تقرير: حرب جديدة ضد العراق ستضرب العمق العربي مجدداً والتبعات عابرة للحدود

تقرير: حرب جديدة ضد العراق ستضرب العمق العربي مجدداً والتبعات عابرة للحدود

تدقّ الولايات المتحدة الأمريكية طبول حرب جديدة ضد العراق، لتؤذن ظلالها المفزعة بشن ثالث حرب تشهدها الخليج، والعراق تحديداً، خلال أقل من ربع قرن. يُراد للحرب المحتملة أن تكون ماحقة وساحقة تماماً هذه المرة، ولتفوق في ضراوتها الطابع المهول لسابقتيها؛ حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران، وحرب الخليج الثانية التي كانت حرباً بمقاس عالمي.

بعيداً عن صخب الدعاية الحربية وبلاغة التبريرات الدبلوماسية لشن حرب كهذه؛ يُفترض في من يرغب في العودة إلى المربع الأول؛ أن يطرح السؤال الجوهري؛ لماذا العراق، العراق بالتحديد؟

لماذا يتحول بلد عربي، شرق أوسطي، إلى مصدر لإثارة المتاعب للولايات المتحدة وحلفائها على هذا النحو، أو إلى مدخل للتغيير الاستراتيجي في موازين القوى الإقليمية والدولية؛ بالشكل الذي يؤدي إلى الشقاق والفراق في المعسكر الغربي ذاته اليوم؟

واضحٌ أنّ خلفيات استهداف العراق، والعراق بالتحديد؛ لا بد وأن تكون على درجة عالية من الأهمية، التي تكافئ على الأقل ذلك الصخب الدولي حول هذا البلد وحكمه. أما السبيل الميسرة للتعرف على هذه الخلفيات فهي اللجوء إلى فهم العراق ذاته وما ينطوي عليه من خصائص، دون التوقف كثيراً على خطابات الساسة وتصريحات المسئولين.

إذ ينتمي العراق إلى العالم العربي والإسلامي، وهو بهذا يقع في منطقة حرجة بالنسبة للسياسات الغربية، والأمريكية بشكل خاص. فالعرب والمسلمون يعتبرون في الأصل أنهم يعيشون "عصر الانحطاط"، وأنّ عليهم استعادة مكانة مؤثرة في هذا العالم، بدلاً من البقاء في إسار التبعية للقوى العالمية الكبرى وفي الهامش. وإذا كان الضمير العربي الإسلامي ليس راضياً عن التخلف الراهن الذي تعيشه الأمة، فإنه يتطلع إلى "مجد جديد" يتوق إليه.

يبدو هذا البعد مهماً للغاية في الحالة العراقية، فبلاد الرافدين لم تكن مهداً لحضارات إنسانية موغلة في القدم وحسب؛ وإنما مركزاً للعروبة والإسلام أيضاً، وعاصمة للخلافة العباسية الزاهرة زيادة على ذلك كله.

ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة لقراءة الأزمة العالمية الراهنة حول العراق؟ إنه يعني على الأقل أنّ البعد غير المحسوس، القادر على تحريك الكثير من العوامل وإذكاء غيره من الأبعاد؛ حاضر بقوة في الحالة العراقية.

فالعراق بقي نموذجاً لدولة تنتمي إلى العالم الثالث، الذي يوصف بالتخلف، لكنه يحاول جاهداً الانعتاق من هذا الوصف ومزاحمة "اللاعبين الكبار" بتعبير الرئيس العراقي صدام حسين. بالمقابل؛ ثمة نظرية تقول أنّ "تخلف" الجنوب كان لازمة لتقدم "الشمال"، وأنّ اختلال الجانب الأول من المعادلة بتقدم "الجنوب" مثلاً؛ من شأنه أن يعود بأضرار بالغة على "الشمال" وما يتمتع به من تقدم وامتيازات. هذه الفرضية منبوذة بكل تأكيد؛ لكنّ ذلك لا يعني أنها بعيدة عن رؤوس راسمي الاستراتيجيا في "الشمال". وهؤلاء بالتحديد لم يكونوا راضين عن نمو الإمكانات العراقية منذ أواسط السبعينيات، خاصة في المجال العسكري والتسلحي.

إنّ ما ينطوي عليه العراق من إمكانات تجعله يتميز عربياً باستجماعه عوامل أساسية لقيام دولة قوية معتمدة على الذات. فثمة ثروة بشرية تضم علماء وكفاءات، دون أن يخفى السعي العراقي لاستقطاب الأدمغة من الغرب منذ عام 1975، الأمر الذي يفسر الحرص الأمريكي على ملاحقة العلماء العراقيين ومحاولة استدراجهم إلى خارج البلاد بطرق عدة، منها الاستجواب "على أرض محايدة" في نطاق عمليات التفتيش.

