المفكر اللبناني جورج قرم: الدين ليس هوية جامعة والتخلي عن الشعور القومي العربي... كارثة!

المفكر اللبناني جورج قرم: الدين ليس هوية جامعة والتخلي عن الشعور القومي العربي... كارثة!
يجمع الدكتور جورج قرم في دراساته العليا بين القانون الدستوري بجامعة باريس والعلوم الاقتصادية في معهد العلوم السياسية في باريس، فضلا عن كونه خبيرا اقتصاديا وماليا في أكثر من وزارة لبنانية، إضافة إلى عمله في مجال اختصاصه في كل من باريس وبيروت والجزائر. وهو يولي الفكر أهمية بالغة ويمتاز بشعور قومي عال يذكرنا بالمفكرين الرواد في الوطن العربي، ويرى أن على الثقافة أن تنأى عن المناكفات السياسية، وقد اختاره الدكتور الحص في حكومته وزيرا للمالية حيث اعتمد برنامجا للإصلاح المالي واستطاع إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات وتخفيض نسبة الفوائد. وما زال يعمل في مجال الاستشارات المالية.

وخلال وجوده في أبو ظبي تفضل مشكورا بهذا الحوار:

الدكتور قرم من الشخصيات العربية المتميزة في مجال اختصاصه، كيف تكون شخصية الإنسان المتميز، هل هي وراثية أم من البيئة؟

أنا لا أنظر إلى نفسي بأني متميز، بل أنظر إلى أن الإنسان بنهاية الأمر بتكوينه وبأعماله هو نتيجة لظروف نشأته والتحديات التي واجهها خلال حياته والأحداث التي عاشها، ونحن كعرب، وأنا كلبناني، ومولود في مصر ولدي أصول فلسطينية ولبنانية وسورية، عاصرت أحداثا جمة منذ طفولتي، من كارثة فلسطين التي كانت قد أثرت على والدتي بشكل كبير وعلى والدي أيضاً، حتى الهجوم الثلاثي على مصر، وكنت وقتها موجودا هناك سنة 1956، إلى التعددية الحلوة التي عشتها في طفولتي بين الإسكندرية ومصر وبيروت، وكنا نحتك في المدرسة بأصدقاء من كل الجنسيات ومن كل الأديان، كانت طفولة سعيدة من جهة التعددية التي عشت فيها، ومن جهة أخرى طفولة مصدومة بالحروب وبالعنف اللذين رافقاني طوال حياتي.

من الصدمات الكبيرة أيضاً عندما عدت من دراستي في باريس إلى لبنان، وبدأت حياتي المهنية بالاصطدام بالنظام الطائفي اللبناني الذي حثني على دراسة هذه الظاهرة الغريبة التي كانت مجال إعجاب ولها آثار رأيتها كريهة، من خلال الدراسة الجامعية بعد المراحل الأولى قررت أن أسجل الدكتوراه ليس في الاقتصاد إنما في القانون الدستوري في ظاهرة تعدد الأديان، وكان هذا أول مؤلف يبحث في عمق تاريخنا في الشرق الأوسط ونحن كعرب بشكل خاص، وذلك لأنني رأيت أن التعددية اللبنانية ليست فريدة كما كنا نتصور أو كما أهلنا ومدرسونا في المدرسة أصروا علينا بأننا نحن فريدون بهذه التعددية، ولكن وجدت أن سورية ذات تعددية، والعراق ذات تعددية، وأن الهند فيها تعددية أكثر بكثير من تعدديتنا.

وبدأ مشوار فكري الطويل في تفكيك المقولات الموروثة بالنظر إلى العالم، وخلال حياتي طبعاً خلطت بين الوجه الفكري والأكاديمي والتعليمي والوجه العملي، وحياتي العملية صارت في الميدان الاقتصادي والاستشارات المالية والاقتصادية، وكانت حياة غنية بالفعل، إنما قلقة باستمرار، لأنني ذكرت الهجوم الثلاثي على مصر وقد عشته ثم حرب 1967 والكارثة، ووفاة عبد الناصر.

أنا ليس لدي ميل للتسييس ولا للحماس السياسي اليومي، ولكن عند وفاة عبد الناصر نزلت الى الشارع مثل ملايين العرب، ثم بعد ذلك بدأت المشاكل في لبنان مع تواجد فصائل المقاومة الفلسطينية والتصادم مع الدولة اللبنانية، وانقسام اللبنانيين حول ظاهرة العمل الفلسطيني المسلح، دخلنا معمعة 15 سنة.

هل المعاناة إذاً حافز شخصي مثل البيئة وما حولها أم التعليم في المدارس أم المجتمع وما فيه من تأثيرات؟

هي مزيج من كل هذا، فأنا بيئتي العائلية بيئة مثقفة، جدي كان من أول الرسامين العرب الذين تخرجوا أو درسوا الفن الحديث في روما سنة 1874، ثم عمي كذلك كان شاعراً كبيراً باللغة الفرنسية، وكان والدي رساماً وموسيقياً وكاتباً موهوباً، وسوف أنشر له في الأشهر القادمة مجموعة من رسائله وأعماله، وكل المستندات الفنية التي كانت في حوزته.

