ودعت إلى تطويره. وتم بناء علاقة تكامليّة بين قيادة الخارج وقياده الداخل. لقد حظيت القيادة الوطنيّة الموحدة بكل هذا الاحترام لأنها كانت في مقدّمة الصفوف، وتتعرض لما يتعرض له الناس جميعًا، من اعتقال، ونفي، وجرح، واستشهاد.

وبهذا استعادت قيادةُ الخارج، الممثلة بمنظمه التحرير الفلسطينية مكانتها التمثيلية أمام الخارج، وبالتالي، تم إحباط محاولات إسرائيل وأميركا وبعض الأنظمة العربية، في تهميشها والحد من دورها وصفتها التمثيلية. لم تخلُ هذه العلاقة من نقاشات وإشكالات، خاصّة في مرحلة لاحقة من الانتفاضة، تمثّلت في اختلاف الأولويات السياسية بين الخارج والداخل، لأسباب تتعلق بالموقع الجغرافي وبالعلاقات مع الأنظمة العربية، إذ كانت القيادة الوطنية الموحدة متحرّرة من حسابات منظمه التحرير لضغوط العلاقة مع الأنظمة.

وبعد إنهاء العام الأول من الانتفاضة، بدأت تظهر صعوبات وتحديات جديدة أمام قيادة الانتفاضة، سواء تلك المتعلقة بكيفية الرد على تزايد وحشية الاحتلال ضد المنتفضين أو المتعلّقة في العلاقة مع قيادة الخارج، بدأت تستعجل استثمار الانتفاضة من خلال التعامل مع مشاريع سياسية لا تتفق مع الحد الأدنى من مطالب الشعب الفلسطيني. خاصّة أن إسرائيل لم تُبد أي أشاره بخصوص تراجعها عن مشروعها الاحتلالي الاستيطاني، رغم وقوف الرأي العام العالمي إلى جانب الفلسطينيين، مما بدأ ينعكس على العلاقات الداخلية حول كيفية الانتقال إلى مرحلة متقدّمة.

وهناك، أيضًا، خلل آخرُ ساهم في تأكل التماسك الداخلي، ألا وهو السلوك المالي لقيادات الخارج تجاه الانتفاضة الفلسطينية والقيادة الموحّدة وهو سلوكٌ أساء للانتفاضة، وأدى إلى ترهّل وإلى نوعٍ من الفساد. وبدأنا نسمعُ، في مرحلةٍ متأخّرة، تذمرًا داخل بعض فصائل القيادة الموحّدة من هذا السّلوك المالي الذي نُسبت المسؤولية عنه بالأساس إلى قيادةِ أكبر فصيل في منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) العربية، كما يأخذ عليها الكثيرون تركيزها في صفتها التمثيلية وذاتها أكثر من تركّزها في مواجهة الاستيطان وما تعانيه جماهيرُ الأرض المحتلة يوميًا.

نموذج الجبهة الديمقراطية الموحّدة \ جنوب أفريقيا

تشبه، إلى حدٍ بعيد، تجربةُ الانتفاضة الفلسطينية الأولى تجربةَ "الجبهةِ الديمقراطية الموحدة" التي انطلقت عام 1983 في جنوب أفريقيا، لتخوض نضالًا جماهيريًا تصاعد واتسع وتشعب، ما جعل استمرار نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا مستحيلًا. جاء انطلاق هذه الجبهة، التي انضوى فيها أكثر من 400 منظمة وإطار ومجموعة، ردًا على تزايد القمع، وعلى مخططات نظام الأبارتهايد لتعميق الفصل بين المجموعات الإثنية واللغوية المختلفة، وتأثرًا بالحراكات الطلابية والنقابية التي كانت تتصاعد. لقد لعبت "الجبهة الديمقراطية الموحدة" دورًا محوريًا في إسقاط نظام الأبارتهايد لأنّها كرست خيار الشعب.

كان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC)، القوّة السياسية المعارضة الرئيسية لنظام الأبارتهايد، محظورًا منذ أوائل الستّينات، ومعظم قياداته التاريخية إما في السجون أو في المنافي. ولأكثر من عشرة أعوام، ساد الساحةَ انحسارٌ شديدٌ في الحراك الجماهيري وتغولٌ لنظام الأبارتهايد. ولكن منذ أوائل السبعينات بدأت هذه الساحة تشهد بدايات لحراكات جزئية، أبرزها إضرابات عام 1973 وانتفاضه الطلاب في سوتيو عام 1976، وظهور نقابه كوساتا على إثر دمج 34 نقابة عام 1979، وظهور "حركه الوعي الأسود" الطلابيّة بقيادة ستيف بيكو.

