أن تنهزم أمة أو شعب أمام عدوها لأسباب متعددة، أمر يتكرر في التاريخ البشري. ولكن ما من أمة تقريبا، ذات قضية عادلة، خسرت أمام ظالم إلا وأعادت الكرة تلو الكرة، لتصحح مسار التاريخ.

نعم هناك أمّم هُزمت وانقرضت في الماضي، ولكن في العصر الحديث من الصعب تصور حصول هذا الأمر. كان أحد شروط نهوض الأمم والشعوب مجددا هو الاحتفاظ بروايتها وبخطابها، خطاب التحرر والمقاومة، خطاب العدالة والحقوق. ولهذا يلجأ المستعمر، بعد إنجاز غزواته الخارجية وتمركزه الفيزيائي في أراضي الشعوب التي غزاها، إلى إعادة كتابة التاريخ لتحقيق هدفين: الأول تسويغ شرعية السطو، ومنحها بعدا أخلاقيا لضمان ديمومة تأييد شعبه، وتسويق نفسه كحامي الحضارة الغربية؛ والثاني تفكيك رواية السكان الأصليين، وإعادة هندسة وعيهم في إطار السيطرة والهيمنة لتذويت الهزيمة.

في حالة الشعب الفلسطيني، لجأ الغازي الصهيوني إلى حملة تزييف التاريخ قبل بدء غزوه لفلسطين، وطورها مع كل تقدم حققه مشروعه على الأرض. واسترخى منتشيا بعد نجاحه في إقامة كيان على أرض فلسطين عام ١٩٤٨. وكانت قد تبنت حكومات الغرب روايته، ووفرت كل أسباب الدعم إلى جانب الدعم الكبير الذي تلقته من القيادة الستالينية للاتحاد السوفييتي.

ونجحت إسرائيل في تسويق نفسها أمام الشعوب الغربية ومعظم مجتمعاتها المدنية كدولة شرعية ديمقراطية في "غابة الشرق الاستبدادي". وكان هذا الدعم المادي والسياسي ونجاح خطابها الإعلامي من المحفزات الرئيسيّة لشن حرب على ثلاث دول عربية في 5 حزيران عام 1967، والتي انتهت بهزيمة عربية نكراء، تعاني من نتائجها الكارثية الأمة العربية، وفِي القلب منها الشعب الفلسطيني حتى اليوم.

نعم لقد رفض جمال عبد الناصر الذي اعترف بمسؤوليته عن الفشل في هزم العدوان الصهيوني الهزيمة، وصمم على العمل على التصدي لنتائج العدوان منذ اليوم التالي. وتمت المحاولة لتصحيح هذه النتائج بغيابه، بعد موته، حيث تمكنت القوات المصرية من تحقيق نصر تجلى بعبور قناة السويس وخط بارليف الحصين. ولكن هذا النصر لم يكتمل بسبب إقدام الرئيس السادات على التوصل إلى تسوية تصفوية أدت إلى إخراج مصر، أهم دولة عربية، من الصراع ضد الكيان الإسرائيلي. وكان هذا هدفا صهيونيا مركزيا، وطموحا قديما.

كانت تلك التسوية بداية انحدار الخطاب التحرري في بنية الخطاب المصري الرسمي، وباتت إسرائيل دولة جارة تستفرد بالشعب الفلسطيني وتذيقه الويلات.

كما رفضت الحركة الوطنية الفلسطينية البازغة، بقيادتها الشابة الحيوية والمستقلة، نتائج الهزيمة، وخاضت معركة الكرامة ضد عدوان إسرائيلي على الحدود الأردنية فأعادت لخطاب التحرير والمقاومة وهجه وقوة سحره والثقة بالمقاومة الشعبية المسلحة، مما دفع بالآلاف من الشباب الفلسطيني، ناهيك عن العديد من الشباب العربي وبعض الأجانب، إلى الالتحاق بصفوف المقاومة المسلحة التي كانت تتخذ من الاْردن ساحة لها حتى عام ١٩٧٢، يوم تم إخراجها بعد مذابح أيلول الأسود.

مرت مياه كثيرة في النهر، بل دماء كثيرة، منذ ذلك الزمن. وخاض شعب فلسطين معارك عسكرية، ونضالات شعبية كثيرة، وقدم تضحيات لا حدود لها، غير أن عوامل ذاتية وعجزا عربيا وظروفا دولية داعمة للكيان الإسرائيلي حالت دون انتصاره.

ومن أوجه الكارثة أن لا العرب ولا القيادة الفلسطينية، أجروا مراجعة جذرية وجريئة، وكل المراجعات الجدية التي راكمها مفكرون عرب ظلت في أدراج المكاتب ومراكز البحث.