ليس هناك شك في أن البيئة مهمة.. ثم بعد ذلك تلقيت في الثانوية النظرة إلى التذوق الأدبي سواء باللغة العربية أو الفرنسية، وازدواج اللغة عندي كان دائماً مصدر غنى كبير جداً.
ثم كان لي أيضاً نصيب وحظ كبير بأن درست في باريس قبل أن تنشطر جامعة باريس إلى 12 أو 15 وحدة مختلفة، فسجلت في السوربون وكانت جامعة واحدة، في ظل رقي علمي وأدبي وسياسي فرنسي كبير للغاية، في ظل مثقفين من طراز جان بول سارتر وريمون آرون. كانت هناك رصانة في الفكر الفرنسي سواء كانت للشخص ميول تقدمية ويسارية مثل جان بول سارتر أو ميول محافظة ويمينية مثل ريمون آرون، إنما هؤلاء كانوا شخصيات ضخمة وأسلوبهم بالكتابة أسلوب متأنٍّ رصين. لم نكن قد دخلنا في المهاترات التي نشهدها في الإعلام الدولي اليوم أو الإعلام العربي. فالكلمة كانت مسؤولة.

ومن الأشياء التي أثرت أيضاً أنني تلقيت علوماً من كبار الأساتذة، ثم إن البيئة اللبنانية عندما عدت إلى لبنان كانت أيضاً بيئة غنية، ففي الستينات كان هناك العهد الشهابي وكانت الشخصيات اللبنانية الإصلاحية هي التي أصبحت تقود المسيرة، ولسوء الحظ حكم فؤاد شهاب لم يدم طويلاً حيث رفض الرجل أن يجدد الحكم لنفسه كرئيس للجمهورية رغم الإمكانيات المتوفرة حفاظاً على القواعد الديمقراطية.
وعندما خرج من الحكم سنة 1964 عاد لبنان إلى الشيطان المذهبي والطائفي.

في الطفولة هل كنت تستمع وتحلل أم أنه كان عندك شعور خاص بأنه يوجد اختلاف بينك وبين رفاقك؟

من العوامل المهمة المؤثرة في تكوين قراءاتي لكل رواد النهضة العربية أنهم أثروا بي تأثيرا كبيرا وخاصة أحمد أمين، ومحمد عبده، والكواكبي، ثم استكشاف ابن خلدون جاء متأخراً بحياتي وبقراءاتي، واليوم أنا منكب على ابن خلدون لأنه هو بالفعل عملاق لا نعطيه الحجم الذي يستحقه أو الأهمية، لأن فكره ما يزال صالحاً لتحليل الواقع اليوم.

إنما لسوء الحظ نحن تركنا الفكر العربي النهضوي. الفكر العربي اليوم متروك، مقبور، بينما كون جزءا كبيرا من علومي فهمي للواقع العربي والإسلامي من خلال هذه القراءات أيضاً، خاصة عندما بدأ العالم العربي يدخل في تمزيق هويته، في إشكاليات عقيمة مثلاً بين عروبة وإسلام، حداثة وأصالة.. كلها إشكالات عقيمة لا تؤدي إلى تراكمات في عالم المعرفة، أو ما أسميه أنا بالمنظومة الفكرية التي نرتاح إليها جميعا كعرب.

هذه القراءات هي التي أخذتني، وأنا اليوم حزين لأن كل هؤلاء العمالقة في الفكر والأدب مهتمون لصالح بعض الكتابات المسيرة حول الهوية، والتي أقول أنها بأننا أدخلتنا في غوانتنامو فكري، مع أزمة هوية لا تنتهي، ومزيد من الفكر فيما بيننا كعرب بالمذاهب الدينية، بالأهواء السياسية، بصعود المشاعر القومية القطرية، بشكل لا منطقي ولا عقلاني إلى آخره من الأمراض.

أحببت الأدب وأحببت الموسيقى ولكن الوالد ثبتني في حب الموسيقى وخضعت له لأن الرسم أتعبه في حياته المادية.
أعود وأقول إن الإنسان إنتاج بيئته، إذا كان في البيئة جو أدبي وفكر وتأمل طبعاً الإنسان سيستفيد وخاصة أن الظروف والإغراءات المادية مقاومتها ليست بالأمر السهل، وأنا دفعت الثمن. أنا أعتقد أن استقلالية الشخص هي التي تسمح له بالعطاء. كذلك نحن في حاجة إلى الإصلاح التعليمي، عندنا الشيء الذي حصل في الأربعين سنة الأخيرة، انه حتى التعليم الجامعي والمدارس الثانوية ترك المجال التكويني والعقلي للتركيز على المجالات العملية كالرياضيات والكيمياء والفيزياء وإدارة الأعمال في الجامعات، حتى علم الاقتصاد السياسي اختفى من الوجود، والفلسفة انتهت تماماً. وفي هذا الجو أصبح تحضير الطالب لحياة عملية ينجح فيها مادياً، فهذا طبعاً يقضي على المواهب الفكرية ويجعل من الإنسان آلة لكسب الرواتب العالية، وقد ظهرت نتائج هذا التعليم في الانهيارات الاقتصادية التي يشهدها العالم.