ومع اتساع هذه الحراكات وولادة هذه الأطر الجماهيريّة، ظهرت الحاجة لتأطيرها في جسم سياسي موحد في غياب قيادات المؤتمر الوطني الأفريقي وحظر نشاطاته في الداخل.

لم تظهر هذه الأطر كامتداد تنظيمي للمؤتمر الوطني الأفريقي، ولكن كمنظمات وأطرِ جماهيرية مستقله، رأت، في ما بعد، ضرورة التنسيق مع قياده المؤتمر في المنفى. فكان اللقاء الأول في العاصمة السويدية عام 1986 حيث تم ترتيب العلاقة التكاملية معه. ويُسجل بعض مؤرخي هذه الحقبة أن قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي قد تأخرت في ملاحظة توسع التعليم الثانوي والتطورات الاجتماعية والتعليمية عامةً في أوساط السود منذ نهاية الستينات وخلال السبعينات والتي أفرزت وعيًا سياسيًا جديدًا، بدأت تحمله أعدادٌ كبيرةٌ من الشباب المستعد للنضال، فضلًا عن الطبقة العاملة المتنامية عددًا وتنظيميًا.

كان المؤتمر الوطني حتى أواخر السبعينات يعتمد الكفاح المسلح شكلًا رئيسيًا للنضال، مع أن هذا الشكل من النضال كان تأثيره العسكري محدودًا إذ كان يهدف، في الأساس، إلى رفع المعنويات ولاستقطاب الناس حول قضية التمييز العنصري.

ونستشهد، في هذا السياق، بقول أحد أبرز قيادات المؤتمر الوطني الأفريقي، أوليفر تامبو، (رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي بين عام 1967 – 1991)، الذي كتب عام 1979:

"إنها معادلة مستحيلة أن نجعل العمل العسكري أساسَ العمل السياسي. ما نفعله الآن هو أننا نبني التجربة النضالية من الخارج ويُقدم من أناس في الخارج. إن هذا النهج يستثني الشعب، الجماهير التي تعيش في الداخل، باعتبارها العنصر المقرر والحاسم في أيّ معركةٍ أو انتصار".

ويضيف: "ومن هنا علينا أن نُبطئ سير العمليات العسكرية ونعمل من أجل تغيير الأولويّات أو الترتيب بين العمل السياسي والعمل العسكري. وبعدها، بات النضال السياسي والجماهيري شكلًا رئيسيًا ولم يعد مُلحقًا للعسكري".

لم يتعامل المؤتمر الوطني الأفريقي مع الداخل بأبوية، ولم يعانِ من حساسية مفرطه تجاه الداخل، واعتمد توجهًا يسمح للداخل بروح المبادرة والعمل، شرط أن يعمل الجميع تحت سقف هدف واحد وهذا السقف كان "ميثاق الحرية"، الذي نادى بدوله مدنية ديمقراطية تقوم على المساواة الكاملة بين الناس، (دولة المواطنين).

لم تكن مسيرة "الجبهة الديمقراطية الموحدة" التي تحالفت أواخر الثمانينات مع كوساتا، كذلك، المؤتمر الوطني الأفريقي، خالية من الصراعات والتحديات والتي وصلت، أحيانًا، حدَّ الاقتتال الداخلي. لكن قيادة الـANC تمكنت من إدارة هذه الصراعات بنجاح، وأوجدت علاقة سليمة مع الحزب الشيوعي الذي لعب دورا فكريًا ثوريا هامًا في تطوير أيدلوجية المؤتمر الوطني الأفريقي، وأيضًا، في رفع مستوى التوجه الكفاحي وفي نهاية المطاف، أدى كل ذلك إلى إجبار نظام الأبارتهايد على الدخول إلى مفاوضات تقوم على أساس ميثاق الحرية.