وللعراق أراض ممتدة، ما يعني مساحة واسعة للفعل والحراك، وهو يرقد زيادة على ذلك فوق خزان نفطي كبير ينطوي أكبر احتياطي في العالم من الذهب الأسود بعد المملكة العربية السعودية.

ومع استجماعها للعامل البشري والقدرات الاقتصادية؛ فإنّ بلاد الرافدين لا تفتقر أيضاً إلى الموارد المائية، رغم تدهورها في السنوات الأخيرة، فضلاً عن مواردها الزراعية القابلة للتنمية حال توافر الإمكانات اللازمة، وما يعزز ذلك البنية التحتية للبلاد التي كانت تتسم بالكفاءة، والقابلة للتطوير المستمر.

وبالمقارنة يتضح أنّ العراق يتميز عربياً بهذه الخصوصيات كافة، التي لا تكاد تجتمع معاً في قطر شقيق واحد، وهو ما يؤهله لأن يشغل دوراً مكافئاً لهذه المزايا على المستويين الإقليمي والدولي.

ولا شك أيضاً أنّ جانباً من الخصوصية العراقية يتأتى من الاعتقاد المتأصل بأنه يشكل "خطراً" على الدولة العبرية. فهو لا يبدو بعيداً عن دائرة الطوق التي يُفترض أنها قد تحكم الخناق على المشروع الإسرائيلي في ظرف ما. كما أنّ بغداد احتفظت لنفسها باستثناء مهم في المنطقة؛ يتمثل في عدم التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار مع الإسرائيليين في نهاية حرب فلسطين 1948، ما يعني تلقائياً أنّ العراق ما زال، على الورق على الأقل، في حالة مواجهة مع الدولة العبرية.

ولا شك أنّ الصواريخ العراقية التي انهمرت في عام 1991 على مناطق متفرقة من فلسطين المحتلة، بما في ذلك تل أبيب ذاتها، أعادت الهواجس المتعلقة بـ "الخطر العراقي" إلى نفوس الإسرائيليين، وغيرهم من الحريصين على مصيرهم، بغض النظر عن ما يمكن أن يُقال عن فعالية هذه الصواريخ والمكاسب الفعلية الناجمة عن تسديدها صوب أهداف إسرائيلية.

وإلى جانب حالة الحرب، القائمة على الورق، بين بغداد وتل أبيب؛ جرت احتكاكات مباشرة بين الجانبين، لم تتمثل في حالة الصواريخ المنهمرة فوق تل أبيب سنة 1991 وحسب؛ وإنما في قصف مفاعل تموز النووي العراقي قبل ذلك بعشر سنوات أيضاً. وبالطبع؛ كانت هذه التطورات وغيرها مؤهلة تماماً لتسخين الدوافع الانتقامية المتبادلة وتأجيج الموقف بين الحين والآخر.

وعندما يتربع على حكم هذا البلد نظام ذو أيديولوجية ترفض التسوية السياسية مع الدولة العبرية، بل ويتحدث رئيسه بلهجة تهديدية عن استعداده لـ "إحراق نصف إسرائيل"، كما ذكر في ربيع 1990؛ فإنّ المخاوف الكامنة منه إسرائيلياً، وغربياً أيضاً، تبدو مفهومة.

يزيد من جدية هذه المخاوف ما عليه الواقع العراقي من عسكرة متزايدة خلال ربع القرن الأخير. وهذه العسكرة ليست فعالة على خلفية تنامي الكفاءة الميدانية والخبرات العملية جراء الحروب وحسب؛ وإنما نظراً لما ينبثق عنها من روح صدامية حبلى بالمفاجآت أيضاً.

كان يكفي مثلاً أن يتحدث الرئيس العراقي صدام حسين في 16 تموز 1990 عن إمكانية اللجوء إلى "فعل مؤثر يعيد الأمور إلى نصابها"، لتجتاح قواته الجرارة الأراضي الكويتية، فتحتلها بالكامل في تسع ساعات بعد أسبوعين مباشرة، إثر تفاقم الأزمة مع الجارة العربية الجنوبية. والمؤكد أنّ حادثة الاجتياح إياها، التي تركت بصماتها العميقة على الواقع العربي المهترئ؛ تقول الكثير عن صعوبة تقدير المفاجآت العراقية، خاصة في منعطفات الحسم.