دكتور جورج، العالم العربي يمر، كما قلت في كتابك، بانفجار منذ تأميم قناة السويس حتى غزة والعراق، برأيك كتابة التاريخ في المنطقة العربية، أو ما يسمى الشرق الأوسط، هل كانت بحثا عن الجوهر؟ وهل كتابة هذا التاريخ كانت منصفة أو كتبت من قبل الأقوياء من الطبقة السياسية، هل التاريخ يكتب فعلاً كما هو في الحقيقة التي جرت أو أنه حقيقة من كتبوه؟!

طبعاً التاريخ يكتبه في معظم الأحيان الأقوياء والمنتصرون بالحروب، وأنا سعيت إلى تفكيك جميع المقولات المستعملة بوصف تاريخ المنطقة في السبعين سنة الأخيرة، وكما تعلمين هذا الكتاب بدا كتابا متواضعا بمئتي صفحة وأصبح الآن يتجاوز الألف صفحة. وفي عام 1998 أضفت إليه خمسة فصول كمدخل للرواية التاريخية، وهي فصول منهجية في تحليل المقولات المستعملة وتفكيكها سواء المقولات التي نستعملها نحن كعرب أو كمسلمين أو كمسيحيين بطبيعة الحال، أو مقولات المستشرقين أو الأكاديميات الغربية التي نتأثر بها أيضاً. حاولت أن أصل إلى مقولات حيادية إلى حد ما من ناحية المنهج، لأصل إلى فهم المجتمع، وبشكل خاص قلت كما قلت في هذه الفصول وما سميته (ديناميكية) الفشل عند العرب في العالم الحديث، بل العودة إلى خروجهم من التاريخ، من القرن الثاني عشر، وتسليمهم الحكم إلى العنصر التركي أو العنصر الفارسي.

وأنا أعتقد أن هذا لغز تاريخي كبير لم نحلله إلى الآن، ولذلك لم نفهم اليوم لماذا فشل، فأنا بنظري بأن ديناميكية الفشل آتية ليس من عيب فينا من الناحية العنصرية أو من ناحية تركيبتنا. لكن، لأننا خرجنا من التاريخ في الماضي، وعندما عدنا إلى التاريخ لم نكن مهيئين لتلك العودة، ولم نكن مهيئين لإدارة دولة. فالأتراك احتلونا على مدى سبعة إلى ثمانية قرون، من عهد المماليك لنهاية السلطنة العثمانية، هذه كلها أمور لم نبحث فيها.

لماذا لم نكن مهيئين؟ هل لأننا نرتكز على بيئة قبلية أو عائلية ما تزال في تكوين العائلة ولا نستطيع أن نتوحد أو نندمج، وما هي أهم الأسباب؟

أول شيء النخبة العربية كانت نخبة مهمشة، تقوقعت منذ القرن الثاني عشر، تقريباً آخر علامة أو وجه بارز هو ابن خلدون، وبعد ابن خلدون ربما هناك بعض الشخصيات العربية أعطت ولكننا نجهلها، فردية، ولذلك هناك قصور بالأبحاث التاريخية وقصور كبير جداً.

نحن بعد تألق حضارتنا أيام العباسيين والرشيد اختفينا، وفجأة نعود لنتحدث عن أنفسنا مع النهضة العربية الأولى مع الطهطاوي، ماذا حصل في كل هذه القرون، هذا الانفصام بين لغة الحكم كانت في تركيا، ولغة الناس العاديين كانت العربية.
هذه مشكلة كبيرة للغاية، واليوم نرى أيضاً اتكالنا على اللغات الأجنبية بشكل كبير، كل هذه الظواهر عوامل تسبب، وأنا لا أعتقد أن القبلية هي المشكلة.. في اليابان كانت هناك مرحلة تخلف وانحطاط، المشكلة بنظري أنا إلى حد ما ميل فكري، وأنا أسميها قبلية لكنها ميل للفتنة والانقسام.

عندما جاء الاستعمار وجزّأ الأمة العربية، واجهت الطموحات إلى الوحدة، إلى كيان وحدوي، العصبيات القطرية ازدهرت ونمت بتشجيع من الخارج، وأيضاً بتشجيع نخب جديدة استفادت من الكيانات القطرية. كيف الخروج من هذا المأزق هذا هو السؤال؟! هل صار هناك هروب إلى الأمام بعدة مواضع؟ كانت هناك منظمة ثقافية عربية كانت مع رواد النهضة العربية قد بدأت تتبلور، جاءت بعدها قوى اجتماعية جديدة، خرجت في معظم الأحيان إما من الصحراء أو من الأرياف، القوة التي خرجت من الأرياف أو من الفئات المتوسطة الدنيا في المدن العربية أسست للانقلابات العسكرية، والانقلابات العسكرية تمسكت بالفكرة العروبية، إنما تزاحمت فيما بينها بشكل لا مثيل له.

ثم إن عصر النفط أيضاً هو الزلزال الاجتماعي السياسي الكبير جداً، وأهل الصحراء كانوا أيضاً لقرون وأكثر من القرون التي ذكرتها عندما انتقلت الحركة الثقافية من الجزيرة العربية حيث نشأ النبي ونزل القرآن، انتقلت إلى بلاد الشام إلى بلاد النهرين أو بلاد الأندلس، أصبح أهل الصحراء مبعدين مهمشين، ثم أتت ظروف جديدة بعد ثلاثة عشر قرناً أعادتهم إلى الصدارة على حساب أهل المدن سواء في المغرب العربي أو في المشرق العربي أكثر من المغرب.