لقد كان من عوامل النجاح، ووراء عدم دخول الـANC مساومات خطيرة، هو ارتباط قيادة المؤتمر بالحركة الشعبية التي شكلت سندًا بل ضغطًا على القيادة بعدم التفريط. ما معناه لم تفاوض قياده الـANC من وراء ظهر الشعب، وأطره المنظّمة، بل كانت متناغمة معه. ويُمكن تسمية هذه العملية بالديمقراطية الشعبية التي حكمت علاقه الـANC مع الشعب بعد المراجعات الهامّة التي قام بها منذ أواخر السبعينات. ففي خلال المفاوضات لم تتوقف الحراكات الجماهيرية ولا حتى العمليات العسكرية، وذلك لمواصلة مُمارسة الضغط على نظام الأبارتهايد وإجباره على التجاوب مع المطالب الشرعية لحركة التحرر الوطني في جنوب أفريقيا..

القيادة الفلسطينية تعقد صفقه من وراء الشعب

قد يجد البعض أنه من التعسف مقارنة نجاح قيادة حركة التحرر الوطني في جنوب أفريقيا في تحرير السود من نظام الفصل العنصري الكولونيالي، وتحقيق التحول السياسي، مع فشل قيادة منظّمة التحرير الفلسطينية في تحقيق التحرر من نظام الفصل العنصري الاستعماري في فلسطين. ولكن هناك فائدة كبرى في عقد المقارنة واستخلاص العبر.

نعي تمامًا الاختلافات السياسية والإثنية وطبيعة العلاقات الدولية بين واقع جنوب أفريقيا وواقع الصراع في فلسطين، مثلما نعي تمامًا أوجه الشبه كون التجربتين تندرجان في إطار الاستعمار الكولونيالي والفصل العنصري. ومعرفة الاختلافات، كما معرفة أوجه الشبه، ضرورية جدًا وذلك لأن كل تجربة تحررية لها مميزاتها، وبالتالي تحتاج إلى إبداع وابتكار، إلى جانب التعلم من التجارب التحررية الأخرى.

هناك، مثلًا، عواملُ اقتصادية اجتماعيّة ودولية لم تكن موجودة موضوعيًا في التجربة الفلسطينية، كانت هامة في انتصار السود في جنوب أفريقيا، ومن أهمّها البعد الاقتصادي: أي اعتماد نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا على العمال السود، والذي ازداد بعد التطور الرأسمالي الكبير منذ أواخر القرن التاسع عشر. فقد نمت طبقة عاملة سوداء كبيرة جدًا، تحولت بعد تنظيمها إلى قوة ضغط أساسية على نظام الأبارتهايد من خلال إعلان الإضرابات الوطنية وشل الاقتصاد. في حين أن إسرائيل كانت سياستها منذ البداية تقوم على الإقصاء والطرد، الإقصاء السياسي والاقتصادي، وأيضًا، الجسدي. وأثناء الانتفاضة الأولى تمكّنت إسرائيل من استبدال العمال الفلسطينيّين بعمال أجانب. كما أن التطورات الدولية السلبيّة التي كانت تحصل على مستوى توازن القوى بين المعسكرين الدوليين أثناء الحرب الباردة: الاشتراكية بقياده الاتحاد السوفيتي والرأسمالية بقياده أميركا، كانت تسير عكس مصالح الحركة الوطنية الفلسطينية. إن انهيار الاتحاد السوفيتيّ الذي كان يدعم الشعب الفلسطيني والعديد من حركات التحرر العالميّة لم يدفع الإدارة الأميركيّة إلى تغيير موقفها من إسرائيل، إذ واصلت دعمها لها، ولم يُغير عداءَها للقضية الفلسطينية: لأنها رأت نفسها منتصرةً في الحرب الباردة.

كما أن القيادة السوفيتية الجديدة، بقياده غورباتشوف، انضمت إلى الجهود الأميركيّة في إطار إيجاد تسوية ظالمة لقضية فلسطين خلال مؤتمر مدريد الذي جاء بعد الغزو الأميركيّ للعراق عام 1991 والذي بدوره كان وبالًا على القضية الفلسطينية.

