اقتصاد اليونان ... على شفير الهاوية؟

انتهى الاستفتاء الذي جاء تتويجًا لخمسة أعوام من المفاوضات، وجاءت النتيجة المتوقعّة سلفًا، اليونانيون قالوا لا، لخطة الإنقاذ الأوروبيّة، فماذا بعد؟

اقتصاد اليونان ... على شفير الهاوية؟

انتهى الاستفتاء الذي جاء تتويجًا لخمسة أعوام من المفاوضات، وجاءت النتيجة المتوقعّة سلفًا، اليونانيون قالوا لا، لخطة الإنقاذ الأوروبيّة، فماذا بعد؟

الكثير من التوقعات السلبيّة أثّرت على الرأي العام العالمي خلال الفترة القليلة الماضية، بدأت بتوقّع اعلان إفلاس اليونان، والأزمة المالية التي توشك على الوصول إلى إيطاليا وإسبانيا بعد اليونان؛ كل هذه التوقّعات السلبيّة والتحذيرات يبدو أنها بدأت بالحدوث بالفعل؛ فقد أخلّت اليونان بموعد سداد أحد الاستحقاقات لصالح صندوق النقد الدولي، ما دعا الحكومة لاتخاذ قرار بإغلاق البنوك لمدّة أسبوع.

كيف وصلت اليونان إلى هذه المرحلة، من تخبّط واحتمال كبير بمغادرة 'نادي الأغنياء الدولي' أي منطقة اليورو، وكيف سيؤثر ذلك على الاقتصاد الأوروبيّ والعالمي هو السؤال البارز، لا هل سيؤثر ترك اليونان لليورو على المنطقة أم لا. أمّا الإجابة المفصّلة فسننقلها لكم على سبعة محاور:

أولًا: ما هو وضع اليونان الآن؟

مساء الأحد بتوقيت اليونان، حسم اليونانيّون أمرهم، بنسبة مشاركة قاربت الـتسعين بالمائة، رفض 61% من اليونانيّين حزمة التقشّف التي أصرّ القادة الأوروبيّون أن على اليونان تنفيذها مقابلَ استمرار المساعدات الماليّة.

وكان نص التساؤل الذي ورد في الاستفتاء كالتالي:

'هل ترى أنه يجب قبول العرض المقدّم من قبل المفوضيّة الأوروبيّة والبنك المركزي الأوروبيّ وصندوق النقد الدولي في مجموعة اليورو بتاريخ الخامس والعشرين من حزيران/يونيو 2015 والذي يتألف من جزأين يشكّلان معًا اقتراحًا شاملًا؟ أما الوثيقة الأولى فجاءت تحت عنوان 'الإصلاحات اللازمة لاستكمال البرنامج الحالي وما بعده'؛ أما الوثيقة الثانية فحملت عنوان 'تحليل أولي للديون المستدامة'.

جوهر الخلاف بين وجهات النظر الأوروبيّة واليونانيون يتمحور حول آلية التقشّف، لا حول التقشّف نفسه، فتقترح الحكومة اليونانيّة زيادة الضرائب على السكّان، بينما يريد الاتحاد الأوروبيّ خفض الإنفاق في المجال الاجتماعي.

على وقع مفاوضات شقّ الأنفس التي جرت بين اليونان والاتحاد الأوروبيّ، جرت انتخابات برلمانيّة مطلع العام الجاري أفرزت فوزًا كبيرًا لحزب سيريزا اليساري بأغلبيّة 149 عضوًا من أصل 300 عضو، ما مكّنه بالتحالف مع حزب صغير تشكيلَ حكومة يسار برئاسة اليساريّ الكسيس تسيبراس، الذي بنى حملته الانتخابيّة على مناوأة المساعدات المقدّمة من الاتحاد الأوروبيّ، متحديًا أوروبا التي ظنّت أن اليونانيّين سيتشبثوا بحلم الاتحاد الأوروبي طويلًا.

اختارت اليونان الرفض، وها هي يد تسيبراس هي اليد الطولى في المفاوضات اليونانيّة مع الدائنين الأوروبيّين الغاضبين، لكن عليه ألا يهملَ أن على عاتقه مهمات جسامًا أقلها العبور بالبلاد من أزمتين ماليّة قاسيّة وبشريّة مؤلمة نحو بر الأمان.

ثانيًا: ما هي الخطوة التالية إذًا؟

لو أن الأمة اليونانيّة البالغ تعدادها قرابة الـ11 مليون نسمة اختارت 'نعم' في الاستفتاء أمس، لكانت البلاد على الأرجح ستجنح نحو انتخابات تشريعيّةٍ جديدة، ذلك أن الاتحاد الأوروبيّ لا يثق بتسيبراس شريكًا في تنفيذ خطّة التقشّف، عندها كانت المفاوضات ستستمر كما كانت من قبل.