وهذا الزلزال لم يتم تحليله إلى الآن، وأنا أعتقد وأقول في بعض الأحيان هناك انتقام تاريخي من أهل الصحراء ضد أهل الحضارة بمعنى المدينة، صار هناك أيضاً عند أهل المدينة انتقام من العنصر الريفي المهمش المقموع الفقير على واجهات المدن التقليدية.

كل هذه الزلازل لم نتعلم تحليلها والتعامل معها للتخفيف من العنف الكامل، ولو بشكل صامت وراءه، هذا كله ولد عنفا كبيرا للغاية حتى من ناحية ممارسة الدين الإسلامي صار هناك انقلاب كبير بين الحركة التنويرية الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد عبده وأحمد أمين وقاسم أمين، وبين بعض مذاهب التشدد الإسلامي التي أصبحت مهمة للغاية والتي أصبحت هي السائدة.

كل هذه الأمور مسكوت عنها، وطبعاً العامل النفطي سيبقى طاغياً على الحياة العربية.

هل السكوت عنها من الخارج حسب تصريحات عن الرئيس الأمريكي المنتخب أوباما، بأن المنطقة ليست مهيأة للديمقراطية، يعني مثل التهميش؟... برأيك كم من الوقت الزمني لتعيد نفسها؟ وإن حصل ذلك هل الدول الكبرى تريد للمنطقة أن تبقى بحالة الاضطراب والتمزق الموجود فيها ؟

هذا الأمر ليس فيه شك، نحن نشهد عودة الروح الاستعمارية من الغرب بشكل ملفت للنظر، وهذا مسكوت عنه أيضاً من الدول الأوروبية التي تمشي وارء أمريكا وتزودها بالقوات العسكرية، أوروبا أصبحت قاعدة خلفية للتوسع الاستعماري الأمريكي، ونحن صامتون.

هذه ظاهرة قاتلة للحياة الديمقراطية التي ذكرتها لروح الديمقراطية عند العرب، لأن تصرف الغرب بازدواج المعايير وذلك بوضع إسرائيل فوق القانون، وبالسكوت عن جرائم إسرائيل باستعمال حقوق الإنسان وهي طبعاً فكرة نبيلة للغاية في غايات سياسية ضيقة، نسكت هنا مع هذا النظام، ونندد بهذا النظام الآخر لأنه يراعي مصالحنا.

هذا كله تقويض للفكرة الديمقراطية عندنا، ولهذا السبب التقوقع، والتقوقع على هوية إسلامية مثلاً، وأنا لست من المعجبين بنشر ثقافة حقوق الإنسان على الطريقة الغربية، بالفعل أصبحت فضيحة مع كل احترامي إلى أصدقائي وأصحابي الذين يرقصون الرقصات الغربية في فكرهم. أنا اليوم أصبحت لا يمكنني بتاتاً أن أتأثر بأي فكرة من الأفكار والسياسة الديمقراطية الغربية، وأعتقد أن المضي في هذا الطريق هو الذي يزيد القلاقل الداخلية، وأن التنازل أيضاً عن الشعور القومي العربي هو كارثة، وأنا لست من المؤمنين بأن الديانة خصوصاً الديانات العالمية مثل الديانة النصرانية، ممكن أن تكون جامعا لوحدها، هي طبعاً عنصر من عناصر هويتنا كعرب لكنها ليست كل الهوية، والهويات مركبة، تبسيط الهوية بعنصر واحد.. خيار واحد يجمعني أنا مع الأندونيسي مع الصيني المسلم، مع الباكستاني، هذا غير واقعي.. هذا خيالي. وهذا يمكن أن يطرح مشاكل أخرى كالصراع بين المذاهب الإسلامية نفسها. نحن نعيش أيضاً حروبا مستترة متجددة بين المذاهب الإسلامية.

ـ هل المؤسسات الدينية لها تأثير في تأخير المد الثقافي والعلمي في المنطقة؟

يمكن للمؤسسات الدينية أن تكون عامل نهضة، وهي كانت كذلك في مصر لمدة طويلة، هناك بعض مشايخ الأزهر أساتذتنا، أحمد أمين شخصية كبيرة جداً وهو شيخ أزهري، ويمكن أن تنقلب إلى أداة قمع، الشيء الذي يجعل المؤسسة الدينية سلبية أو إيجابية هو نظام الحكم، لأن المؤسسة الدينية عند المسلمين ليست مستقلة، الحاكم على خلاف ما حصل في الدول الغربية حيث كانت الكنيسة هي التي تطغي على الحكم المدني، عند المسلمين الحكم كان دائماً مدنياً ورجال الدين كانوا تحت إمرة السلطان، ونحن ننسى ذلك.

اليوم نحن عندنا أزمة فكرية كبيرة، أنا أصنفها بأننا في غوانتنامو فكري، فالمؤسسة الدينية اضطلعت بالدور السلبي لأن الفترة العامة سلبية، سياسياً، فكرياً، ثقافياً.. الحمد لله ما زال عندنا نحن كعرب إبداع بالفن والأدب، إنما بالفكر نحن أصبحنا مسلوبين، أدخلنا أنفسنا بإشكاليات لا حل لها ولا تؤدي إلى أية نتيجة تذكر.