أما بخصوص جنوب أفريقيا، فلم يكن النظام هناك بذات الأهميّة الإستراتيجية كما هي إسرائيل بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة، وكان زوال الاتحاد السوفيتي من العوامل التي ساهمت في تراجع الإدارة الأميركيّة عن دعمها لنظام جنوب أفريقيا وتأييدها للتسوية التي تم التوصل إليها مع القائد التاريخي نلسون مانديلا. فهي لم تعد بحاجة إلى هذا النظام في مواجهة الشيوعية. طبعًا ليس هذا العامل الأساسي في سقوط هذا النظام العنصري الكولونيالي، بل العامل الذاتي الذي تمثل في قيادة وطنية مؤهّلة، وحركة جماهيرية فاعلة، وتكامل في العلاقة بين جناحي القيادة. يُضاف إلى ذلك، وهو في غاية الأهمّية، وضوح الهدف النهائي ألا وهو إقامه دولة المواطنين على أساس مبدأ "شخص واحد صوت واحد". كل ذلك هو الذي دفع الحكومات الغربية، والإدارة الأميركيّة في وقف دعمها لنظام الأبارتهايد. صحيح أن النظام الديمقراطي الجديد في جنوب أفريقيا، وافق على إبقاء إقتصاده جزءًا من الاقتصاد الرأسمالي العالمي، نزولًا عند رغبه الغرب وهو ما يأخذه على قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي قوى راديكالية محلية، لكن هذا الاتفاق، رغم نواقصه، وضع السود، لأول مرّة، في دفّة قيادة الدّولة وفتح الباب لنضال اجتماعي بات ضروريًا جدًا.

إنه الخطاب الديمقراطي الأخلاقي – المساواة – الذي سهّل على كتائب الدبلوماسيين الذين جابوا العالم لتمرير الرسالة الإنسانيّة العادلة، في إطار حملة المقاطعة الدوليّة، وسهّل قيام حركات مدنية وشعبية فعّالة مارست الضغط الأخلاقي على حكوماتها.

إن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي غيرّت برنامجها السياسي وخطابها عده مرات، وصولًا إلى حل الدولتين وانتهاءً بأوسلو، التفّت على وفد فلسطين داخل الأرضي المحتلة عام 67، الذي كان يقودُه د. حيدر عبد الشامي وفيصل الحسيني في مفاوضات مدريد، الذي تمسّك بمطالب الحد الأدنى. وهو الوفد الذي أصرّ على رفض قبول بقاء الاستيطان بأي شكل. وقامت القيادة الفلسطينية بفتح قناة خلفيّة هي قناة أوسلو لتأتي لنا بصفقة تصفوية لا زال شعبنا الفلسطيني يدفع ثمنها الباهظ حتى اللحظة.

هكذا تُصبح الفروق بين بُنية القيادتين واضحة: قيادة تعرف كيف تُجمّع وتتفاهم مع جميع مركبات الشعب، وذات وضوح في الرؤية والهدف ومثابرة في التمسك به، تحترم قاعدتها الجماهيرية وإرادة شعبها، وقيادة تفتقر للوضوح والهدف وتدير ظهرها لشعبها الذي قدم لها خشية الخلاص من مأزقها خلال الثلاثينيات، ولكنها ألقت بها على قارعة الطريق وهي تمضي في نفق يلقي بظلامه القاتمة على الحركة الوطنية الفلسطينية حتى اليوم.

خلاصة

ما ذكرناه سابقًا هو مرور سريع على تجربتين تحملان الكثير من أوجه الشبه، ليس في كونهما تجربتين تحرريتين من نظام كولونيالي استيطاني وفصل عنصري فقط، بل من حيث تشابه بعض مراحل تطور شكل النضال ومستوى التنظيم، وكذلك من حيث العلاقة بين الخارج والداخل.

وما أردنا التركيز عليه هو البعد الشعبي والديمقراطي في العلاقة الكفاحية والتنظيمية بين قيادتي الخارج والداخل الذي شكل عاملًا أساسيًا في انتصار السود، بقيادة المؤتمر الوطني الديمقراطي، في حين كان قطع هذه العلاقة التنسيقية في منتصف الطريق على يد القيادة الفلسطينية في الخارج، سببًا في إجهاض الانتفاضة وتكريس نظام البانتوستونات في الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزة، ناهيك عن تكريسه وشرعنته داخل الخط الأخضر.

إذًا، تشابهت التجربتان في المرحلة الأولى واختلفتا في المرحلة الثانية. في المرحلة الأولى تمكنت القيادة الوطنية الموحّدة من إنقاذ منظمة التحرير الفلسطينية وأعادت مكانتها الدولية، بعد أزمة عزلة عربية ودولية، وتمكنت الجبهة الديمقراطية الموحدة في جنوب أفريقيا من إنقاذ المؤتمر الوطني الأفريقي من أزمته، ومنحته النضالات الجماهيرية العارمة التي قادتها الجبهة بقوة وزخمٍ على الساحة الدولية في حملتها لتنزع الشرعية كليًا عن نظام الأبارتهايد وحصاره.