وإذا كانت الخصوصيات العراقية تتمثل في ما يتميز به العراق من جوانب قوة؛ فإنّ عوامل الضعف تضاف إلى ذلك أيضاً. فما ينطوي عليه العراق من نقاط ضعف يمكنها أن تمثل خلفيات مشجعة على استهدافه أيضاً.

فعلاقات العراق بجيرانه غير مستقرة، وسريعة التقلب، فضلاً عن كونها عرفت تطورات هي الأسوأ على الإطلاق. فثمة حروب على الحدود مع إيران والكويت، وثمة توغلات تركية عبر الحدود الشمالية للعراق، أما العلاقة مع سورية، الشقيقة الأيديولوجية للحزب الحاكم في العراق، فنادراً ما عرفت الصفاء، بينما بقيت العلاقة مع الأردن ودِّية في الغالب دون أن تعرف الاستقرار.

هذا المناخ الملتهب جعل استهداف العراق عبر جيرانه مصيدة سهلة له، وكان يكفي العراق ثماني سنوات من الغرق في المستنقع الأهوازي، عبر حرب ضارية مع إيران. ولكن في الحالة العراقية الكويتية كان الاستنزاف خطيراً، وخطيراً جداً، سواء أثناء حرب الخليج الثانية أو طوال العقد اللاحق لها.

أما الحدود التركية التي يفترض أنّها متنفس اقتصادي للعراق؛ فكانت تتحول سريعاً إلى جبهة عسكرية؛ سواء تعلق الأمر بنشاطات القوات الأمريكية وحلفياتها في ديار بكر، أو بتوغلات الجيش التركي في الشمال العراقي لملاحقة فلول حزب العمال الكردستاني، أو حتى بدوافع تتجاوز المعلن إلى ما هو مبطن؛ كالتطلعات التركية في الموصل وكركوك وغيرها.

وأدت الأزمات الملتهبة مع الجوار إلى وضع البلاد في حالة من العزلة، سمحت بإضعاف مكانته الإقليمية والعربية والدولية عما كان يُنتظر لها، ما أدى إلى استهدافه بالحرب والحصار والإجراءات العقابية دون كثير صخب.

وإذا كانت الحدود الخارجية للعراق على هذا النحو الذي لا يمكن أن يسمح بتسريب الطمأنينة إلى صدر صانع القرار العراقي؛ فإنّ الجبهة الداخلية هي دافع آخر للأرق.

فالعراق ينطوي على تعددية قومية (العرب والأكراد أساساً)، وتنوع مذهبي (السنة والشيعة أساساً)، وتوزعات مناطقية وقبلية لها خصوصياتها. وإذا كانت هذه الفسيفساء مصدر إثراء في الأصل للهوية العراقية الجامعة؛ فإنها يمكن أن تنشئ نقاط توتر في حال نزع صمام الأمان الاجتماعي والسياسي وتدخل القوى الإقليمية و"اللاعبين الكبار" في الخارطة الداخلية.

وما يفاقم الأمر؛ هذا الواقع السياسي العراقي المحكوم بالحزب الواحد الممسك بكل الخيوط في الداخل، وقائمة مطولة من القوى السياسية المتشرذمة التي تنشط انطلاقاً من الجوار الإقليمي والعواصم الغربية. بهذا تكون المحصلة ضعضعة للواقع السياسي العراقي ككل، إلى الدرجة التي جعلت الحديث عن معارضة "وطنية"، وأخرى "أمريكية"؛ أمراً مألوفاً، بينما يميل المزاج العام للتمزق بدل الالتئام، حتى في المعسكرات المحسوبة على "الوطنيين" و"الأمريكيين"، أو حتى على الذين يستمدون مشروعيتهم من الطائفة أو القومية ذاتها.

وبغض النظر عن عوامل الضعف الذاتية والموضوعية لهذا البلد العربي؛ فإنّ الاستنتاج يبدو سهلاً بأنّ استهداف العراق بلعبة الحرب لا يتأتى من فراغ، وإنما ينبع من إدراك عميق للإمكانات الافتراضية لهذا البلد، الذي يمثل حجر زاوية كبير في العمق العربي، ومن الواضح أنّ شن حرب أمريكية جديدة ضده، تحت أي لافتة كانت؛ ستلحق أضراراً يصعب تقديرها، ولكن ليس بالعراق وحده على كل حال.

_________
فيينا - خدمة قدس برس

التعليقات