وفاة المفكر الفلسطيني هشام شرابي في بيروت، أمس الخميس

شرابي ولد في يافا وتهجر منها ولم يستطع العودة إليها إلا في العام 1993 زائرًا!

وفاة المفكر الفلسطيني هشام شرابي في بيروت، أمس الخميس
توفي ليلة أمس (الخميس)، في بيروت، الدكتور هشام شرابي، بعد رحلة مضنية أمضاها في المنافي، بعيدًا عن مدينة يافا، التي أحبها كثيرا والتي غادرها في سنة 1947 ولم يتمكن من العودة إليها إلا مرة واحدة في سنة 1993.

أغمض هشام شرابي عينيه بعدما صارع أمراضه الكثيرة، وبعدما عاش في مباراة دائمة مع الأفكار والنظريات والحركات السياسية؛ فكان واحدًا من كبار المثقفين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، الذين طالما رأوا في الحرية الغائبة مشكلة العالم العربي بأسره. فالحرية كانت القضية الحاضرة لهشام شرابي أكانت حرية الفرد أم حرية
الجماعة أم حرية الأوطان.

في حياته كارثتان كان لهما أثر مُدوٍّ في تقرير مصائره اللاحقة. الأولى كارثة فلسطين وخروجه من يافا، والثانية إعدام أنطون سعادة.

في سنة 1947 غادر يافا نهائيا، ومن شباك الطائرة جال بناظريه لآخر مرة فشاهد العجمي والكنيسة الأرثوذكسية في أعلى تل العرقتنجي، وظل محدقاً في هذه المدينة حتى راحت تغيب عن ناظريه رويدا رويدا. وحينما زارها في سنة 1993 وجدها كما هي منذ أن تركها قبل 46 عاما؛ تجول في العجمي، وتغدى سمكاً عند الميناء في شارع جمال باشا، ومشى في ساحة الساعة وشارع بسترس وحي النزهة، لكنها كانت مدينة بلا عطر.

وُلد شرابي في يافا سنة 1927، وأمضى طفولته في عكا، ودرس في مدرسة الفرندز في رام الله، ثم تابع دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت. وفي أثناء دراسته الجامعية انتمى الى "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، وصار من رفاق أنطون سعادة المقربين جدا. وكان آخر لقاء له مع أنطون سعادة في دمشق قبل يومين من إعدامه في بيروت في 8/7/1949.

وقد فجع لهذه الجريمة وهولها، فغادر دمشق الى عمان حزينا كسيرا غاضبا، ثم سافر الى الولايات المتحدة الأمريكية، وعاش معظم سني حياته فيها. وفي الولايات المتحدة حاول أن يتخطى نتائج النكبة، فانخرط في جهد علمي وعملي من أجل فلسطين. وحاول أن يتجاوز صدمة إعدام سعادة فدشن رحلة فكرية ونقدية أوصلته الى رحاب جديدة من التفكير وإعمال العقل، فاكتشف، في رحلته هذه، كارل ماركس وسيغموند فرويد ومفاهيم التغيير والثورة.

كان لهشام شرابي حضور فكري قوي في العالم العربي، على الرغم من إقامته بعيدا في الغرب الأمريكي. ومع ذلك صارت مؤلفاته، منذ منتصف سبعينات القرن العشرين، معيناً ثقافياً للفكر النقدي العربي المعاصر، ولا سيما كتابه المشهور “المثقفون العرب والغرب” (1971) فضلاً عن “مقدمات لدراسة المجتمع العربي” (1975) و”النظام الأبوي” (1988) و”النقد الحضاري للمجتمع العربي” (1991).

كان هشام شرابي يردد دائما: “الحاضر كابوس. الماضي هو الحقيقة”. وكانت فلسطين تتلألأ دوماً في وجدانه كماض جميل، وكان الكابوس هو غيابها والاحتلال.

كان يحلو له أن يذهب إلى صور دائما. وكم كان يصر علينا أن نسلك الطريق القديمة ليتذكر رحلاته الآسرة بين يافا وبيروت. وفي صور، عند إحدى الاستراحات، يستغرق في صمت متواصل وهو ينظر الى الناقورة من بعيد. كنت كمن يحز أوتار قلبه حينما أقول له: “تعال لنتقدم نحو تلك التلال... هناك يمكنك أن ترى البصّة والزيب وربما أنوار حيفا في الليل”.

تعب من الغربة كثيراً في مرحلة مبكرة من حياته، وأراد العيش في لبنان، فعاد إليه في سنة 1974، واشترى قطعة أرض في منطقة “المشرف” ليبني عليها منزلاً صغيراً. لكن الأمن العام رفض منحه إقامة دائمة في لبنان. وانبرى صديقه منير شماعة ليتوسط لدى نجيب أبو حيدر، الذي استحصل له على إقامة لمدة سنة فقط. غير أن الحرب التي اندلعت في سنة 1975 ألجأته إلى العدول عن فكرة الإقامة في لبنان فبقي في المغترب الأمريكي. وفي كل زيارة إلى صور كان يعرّج على “المشرف” ليتفرج على قطعة الأرض التي ما عادت ملكه، ولنأكل معاً الكنافة بالقشطة التي حملها معه من صيدا.

يرحل هشام شرابي اليوم... إنها لفاجعة حقاً. وها هو يُدفن في أرض لبنان بعيداً عن يافا التي حال كابوس الحاضر دون عودته الى الماضي الخلاب فيها، ودون أن تتحقق الحرية في فلسطين، لشعب فلسطين.

(عن "السفير")

التعليقات