بات واضحا أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها تم بفعل تخاذل النظام العربي الرسمي وتواطؤ بعض الأنظمة العربية التي صفقت لإدارة ترامب وأغدقت عليه مليارات الدولارات. تلك الأنظمة فعلت ذلك رغم علمها المسبق بمواقف ترامب المتماهية مع إسرائيل والمعادية لحقوق الشعب الفلسطيني، وهو موقف عبر عنه في أكثر من تصريح خلال حملته الانتخابية وبضمنها الوعد الذي قطعه على نفسه بنقل السفارة الأميركية إلى القدس.

كان يعرف الذين رقصوا لترامب بالسيوف وفرشوا له الأرض بالدولارات أنه من أشد المؤيدين للاستيطان ومن الرافضين لحل الدولتين، وبأنه لا يعترف بأي حق للعرب والمسلمين والفلسطينيين في فلسطين والقدس، وبهذا المعنى، فالرجل كان واضحا وصريحا لم يداهن ولم يراوغ ولم يتحايل على أحد، بل أن مستقبليه الذين كانت إيران وليست فلسطين هي هاجسهم الأساسي هم من حرفوا الصراع عن محوره الأساسي العربي/الإسلامي – الإسرائيلي، الذي تتوحد فيه جميع الدول والقوى العربية والإسلامية بما فيها إيران ضد إسرائيل التي تحتل الأرض وتنتهك المقدسات، ووضعه على محور الصراع السني- الشيعي، بحيث يتوحدون فيه مع إسرائيل ضد إيران تحت يافطة التهديد الذي يمثله برنامجها النووي، وكأن إسرائيل ليست هي التي تمتلك 200 رأس نووي.

هؤلاء لم تعد بوصلتهم تشير إلى القدس، وهناك شك فيما إذا أشارت يوما إلى قبلة المسلمين الأولى، التي تركوها على مدى 70 عاما تصارع وحيدة جبروت الاحتلال وأخطبوط الاستيطان، بينما بددوا أموالهم الطائلة، بل أموال العرب والمسلمين التي اؤتمنوا عليها، على صفقات أسلحة أميركية لم تطلق في حياتها رصاصة باتجاه إسرائيل، وفي كازينوهات وحانات أوروبا، وليس أدل على ذلك ما تناقلته وكالات الأنباء في أوج أزمة إعلان ترامب، عن شراء أمير سعودي للوحة فنية بـ 450 مليون دولار، تبين لاحقا أنه ليس إلا ولي العهد محمد بن سلمان.

بن سلمان نفسه كان، على ذمة وكالات الأنباء، قد اقترح على أبو مازن قبل أيام من إعلان ترامب، القبول ببلدة أبوديس عاصمة للدولة الفلسطينية الناقصة التي يقترحها نتنياهو وترامب، وهو الذي تلكأ، بصفته الحاكم الفعلي للسعودية، في استنكار إعلان ترامب عن القدس عاصمة لإسرائيل وهو المسؤول، بصفته تلك، عن إيعاز السعودية لرعاياها بعدم المشاركة في الأعمال الاحتجاجية ضد القرار الأميركي، هذا ناهيك عن تحفظ المنابر الدينية والإعلامية السعودية في مهاجمة القرار الأميركي.

وبالعموم، فردود الفعل العربية "الباردة" على القرار الأميركي بعد صدوره يفضح مدى تواطؤ النظام العربي الرسمي، الذي تقوده السعودية مع إدارة ترامب، وهي ردود لم تتكلف حتى الحرج أمام شعوبها بعد أن خلع أصحابها برقع الحياء نهائيا، ولم تعد تعدوهم الحاجة حتى لتقديم الضريبة الكلامية التي عادة ما كانوا يقدمونها لشعوبهم، بتعابير الإدانة والشجب والاستنكار والتصريحات مرتفعة اللهجة التي كانت تقتضيها الحاجة الجماهيرية في بعض الأحيان.

لقد أصبح اللعب على المكشوف ومن فوق الطاولة، ومن غير المتوقع من هذا النظام اتخاذ أي قرار سياسي ضاغط يدفع إدارة ترامب للتراجع عن قرارها، على غرار سحب السفراء وإغلاق السفارات الأميركية والإسرائيلية في الدول العربية، أو تجميد الودائع وسحب الاستثمارات في البنوك والأسواق الأميركية، ولا نتحدث عن قطع النفط والغاز وإغلاق قناة السويس وباب المندب ومضائق تيران، ولا التلويح بإعلان الحرب كما نسمع صبح مساء عندما يتعلق الأمر بإيران.

على الجانب الإسرائيلي، ذكرنا تصريح زعيم حزب العمل آفي غباي، الذي قال إن القدس موحدة عاصمة لإسرائيل بدون سلام، أفضل من سلام بدون القدس، ذكرنا هذا التصريح بتصريح موشيه ديان، في حينه، الذي قال، إن شرم الشيخ بدون سلام أفضل لإسرائيل من سلام بدون شرم الشيخ، وهي مقارنة تصلح لقياس الحالة المعنوية لإسرائيل المنتشية بسكرة القوة، بعد حالة الانهيار العربي الشاملة والتي تشبه إلى حد بعيد فترة انتشائها بسكرة "انتصار 67"، عندما كان ديان يهدد باجتياح القاهرة ودمشق وبغداد.