حداثة وأصالة، عروبة أو إسلام.. كل ذلك، وعندنا أيضاً وضع انفصامي رهيب لأن جو التشدد الديني الذي سيطر على المنطقة منذ نهاية الناصرية تقريباً كتعويض لفشل المشروع القومي العربي، هذا الجو والأنظمة التي تحمل التشدد الديني هما حلفاء للغرب وهذا يخلق جهنم انفصام، الشخصية الجماعية العربية تمارس التشدد الديني كتعويض للفشل القومي، إنما الأنظمة التي تحمل التشدد الديني هي حليفة الغرب ولا أحد يجرؤ على معالجة هذا الموضوع، ليس لإدانة نظام معين. دائماً أسمع عن شل الإرادة السياسية العربية، الإرادة السياسية العربية مشلولة لأن الفكر مشلول، الأنظمة التي نشكو منها هي نتاج وضع معين يجب أن نحلل ونغير هذا الوضع لا أن نتهجم على الأنظمة لأن الهجوم على الأنظمة لا يفيد.

تغير الأنظمة يأتي إذا وجد تغير في المناخ الثقافي، وأنا دائماً أدعو إلى بناء منظمة فكرية عربية نرتاح إليها جميعاً كعرب مهما كانت انتماءاتنا السياسية أو الدينية، هذه المنظمة انهارت تماماً.

هل ينقلنا من هذا الانهيار أنه توجد لدينا مراكز أبحاث علمية بكل أنواعها.. هل يمكن أن يكون وجود مثل هذه المراكز عاملا أساسيا لبناء صحيح وسليم في المنطقة؟

المشكلة هي تسييس المثقف، المثقف تحول إلى إعلامي لأنواع مختلفة من العقائد السياسية والدينية. في مثل هذا الجو لا يمكن بناء المنظمة الفكرية والتراكم المعرفي، نحن اليوم، كما ذكرت، انقطعنا عن الفترات التنويرية السابقة، سواء بالرسالة المحمدية التي هي مصدر تنوير كبير للغاية أو النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من تمركس ومن بقي غربيا، راح زمن الاتحاد السوفييتي وبرزت إيران كقوة إقليمية، تفرقنا كعرب من معجب بإيران ومن يستمر بالولاء للدول الغربية.

أنا أود أن أحلل هذه الظاهرة، وما هي الحاجة المستمرة للحليف الخارجي.

كيف نحلل يا دكتور وعندنا المعاهد وخاصة الفلسفة في أيامكم كانت فروع للفلسفة واليوم غياب هذه الدراسة وابتعاد الشباب عن هذه الدراسة، ما تأثيرها؟

دراسة الفلسفة أيضاً لها محاذيرها، وتاريخ أوروبا الفلسفي يبرهن أن الحروب الأوروبية خاصة حروب القرن العشرين كانت حروبا فلسفية ضخمة، المهم أنه إذا أردت أن أتكلم أنا كعربي ومن بيئتي العربية عن أهمية الدين بحياتنا كعرب فأنا أريد حرية الاجتهاد لأننا لا نقدر على تأسيس الحرية في بلداننا العربية إذا كانت أم الحريات التي هي حرية اجتهاد النص الديني غير موجودة، ولسوء الحظ تقدمنا كثيراً بالنهضة العربية الأولى، بالتنوير في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، رجعنا إلى الوراء في هذا الموضوع لأنه صار هناك انتشار لمذاهب متشددة، وهي نتيجة كما فسرت لإخفاق القومية العربية.

برأيك التاريخ العربي أو تاريخ المنطقة من أيام معاوية وبعد سقوط الدولة الأموية هذه الإمبراطورية التي وصلت بالعرب إلى إسبانيا، بدأت الطبقات الحاكمة تحضر الشعوب على أساس سلالات عائلية وقد تبتعد لمدة زمنية وترجع بتكوين آخر، طالما نحن بحكم هذه العائلات ولم يتسن للآخرين المشاركة في السياسة، كيف سيكون مستقبل هذه المنطقة لفترة زمنية محددة؟

أول شيء أن لا ننسى فترة الازدهار الديمقراطي في منطقتنا العربية، في مصر أيام الملكية كان فيها حياة ديمقراطية نشطة، سورية، العراق، لبنان، الشيء الذي حصل طبعاً الانقلابات العسكرية التي بدأت تغير وجه المنطقة والجمهوريات فأصبحت سلالات أيضاً، وأصبح هناك جو عالمي بعودة العائلات، أليس هذا إنتاجا عربيا فقط؟

وبما أن هناك قلاقل في المنطقة فلا توجد بالطبع هوية جامعة، هناك انفصام بالشخصية، تحول الجمهوريات إلى سلالات، ويعطي هذا الشيء نوعا من الاطمئنان في نهاية الأمر وبأنه هناك استبداد لنظام حكم معين.