ردود الفعل الأهم التي ينتظرها تسيبراس، الثائر في وجه الأوروبيّين، هي القادمة من وراء البحار، من بورصات دول آسيا، التي ستفتح أبوابها في وقت متأخّر ظهر اليوم، في ليلة يُراد لها أن تكون غائمة.

نشوة انتصار الأحد، قد تذهبها أزمات يوم الإثنين، حيث سيجد تسيبراس نفسه أمام رفض أوروبيّ متوقعٍ لإقراض اليونان أية بنس تقريبًا، ما يعني افتقار البنوك للأموال الضروريّة للعمل؛ في ظلِّ عدم مقدرة اليونان على طباعة أي ورقة من أوراق اليورو، لأنها ببساطة، لا تملك صلاحيةً لذلك؛ ما يضع الكرة من جديد في ملعب الاتحاد الأوروبي الذي يجتمع قادته باجتماعات حثيثة على مستوى القارّة، فأنجيلا ميركل، ستصل اليوم الإثنين باريس للقاء الرئيس الفرنسي، في حين من المقرّر أن تبدأ القمة الأوروبيّة أعمالها يوم غدٍ الثلاثاء، حيث سيحاول الأوروبيّون وتسبيراس إمساك العصا من الوسط، عدم مغادرة الاتحاد الأوروبيّ مقابل رفض المزيد من التشقّف على حساب الإنفاق الاجتماعي.

للبنك المركزي الأوروبيّ قرارات تختلف عن تلك التي يتخذها قادة أوروبّا، فماذا لو تمسّك البنك بقراره عدم إعطاء البنوك في اليونان أموالًا تسدّ حاجته؟ عندها، سيكون اليونانيّون أمام طريقين لا ثالث لهما، الحصول على المال من المودعين أو، القيام بطباعتها. أما الخيار الأول فيوصف في أوساط أهل المال والاقتصاد بـ 'خطّة الإنقاذ من الداخل' وهو ما النهج الذي سارت عليه قبرص حين توقّف البنك الدولي عن دعم بنوكها ماليًا.

أما الخيار الثاني، وهو طباعة العملة، فللأسف ليست لليونان عملة تطبعها، فاليونان تتعامل باليورو وفقط به، ولا يمكنها طباعته أبدًا، الا إذا قرّرت التخلي عن اليورو والعودة لعملتها القديمة، 'الدراخما'؛ خياران أحلاهما مرّ، لكن الخيار الأخير هو الأسهل بالطبع، خصوصًا إذا تم تخفيض قيمة العملة حيث سيشكّل ذلك ضررًا أقل على الاقتصاد في المدى البعيد.

التوقعات في البنوك الكبرى تشير إنه في حال صوّت اليونانيّون بـ 'لا'، وهو ما حدث بالفعل، فإن احتمال تركهم عملة اليورو هو 85%.

فكيف سيتمّ التحوّل من اليورو إلى الدراخما؟ الجواب هو عن طريق سن تشريعات تضمن تحول كل الأصول الماليّة في وجميع العقود التجاريّة واتفاقات الأجور من اليورو إلى الدراخما وفقًا للقاعدة: 1 دراخما مساوٍ في قيمته ليورو واحد، وسوف تحتاج البنوك إلى الاغلاق بضعة أيام بعدها حتّى تتمكن من إعادة برمجة أنظمتها، وسيضمن التشريع أيضًا ملاحظات بشأن إدخال أوراق الدراخما وقطعها النقديّة بعد تصميمها وطباعتها من جديد، وفق مدّة لا يتجاوز أقصاها الستّة أشهر.

ثالثًا: ما الذي أدّى باليونان إلى هذه النقطة؟

الأزمة في اليونان ليست وليدة اللحظة، هي قصّة طويلة، تمتد إلى بدايات تشكيل منطقة اليورو، تلاها خمس سنوات من المفاوضات التي فشلت لوقف الأزمة المتفاقمة يومًا بعد يوم، تبرز إذا ما أجرينا مقارنة بين اليونان وألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأوروبي الأكبر والأهم، ومن أبرز هذه الاختلافات الصارخة:

أولًا: بيان الضرائب غير المحصّلة، إذ أن 2.3% من دافعي الضرائب في ألمانيا وفّوا بالتزاماتهم تجاه الدولة الألمانيّة؛ في حين يعتبر الأمر تحدّيًا كبيرًا في دولة اليونان، إذ تُظهر الدراسة أن 89.5% من اليونانييّن لم يلتزموا بدفع الضرائب للدولة.

ثانيًا: البطالة، معدّلات البطالة في اليونان هي الأسوأ عالميًا، أسوأ من معدّلات البطالة في الولايات المتّحدة أيام الكساد الكبير، وتتفاقم البطالة في قطاع العاملين من الشباب، فوفقًا لتقديرات، فإن واحدًا من شابيّن في اليونان يعاني من مشكلة البطالة، وهي من المشاكل بعيدة المدى، والتي يتطلّب حلها جهودًا مضنية.