لا يتحمل الفلسطينون وحدهم نتائج المواجهة مع إسرائيل، بل كل العرب. غير أن الفلسطينيين يتحملون المسؤولية الرئيسيّة عما لحق بخطاب حركة التحرر من تشوهات خطيرة، ويتحملون مسؤولية أكبر عن استمرار التمسك بالخطاب الهجين الذي ولدته حقبة أوسلو.

لقد أدت أوسلو إلى تجزئة القضية الفلسطينية، وباتت ملفات فرعية، وإلى تحويل خصوصية كل تجمع فلسطيني إلى عائق أمام وحدة الشعب والقضية. وانقسم الجسم السياسي الفلسطيني، وتفتتت الرؤية وتبعثرت الأهداف واختزلت الطموحات، وباتت أدنى بكثير مما قاتل من أجله الفدائي الفلسطيني.

ورغم كل ما قامت به إسرائيل تحت مظلة ما يسمى بـ"العملية السلمية" وتكشّف مشروعها الاستعماري، لا تزال تتعامل السلطة الفلسطينية وأبواقها مع الوجود الإسرائيلي كاحتلال فقط، وليس استعمارا استيطانيا.

إن الاحتلال له صفة المؤقت، وتحت هذه الصفة تقوم إسرائيل بإنهاء أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة خالية من الاستيطان، بل هي أنجزت هذه المهمة الاستعمارية الاستيطانية. والأخطر أن قضية حق العودة، جوهر القضية الفلسطينية، يجري تهميشه بمنهجية.

وبما أن الوعي شرط يسبق الاستعداد للنضال، وكل معركة تستلزم حشدا وتعبئة حول الهدف، فلا بد من توفير هذا الوعي. الوعي بأن الوجود الصهيوني في الضفة والقدس والقطاع هو وجود استعماري غير شرعي، وأن هذا الوجود هو امتداد للوجود الاستعماري في الجليل والمثلث والنقب والساحل الفلسطيني. والمُركب الآخر في هذا الوعي المطلوب هو البعد التحرري لقضية فلسطين.

طبعا، على خلفية الفشل المدوي لنهج أوسلو، وسقوط الأوهام والأحلام، وتفاقم المعاناة، وتغول المستعمر، وانفضاح عجز وفساد السلطة، انتقلت المبادرة إلى الشارع، وبرزت منه المبادرات الشعبية والشبابية والأكاديمية، التي تنخرط منذ سنوات، من القدس والضفة ومؤخرا قطاع غزة، وداخل منطقة ال ٤٨، وإلى جانب ذلك حركة المقاطعة BDS التي تخوض معركة ثقافية وسياسية ضد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، كل ذلك في إطار جهود ونضالات شعبية لتصويب المسار واسترداد الرواية واستعادة الخطاب التحرري.

إن مسيرات العودة، التي تتوالى منذ الثلاثين من آذار، والتي ابتكر فكرتها الخلاقة الجيل الشاب ودعمتها والتحمت معها كل القوى والفصائل، تندرج ضمن هذه الصيرورة المتحركة نحو استعادة البوصلة، والعودة إلى قلب القضية، قضية عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه، وتحريره من نظام استعمار كولونيالي. ولهذا نقول إن الرواية لا تندثر، وخطاب التحرر عصيّ على الهزيمة حتى لو لم تتوفر الشروط في مرحلة معينة لخوض مقاومة شاملة.

يبقى السؤال الكبير أمام منظمي مسيرات العودة : كيف تتقدم؟ وماهي مقومات استمرارها؟ وبأي أشكال تستمر؟ وكيف يتم التواصل والتشبيك مع القوى الحية في تجمعات الشعب الفلسطيني الأخرى؟ وكيف يتم إحباط محاولات فصل قضية قطاع غزة عن القضية السياسية ككل؟ كيف نعمل حتى لا تذهب التضحيات سدى؟ كيف نؤطر مسيرات العودة؟ في إطار أي خطاب؟ خطاب الهدنة، خطاب الدولتين، خطاب الدولة الفلسطينية المستقلة، أم خطاب التحرر الوطني وحق تقرير المصير لكافة تجمعات الشعب الفلسطيني، أم ندفع باتجاه حسم الأمر، باتجاه الدولة الفلسطينية الديمقراطية في فلسطين التاريخية؟

إن هذا الخيار الإستراتيجي الأخير، بات يفرض نفسه على أجندة البحث، ليس فقط في الدوائر الأكاديمية الهامة، بل أيضا بات جزءا من اهتمام طلائع الأجيال الجديدة من مثقفين ونشطاء وقادة أحزاب وفصائل سابقين. إن هذا الخيار يشكل الخطاب التحرري الديمقراطي بنسخته الحديثة الذي من شأنه تحقيق التفاف شبابي وشعبي، ويوفر خطاب أمل، وحافزا لتجديد الانخراط في السياسة والنضال.