أمّا في المرحلة الثانية، فقد ذهب المؤتمر الوطني الأفريقي إلى المفاوضات مصغيًا إلى صوت الناس، من خلال منظماتهم الجماهيرية الواسعة في تجلياتها المختلفة: وفي الأساس "الجبهة الديمقراطية الموحّدة" و"الحركة الشعبيّة الديمقراطية"؛ إضافة إلى المنظمات الشبابيّة، مع الاتفاق على استمرار الحراك الجماهيري وحتى العمليات العسكرية التي كانت تتفادى المدنيين إلى حد كبير، خلال المفاوضات.

أمّا منظمة التحرير الفلسطينية فقد تسللت خلسةً إلى قناة تفاوضية سرية مباشرة مع العدو الإسرائيلي تاركة وفد الداخل في مدريد يصارع وحده دون جدوى حول ثوابت الحل: وكان أولها وأهمها، وقف وإزالة الاستيطان الذي أراد له أن يقتل أيّ حل، ويدفن الأمل الفلسطيني.

من أوجه الشبه، أيضًا، في المرحلة الأولى، هو تطور الوعي داخل القيادات في التجربتين بأولوية النضال السياسي الجماهيري على النضال العسكري، خاصّة بعد أن وصل هذا الشكل من النضال إلى مأزق حيث كان الشكل الرئيسي.

كان هذا تطورًا إستراتيجيًا ونوعيًا لأنه جنّد كل الشعب في المعركة، بعد أن كان النضال مقتصرًا على الفدائيين والمقاتلين، هذا ناهيك عن توسع تأثير قيم التضحية الجماعية، والتضامن الداخلي، والمشاركة الديمقراطية في النضال والتأثير مباشره في القرارات المصيرية.

إن إيلاء البعد الجماهيري السياسي أولوية وجعله عمودًا أساسيًا من أعمده النضال، مكن المناضلين والناس من تحمل مشقات النضال لفترة طويلة، وضمنت ديمومة الانتفاضات والحراكات الجماهيرية وهو شرط أساس لتحقيق الإنجازات الفعلية، سواءً الصغيرة أو الكبيرة. وكما هو معروف في أدبيات حركات التحرر والمقاومة الشعبية، فإن من شروط إستمرار الناس في انخراطهم في المقاومة هو تحقيق إنجازات صغيرة أو مرحلية.

والسؤال الذي يُسأل الآن بخصوص التجربة الفلسطينية والانتفاضة المغدورة: إذا كانت "الانتفاضة الوطنية الموحدة" التي قادت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الميدان، قد أنقذت آنذاك منظمة التحرير أو قياداتها من أزمتها وعزلتها الخانقة، فمن ينقذها الآن، بعد أن دخلت، أيضًا، مركبات القيادة الوطنية الموحدة، أي فصائل منظمة التحرير بكافّة تلاوينها، في أزمة لا تقل خطورة، إذ لم تتآكل قدرتها على استنهاض حركة جماهيرية في مواجهه نظام الاستعمار الكولونيالي فحسب، بل أضاعت هويتها الأيدولوجية والسياسية، وسكتت على إلحاق منظمّة التحرير الفلسطينية بسلطه أوسلو فباتت معتقلة ومُكبّلة بسلاسل أوسلو.

كان من المفترض أن تؤدي الانتفاضة الثانية 28 أيلول عام 2000، التي قدم فيها شعبنا تضحيات هائلة وأظهر شجاعة مُبهرة إلى انقاذ الوضع وإلحاق خسائر اقتصادية وبشرية غير مسبوقة بالاحتلال. وقد وجد فيها الشهيد ياسر عرفات فرصةً لإصلاح خطيئة/خطأ أوسلو، لكن عسكرتها السريعة، وإدارتها الكارثية، وغياب الإستراتيجية الواحدة والرؤية الموحدة، كل ذلك وّلد وضعًا كارثيًا قاد إلى فرض قياده فلسطينية من قبل الولايات المتحدة على الشعب الفلسطيني جعلت الحراك الدبلوماسي، المتردد والتعويل على نوايا الولايات المتحده الأميركيّة والتنسيق الأمني والتمسك بشعار الدولتين، إستراتجيتها الوحيدة والمقدّسة.