كما ذكرت طالما أننا نستمر بالوضع المفتت، بوضع عدم الاتفاق فيما بيننا وعدم وجود ما يجمعنا فكرياً، وثقافياً ووطنياً وقومياً، حب السلالة حب طبيعي، وأنا لا أرى فيه شيئا معيبا، من منطلق أنا بنظري المثقف ليس من شغلته أن يكون ناشطا سياسيا فيصبح أداة مطيعة بأيدي قوى سياسية معينة محلية إقليمية دولية، المطلوب من المثقف بناء ثقافي بزيادة المعرفة، ليس مطلوبا منه أن يكون إعلاميا سياسيا، هذا مفهوم غلط، وكل الدول من نخبتها المثقفة دخلت في المعمعة السياسية، دخلت بالفتن: روسيا، ألمانيا في القرن التاسع عشر، الصين.. أنا من هذه الناحية محافظ، وأعتقد أن قمع الحرية الذي أدينه بشدة إنما أيضاً هو نتيجة وضع ثقافي غير مريح، وضع ثقافي ليس فيه الحد الأدنى من الاتفاق حول (المنظومة) الفكرية، حول الهوية، وهنا واجب المثقف أن يعمل على تطوير هذه (المنظومة)، وأن يعمل على البحث، لماذا لا نتقاسم كعرب للاستمرار؟

قبل الرسالة النبوية الشريفة كنا أيضاً مقسومين.. عرب مع بيزنطة (الروم) وعرب مع فارس (الفرس)، ثم وحدنا الإسلام. وإنما وحدنا لفترة وجيزة جداً، وبعدها تفرقنا من جديد، كسبنا الاستقلال أو حتى قبل كسب الاستقلال، بعض العرب يريدون أن يتمسكوا بالرابطة الدينية والسلطنة العثمانية، وبعض العرب يريدون أن يستقلوا ويتعاملوا مع الغرب بروح الاستعمار للاستقلال، طبعاً أخطأوا أيضاً بحساباتهم. يعني النوعان أو الجهتان أخطآ الحسابات. عندما نلنا الاستقلال، بعض الدول والأنظمة السياسية ذهبت مع أمريكا، ودول أخرى ذهبت مع الاتحاد السوفييتي، والنخب العربية كذلك منقطعون عنها وعن كل مصادر التنوير، ونحن بحاجة فعالة حضارية من الغرب وضد الغرب على أن نقبل بأشياء من الغرب ونرفض أشياء أخرى، لا نفصل بين الإعجاب بالغرب والولاء السياسي، يعني نحن نعاني من شلل الفكر العربي حتى إذا بنينا مئتين من مراكز البحث لا يتغير الوضع.

وثلاثة أرباع المثقفين العرب، لسوء الحظ، انزلقوا بقضية حوار الحضارات وحرب الحضارات، وكل هذه المدة السخيفة التي لا تمت إلى واقع مشاكلنا، وأنا أرفض أن تكون الحضارات هي مصدر النزاعات في الشرق الأوسط، ما هذه الخرافة؟

النزاعات في الشرق الأوسط هي جيوش أجنبية تدخل وتخرج من المنطقة كما تشاء منذ نابليون بونابرت إلى اليوم، وهذه مشكلة الاحتلال، قتل الشعوب في العراق وفي لبنان وفي فلسطين.

لا مشاكل حضارات ولا مشاكل أديان هي نوع من عملية الإلهاء التي تحول بيننا وبين واقعنا العربي، أنا اليوم أرى أن العديد من الأنظمة العربية أو المثقفين العرب يدينون المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ويطلبون من الشعب الفلسطيني أن يحمي المحتل ومستعمرات المحتل. أنا أقول أننا بحالة فقدان العقل، وهذا الموقف هو الذي يطيل العنف ويطيل الأزمة الراديكالية والممانعة، أنا بنظري هذه هي الطريقة، فإنهاء الصراعات والاعتدال هي الطريقة لتطويل الصراعات.

وأنا لا أفهم كيف يمكن أن نطلب من حزب الله أو من حماس أن لا تقاوم! لأفهم هذا أصبح الأمر خارج فهمي، ولهذا السبب أقول إننا في غوانتنامو فكري. فأنا اليوم معركتي كمثقف ليست حقوق إنسان.

هذه نتائج معركتي.. حرية الاجتهاد لأنها هي التي تؤسس للفكر المبدع، العودة إلى التراث الجميل ولكن العودة دائماً إلى التراث لخلق شيء جديد، وإذا عدنا إلى التراث سنعود لإعادة الإنتاج.

التراث، كما نتخيله في تلك الفترات، ونسينا فترات الازدهار الفلسفي، ازدهار المدارس الاجتهادية (الملل والنحل) كانت هناك حرية مطلقة في التعامل مع النص الإلهي القرآني، مع الوحي.

كانت هناك حرية مطلقة، الله خالقنا أعطانا الذكاء وأعطانا الفكر حتى نتعامل مع النصوص التي هي غنية للغاية. عندما نتمسك بالقراءة الحرفية للنص، أي للوحي، هنا الكارثة حيث اننا لا نفهم الدين ولا ندخل في الفكر، ومن كوارث الدنيا اليوم تجدد روح وتجدد القراءة الحرفية للتوراة من قبل كنائس بروتستانت Protestant عديدة بشكل خاص في أمريكا التي هي مصدر التأييد المطلق لإسرائيل، حتى في القرآن الكريم هناك قراءة رمزية للعهد القديم وليس فيه قراءة حرفية، كل هذا نحن ننساه، وننسى ذات الشيء أنها الفلسفة العربية، صحيح أنها أخذت من الفلسفة اليونانية، إنما هي الفلسفة العربية التي سمحت لأوروبا بتطوير نهضتها.

