خلافا للكثير من الدول والكيانات، فإنه حتى لو أصدر مجلس الأمن الدولي قرارا بإجماع أعضائه يدين حماس لإطلاقها قذائف صاروخية بدائية وقذائف هاون باتجاه إسرائيل، ستكرر حماس وفصائل أخرى، على الأرجح، إطلاق هذه القذائف. وإن لم تفعل حماس ذلك ستفعله جهة أخرى. والسبب بسيط ولا يحتاج إلى خبرة ومعرفة بالشؤون العسكرية والسياسية: قطاع غزة يرزح تحت حصار وحشي، تسبب بكارثة (وليس مجرد أزمة) إنسانية، إذ أنه يعاني من نقص حاد في كافة الأمور الحياتية الأكثر ضرورية، الماء والدواء والكهرباء... إلخ.

ورغم أن دعوة المندوبة الأميركية في مجلس الأمن الدولي، نيكي هايلي، فشلت في استصدار قرار يدين حماس بسبب إطلاق القذائف الصاروخية والهاون من قطاع غزة باتجاه إسرائيل، أول من أمس الثلاثاء، إلا أن أقوالها خلال جلسة مجلس الأمن، أمس، أظهرت مرة أخرى مدى انحياز الولايات المتحدة الأعمى لدولة الاحتلال، إسرائيل. والأنكى من ذلك، أن المندوبة الأميركية كررت فريات دموية إسرائيلية وكررت عبارة ترمي إلى شيطنة الفلسطينيين ومقاومتهم، وتجاهلت بالمطلق الواقع الحاصل على الأرض.

وفي الوقت الذي لا ترى فيه الولايات المتحدة حدوث أي عدوان من جانب دولة الاحتلال، إسرائيل، بحق الفلسطينيين، في قطاع غزة أو في الضفة الغربية أو حتى في إسرائيل نفسها، زعمت المندوبة الأميركية أن الأمم المتحدة لا تتعامل بالمعايير نفسها تجاه إسرائيل وحماس. أي أن الأمم المتحدة تدين العدوان الإسرائيلي على غزة، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يشكل لجان تحقيق في هذا العدوان، لكنها لا تدين حماس بسبب إطلاق القذائف باتجاه إسرائيل ولا تشكل لجان تحقيق بهذا الخصوص.

وكمندوبة لدولة عدوانية بامتياز، لا تبدو هايلي أنها تجهل ما يحدث على الأرض. وقالت إنه "يبدو أنه توجد دول أعضاء في المجلس تعتقد أن إطلاق الصواريخ لا يعتبر إرهابا، لكن الولايات المتحدة تعتقد غير ذلك". وزعمت أيضا، أن حماس دفعت باتجاه تصعيد العنف، وأن "سكان غزة لا يحتاجون إلى حماية قوة خارجية، وإنما إلى حماية من حماس"، وأن "هذه الهجمات الإرهابية تثبت ما ادعيناه دائما، وهو أن حماس ما زالت ملتزمة بهدفها في القضاء على إسرائيل. وهذا هو الهدف عندما تطلق القذائف على إسرائيل، وهذا هو الهدف عندما تبني أنفاقا تحت الأرض وتحت الأراضي الإسرائيلية وهذا هو هدفها عندما تقود مسيرات ومظاهرات عنيفة بمسيرات العودة".