لقد حاولت حركة حماس أن تُقدم بديلًا إسلاميًا عن حركة التحرر الوطني الفلسطيني، منذ نشوئها وازداد هذا التوجه من خلال مقاومتها لاتفاق أوسلو، وقبل وأثناء الانتفاضة الثانية والتي قدمت فيها تضحياتٍ هائلةً على مستوى القيادات وعلى مستوى الكوادر. ولكنها، ورغم كل ذلك، واجهت إخفاقًا كبيرًا في طرح مشروع جامع للشعب الفلسطيني، ذلك أنها لم تستوعب مركزية الوطنية الفلسطينية الجامعة في التجربة الفلسطينية التحررية المعاصرة، وظنت أن حركة التحرير الوطني الفلسطيني، متمثلة آنذاك في منظمة التحرير الفلسطينية، مسألة تخص فصيلًا بعينه وليس بحركة وطنية تحررية لشعب، جُبلت بدماء عشرات آلاف الشهداء والجرحى وعذاب المعتقلين.

والآن، يقف الشعب الفلسطيني كله، بقياداته المختلفة أمام السقوط النهائي للأوهام التي علقها فريق أوسلو على الراعي الإمبريالي، الأميركيّ، بعد اعتراف رئيس إدارتها بالقدس عاصمة نظام الأبارتهايد الكولونيالي.. فهل نعود إلى الشعب.. صاحب المصلحة الأساسيّة في الحرية والتحرر.

التيار الثالث

لقد انتظر الكثيرون من أبناء شعبنا، خلال فترة العشر سنوات من الانقسام الكارثي، وعشرين عاما من المفاوضات الكارثية، بزوغ تيار ثالث جماهيري جارف يُعيد الاعتبار لدور الشعب، والاعتبار لمشروع التحرر الوطني.. ولكن كل المحاولات لم تثمر. ولكن في المقابل، تمكنت اللجنة الوطنية للمقاطعة، التي أطلقتها مجموعة من الأفراد والأطر المدنية عام 2005 من رام الله، من لعب دور التيار الثالث الحر على المستوى العالمي. كان هذا التيار ولا يزال نقطة ضوء كبيرة في ظلام المرحلة، ولكن ما تحتاجه هذه اللجنة لاكتمال مسيرة التحرر هو حراك جماهيري واسع وشامل تقوده قيادة وطنية موحّدة ذات رؤية واضحة، وإستراتيجية عمل موحّدة تُمكن الشعب من تحمل مشاق النضال، وتجعل الاحتلال يدفع ثمنًا لا تحمله.

ولا بد من الإشارة إلى الفرق بين حملة المقاطعة الفلسطينية وحملة المقاطعة الجنوب أفريقية، هو أن الأخيرة كانت تجاوبًا مع نداء المؤتمر الوطني الأفريقي، في حين الأولى جاءت كمبادرة وطنية مستقله لا تدعمها قيادة السلطة الفلسطينية بل الأنكى أن هذه السلطة تتصرف عكس ذلك، وتعيق دورها. وإن أكثر اشكال التطبيع انحطاطًا، على المستوى الوطني والاخلاقي هو التنسيق الأمني مع قوات نظام الأبارتهايد الاستعماري الإسرائيلي.

ولا بد هنا من الإشارة إلى انتفاضة القدس الجماهيرية، الصيف الماضي، التي أثبتت أن هناك إمكانيةً لتفعيل طاقات الشعب، رغم كل ما قامت به إسرائيل من تهويد وإقامة الجدران والطرق الالتفافية، التي كان يقال إنها تُصعب الالتحام بين الناس في تظاهرات شعبية عارمة. لقد تجلت في هذه الانتفاضه المصغّرة، وحدة كل أبناء شعبنا الفلسطيني، بما فيها فلسطينيو الـ48، وقدرته على تحقيق الانتصار.

وبعد أن وصل التحالف الإمبريالي الصهيوني والرجعي العربي إلى ذروة العداء والتواطؤ فقد آن الأوان لخيار الشعب، وأن الأوان للانطلاق، سياسيًا وميدانيًا، لإسقاط نظام الأبارتهايد الكولونيالي في فلسطين. فقط على هذا الأساس تكون المصالحة، والوحدة الوطنية الحقيقية، توفر كل الظروف الموضوعية أمام العامل الذاتي للإمساك بالمبادرة.

اقرأ/ي أيضًا | جرحى بمواجهات مع الاحتلال بغزة والضفة