نحن بالعكس، لست أرى إلا عددا قليلا من الناس يهتمون بهذه الإشكاليات الصحيحة الواقعية لأن الحضارة الإسلامية بنيت على التفاعل مع الحضارات الأخرى، ونحن اليوم انزوينا مع الحضارة الغربية (نباطحها) أو نكون معجبين فيها إلى درجة الشلل وفقدان الاستقلال العقلي، ولا نطلع حتى على الحضارات الأخرى كحضارات اليابانيين والهنود، حتى الفارسيين اليوم والأتراك، نحن عندنا نظرة فقط مع الغرب إما تصادم وإما إعجاب لدرجة الشلل، وطالما نحن في هذا الطريق، أي نحن والغرب، فلا أرى أي حل.

القدس.. وخلال هذا التداني القائم اليوم، على أي أساس هو قائم ومدينة القدس تتعرض لتهجير سكانها أو لتدمير المسجد الأقصى. ضمن ما يحصل، أين هو الدور الفعلي الذي تلعبه المؤسسات الدينية مقابل ما يحصل؟ وما هو مستقبل هذه المدينة برأيك، وهي العاصمة الثقافية للعرب هذه السنة، أي عاصمة تحت الاحتلال وسكانها يتعرضون للتهجير؟

جد أمي كان من عين كاري من بيت لحم، والقدس هي رمز آلام العالم كله، الصهيونية هي أيضاً فرزت موجات العنف الرهيبة في التاريخ الأوروبي بين المسيحيين واليهود والتي أدت بعدها للإبادة أيام هتلر.

نحن ليس لنا علاقة بهذا الشيء، حتى إننا لا نعرف أن نقول للغرب هذا لا يخصنا، حتى إننا يجب أن لا ندخل بحوار معه بعكس اليهود، فالعالم الإسلامي والتركي كانا ملجأ لهم، نحن لا نعرف شيئا. لذلك أرجع إلى الاستقلال الفكري والعقلي عند العرب حالياً، منذ أربعين إلى خمسين سنة، شيء مذهل، الكنائس العربية أين هي اللبنانية، السورية، المصرية، بالنسبة إلى الأوروبيين؟ كأن المسيح مولود بروما وليس له علاقة بالقدس أو بيت لحم!! هذا شيء مذهل!! إننا نشهد انحطاطا وهناك أزمة أخلاق عالمية سواء في الاقتصاد، في المجتمعات وفي الفكر، مجرد الفكر الليبرالي المحافظ الجديد هو انحطاط رهيب، حتى أصعب أيام الاستعمار القديم كان عندك فئة من المثقفين الملتزمين التقدميين الذين كانوا يحاربون الاستعمار في بلادهم، واليوم انتهى، كلهم أصبحوا مستعمرين مصابين بروح الاستعلاء والتكبر، كما تقول الأدبيات الإيرانية أيام ثورة الخميني، ونحن ننسى ذلك، بينما مقولات الإمام الخميني مقولات لها دلالة حتى في اللغة العربية، بين المظلومين المستضعفين وقوة الاستكبار، هذه أشياء محسوسة بينما بالأدبيات الماركسية قد تقولين لعقل أوروبي له دلالة (بروليتارية)، لكن بالعقل العربي ما هي (البروليتارية)؟ لا توجد تقاليد صناعية حتى نتحدث عن البروليتارية، لذلك القدس قضية طويلة للغاية، والشيء الغريب أنه يوجد جزء من العالم العربي يدين المقاومة.

حتى لا نتكلم عن الأنظمة يوجد جزء من العالم العربي يدين المقاومة ويرفع الشعار السخيف (خلونا نعيش)، ما أسخف هذا؟ (ما هي الحياة من دون كرامة؟) ما هي الحياة عندما تكون الكرامة الأخلاقية القومية مدعوسة دعسا؟ ما هي الحياة والكرامة عندما الجيوش الأجنبية تنزل في بلادنا وتغزو عندما تريد؟ ما هي الحياة عندما تكون هناك حفنة من الأثرياء الكبار ورجال السياسة يسيطرون على كل أمور حياتنا؟

لا بد من سؤال عن الأزمات التي تعصف بالعالم.. وأنت كاقتصادي وأنت من أصلحت النظام المالي يوماً ما في لبنان، برأيك أسباب الأزمة من أين كان مصدرها؟ وكيف سيكون إصلاح هذه الأزمة التي تسببت بها هذه الدول؟ برأيك هل تحتاج إلى قوانين اقتصادية جيدة؟