رغم عدم جهلها بما يحدث على الأرض، فإن هايلي ترفض مصطلح المقاومة. أو ربما هي لا تستوعب مصطلحا كهذا. فهي مندوبة لدولة هاجر سكانها الحاليون إلى أميركا وأبادوا معظم السكان الأصليين في المكان الذي استقروا فيه. وشنت دولتها، في العصر الحديث، حروبا واحتلت دولا وقتلت الملايين فيها، من فيتنام وكمبوديا إلى العراق وأفغانستان وغيرها، من أجل تحقيق مصالحها الخاصة. والأنكى من ذلك، أن هايلي ربما تعتقد أن عدوانية دولتها وعدوانية حليفتها إسرائيل، تُمارس باسم الرب. رب الإنجيليين اليمينيين المتطرفين الذين يرتكبون جرائمهم بادعاء التمهيد لاستقبال "المسيح المنتظر". وهؤلاء هم حلفاء اليمين المتطرف الإسرائيلي وفي مقدمتهم الصهيونية – الدينية. بل ربما أن هايلي تتحدث مع ربّها ويُخيل لها أنه يجيبها، مثلما قال قسم كبير من الإنجيليين في استطلاع واسع أجراه معهد "بيو" ونشره قبل شهر. وهؤلاء الإنجيليين يؤيدون مخططات الصهيونية – الدينية بتوسيع إسرائيل وفقا للحدود التوراتية الأسطورية.

وواضح من أقوال هايلي، أمس وفي مناسبات سابقة كثيرة، أنها تعتبر أن المقاومة الفلسطينية في غزة هي المبادرة للتصعيد، متجاهلة ممارسات دولة الاحتلال. وهي لا ترى سببا للمقاومة من غزة: لا الحصار، ولا التجويع، ولا انقطاع الكهرباء، ولا النقص في الدواء والمعدات الطبية. وهي بالطبع لا ترى أن الاستيطان الواسع ومصادرة الغالبية الساحقة من أراضي الضفة ونهب مواردها الطبيعية سببا للمقاومة. ولا ترى أن إذلال الاحتلال للفلسطينيين في الضفة والقطاع ومنعهم من التنقل بحرية جريمة. بل أنها لا ترى أن قتل فلسطينيين برصاص جنود الاحتلال والمستوطنين جريمة ينبغي أن يدفع الاحتلال ثمنها. هي لا ترى كل هذا رغم أن القانون الدولي والمعاهدات الدولية تضمن الحق بالمقاومة لكل من يرزح تحت الاحتلال.

هايلي اعتبرت مسيرات العودة السلمية "إرهابا". وتساءلت في كلمتها خلال جلسة مجلس الأمن: أية دولة تقبل بإطلاق صواريخ باتجاهها؟ وبهذا السؤال هي تتجاهل كل ما سبق إطلاق الصواريخ. لقد تجاهلت التاريخ. والتاريخ يعود، على الأقل، إلى العام 1948. إلى المجازر الصهيونية وتهجير الفلسطينيين، وأن أكثر من ثلثي سكان القطاع هم لاجئون يعيشون في أوضاع مزرية، ولا يرون حلا إلا بالعودة. وتجاهلت حصد قوات إسرائيل لأرواح الفلسطينيين بالعشرات خلال فعاليات مسيرة العودة. تجاهلت إطلاق قناصة الاحتلال النار على فلسطينيين، بينهم أطفال وقاصرون ونساء، لمجرد أنهم اقتربوا من السياج الأمني المحيط بالقطاع من دون أن يهددوا أحدا.

المطلوب من المندوبة الأميركية، عندما ترسلها إدارتها للدفاع عن حليفتها، دولة الاحتلال، أن تتبنى مواقف ورواية الفلسطينيين. المطلوب منها الاستماع إلى مؤرخين وباحثين أميركيين وإسرائيليين، وثقوا الجرائم التي اقترفتها وما زالت تقترفها إسرائيل. والمطلوب منها أن تطلع على تاريخ الاحتلالات وحركات المقاومة. فالاحتلال سبق المقاومة دائما، ولا مقاومة من دون احتلال، و"إرهاب" المقاومة أضعف بما لا يقاس من إرهاب الاحتلال. أو بدلا من ذلك، علّ أحد من سفارة بلادها في تل أبيب أن يطلعها على دعوات جنرالات وخبراء أمنيين إسرائيليين لحكومتهم للتوجه إلى تسوية مع المقاومة، لعلمهم أنه إذا لم تكن حماس في غزة فستنشأ حركات مقاومة أخرى، لأن طبيعة البشر هي مقاومة الذل أولا.