أنا لا أحب ذكر أعمال سابقة وضعتها، إنما في عام 1993 كتبت مؤلفاً اقتصادياً بحتاً، سميته 'الفوضى الاقتصادية الدولية الجديدة'، صدر بدار الطليعة ببيروت. وعبر التحرير الموضوعي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي رأيت أن كل الإصلاحات التي أدخلت على النظام الرأسمالي لكي تصبح الرأسمالية تحمي الفئات المحدودة الدخل والمهمشة، تدخلها في الدولة الاقتصادية إلى آخره، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي قلت سوف تتحول الرأسمالية إلى رأسمالية شرسة لأنه ليس من رادع، وتعود إلى طبيعتها إلى حد ما، مع أني لست اشتراكياً وكانت وقتها قد بدأت ظواهر الشواذ من رواتب مدراء الشركات الخيالية إلى تفكيك دولة الرفاه والحمايات الاجتماعية، إلى هذه النظرية السخيفة النيولبرالية، والهجوم مثلاً على الأدبيات الكنسية الطابع، التي كانت تقول بضرورة وجود الدولة في الاقتصاد لإجراء التوازنات ولإعادة توزيع الدخل بين الفئات الثرية للغاية والفئات الأخرى في المجتمع. كل هذا انهار وجاءت أيام (مارغريت تاتشر)، و(رونالد ريغن) وسلسلة من الاقتصاديين ومنهم من نال جائزة نوبل للاقتصاد ومنهم (ملتون فريدمان)... لم أقرأ في حياتي مؤلفات أسخف من مؤلفات (ملتون فريدمان) بسطحيتها وبسخافتها الفلسفية... اكتسحت العالم هذه الموجة وطبعاً ما سمي (واشنطن كونسنسوس) الذي أخبر بموجبه كل العالم الثالث، أن تفتح اقتصادياتها، أن لا تحمي اقتصادياتها، وأن تغزو الشركات المتعددة العالم كله بما فيها الصين مع أنها حافظت على مركزية النظام، وعلى دولة قوية للغاية في الاقتصاد وتحولت الرأسمالية من رأسمالية صناعية إقطاعية إلى رأسمالية طفيلية تعيش على الريوعات المالية، في البورصات العالمية، بشكل صناعي للغاية فتم صعود البورصات العالمية كما صعود لقيمة العقارات العالمية، خلق ثروات اصطناعية غير مستندة إلى واقع، طبعاً الإنترنيت وإعجاب الناس بالإنترنيت طبعاً هذا لا يكفي، تم تفكيك كل أجهزة الرقابة بحجة أن الأسواق تضبط نفسها ولا داعي للرقابة على الأسواق، وأصبح الاقتصاد العالمي اقتصاد شبكات لها علامات خفية وعلنية مع الجهات السياسية، صار عندك تركز السلطة المالية والاقتصادية والإعلامية، والسياسية بأيدي قلة قليلة، انهارت الأخلاق وقيم العمل الجاد والرصين وصارت الماديات كما ذكرت سابقاً هي المستحوذة على عقول الناس، الأنظمة التعليمية تكيفت مع هذا الواقع وأصبح ملايين من العالم كله يتخرجون من الكليات أو الجامعات الغربية العريقة بإدارة الأعمال وبالعلوم المالية، بالرياضيات من أجل البورصة والمضاربات إلى آخره.

هذا طبعاً أدى إلى الكارثة التي يشهدها العالم اليوم، لأنه كان غير قابل للديمومة. إلى أي مدى ستواصل التدهور في الاقتصاد الحقيقي؟ كان الأمل في الأول أن الأزمة مالية فقط ولن تضرب الاقتصاد الحقيقي.. لا إن الأزمة أكثر من مالية.. وأنا أتوقع أيضاً عدم استقرار سياسي من وراء عمق الأزمة، وحتى الدول الأوروبية تشد مظاهرات، عدة دول، باليونان، دول كفرنسا وإيطاليا.. إنما المشكلة في نظري بأن هناك جيلين أو ثلاثة أجيال تربوا على الفلسفة (النيوبلاتونية) لأن الاقتصاد (النيوليبرالي) نظرة العالم المعولم السخيفة، وما يزالون مسيطرين على مراكز القرار في العالم. بنظري هناك مشكلة جيل. من جهة هناك من يود أن تتعمق الأزمة إلى أن تصير الحركة الإصلاحية بحاجة ماسة وليس ترميما، من جهة أخرى طبعاً المعاناة التي تسببها الأزمة لدى الفئات الشعبية، وبهذا لا أحد يريد أن تستمر هذه الأزمة.

أنا لا يمكنني أن أتكهن ما الذي سيحصل في المستقبل، إنما الشيء الملفت للنظر أنه لم يعاقب أحد من حكام المصارف المركزية ومن رؤساء لجان مراقبة المصارف أو مراقبة البورصة لأنها شبكة من الفساد المعولم التي ما تزال تسيطر، فقط عندما يأتي شخص مثلا (من فوق) يسرق خمسين مليارا ولم يسأل، وغيره لم يعاقب وبعده في بيته، أنا بنظري المسؤولية كبيرة على أصحاب القرار السياسي والاقتصادي. حاكم البنك المركزي الذي روج لهذه الثورة الصناعية، وما زال في بيته، وهذه ليست أول مرة. فأنا أتذكر فضائح كبيرة حصلت في فرنسا أيام (كريدمني) وأيام (ميتران) وقتها الخسارات وصلت الى 150 مليار فرنك، وقتها شيء يوصلك للجنون ودفع وقتها كل مكلف فرنسي 3000 فرنك ليعوض خسارات (كريد نيورك) وكل المدراء يجلسون في بيوتهم ويقبضون رواتب التقاعد.
"القدس العربي"

التعليقات