رابعًا: ما مدى سوء الأوضاع في اليونان؟

باختصار، الوضع سيّء جدًا، فوفقًا لتغريدة تابعة للبنك الملكي الأسكتلندي، فإن اليونان تعاني واحدًا من أسوأ التراجعات الاقتصاديّة في التاريخ الحديث، خصوصًا وأنها غير مرتبطة بحالة حرب.

خامسًا: هل سيكون ترك اليونان لليورو كارثيًا؟

من الصعب التنبؤ  بما سيجلبه المستقبل وراء المزيد من الكساد. لكن هناك فرضية محتملة أن يكون ترك اليونان لمنطقة اليورو  أمرا جيدا بالنسبة إليها، إذا لم يكن كذلك فإن هناك فرضية أقوى أن انضمامها لمنطقة اليورو كان شيئا سيئا من الأساس.

سادسًا: لماذا هذا الاهتمام باليونان رغم صغر اقتصادها؟

بالنظر إلى ما يمّثله اقتصاد اليونان من نسبة صغيرة في اقتصادات الاتحاد الأوروبي لا تتجاوز في أقصاها الـ2%، لكنها مثال واضح على إمكانيّة الأمور الصغيرة صنع الفوارق الكبيرة، والأهم هو معرفة كيف وصلت اليونان لشفير الهاوية هذا.

عندما اقترضت اليونان بشكل كبير، فإن صندوق النقد الدولي أوصاها بأن تتم جدولة ديونها وموازنة ميزانيّاتها وتخفيض قيمة عملتها، فطبعًا غير مجدٍ أبدًا مطالبة الدول المدينة بسداد أكثر من ما تستطيع، لكن بالطبع على صندوق النقد الدولي مساعدتها في كيفيّة تحقيق استقلالها المالي، بدلًا من الاقتراضات المتتالية التي قد تفقدها استقلالها السياسي فيما بعد.

تكمن المفارقات في سداد الديون، هو كون الدول المدينة مطالبة برفع الضرائب وتقليص النفقات، وهما بالطبع يضرّان بالاقتصاد، فإنها في ذات الوقت مطالبة بنمو اقتصادي، وإن تم غير ذلك، فإن تقلّصًا محتملًا للدخل القومي قد يجعل من الصعب بمكان تسديد الديون حتّى ولو كانت قليلة جدًا.

من هنا جاءت الأسباب التي دفعت صندوق النقد الدولي لوصف جرعةٍ كبيرة من التحفيز النقدي، أي تخفيض قيمة العملة المحليّة، للتعويض عن الضرر الاقتصادي الناجم عن التقشف المالي.

لكن، لماذا لم يساهم ذلك في دعم اقتصاد اليونان؟ لأن هذا بالضبط ما لم يحصل في اليونان، حيث تمّت ممارسة التقشّف لفترات طويلةٍ جدًا، وبنظام صارم، لكنّها في المقابل لم تخفّض قيمة العملة المحليّة أبدًا لتخفيف عبء الديون؛ وهذه هي الخطيئة الأهم في خطط الإنقاذ الأوروبيّة.

عندما تتخلّف اليونان عن سداد أموالها، فإن البنوك الأوروبيّة (الألمانيّة بالأساس) التي أقرضتها ستشهر إفلاسها وعدم مقدرتها على دفع مستحقّات العمال والعملاء في البلاد، ما يعني تصديرًا لأزمة اليونان أوروبيًا، ومن هنا ينبع الاهتمام باليونان واقتصادها.

سابعًا: ما الذي يعنيه الأمر للاقتصاد العالمي؟

'جدار الحماية الأوروبي' ذلك الذي يمنع تصدير أزمات أوروبا إلى آسيا وأميركا يبدو أنه يعمل بشكل جيّد حاليًا، فالأزمة اليونانيّة ستنعكس بالتأكيد على الاقتصاد الأوروبي، لكنّها لن تؤثر بشكل كبير على اقتصاد العالم، لكن التنبؤات تشير إلى ما يلي، في حال انسحاب اليونان من منطقة اليورو:

يونانيًا: سوف تعاني الدراخما من انخفاض كبير، ترتفع معه معدّلات التضخم نحو عدد مكّون من منزلتين، تنبع معه الحاجة لتحصيص الواردات من النفط والمواد الغذائيّة، ستكون اليونان على مقدرة لتجاوز الأزمة بعد عامين لأن قطاع السياحة اليوناني ما زال يشكّل عامل جذب كبيرًا في البلاد.

أوروبيًا: ستخسر أوروبا أموالًا تقدّر بمئات المليارات، ليست المشكلة في 240 مليار يورو حصلت عليها اليونان فحسب، بل في 89 مليار دولار حصلت عليها البنوك اليونانيّة على شكل قروض من البنك المركزي الأوروبيّ.

الخطر الداهم الأهم، هو انتقال العدوى من اليونان إلى إيطاليا، إسبانيا فالبرتغال، لكّن البنك المركزي الأوروبي قام بشراء سندات بالفعل من تلك الدول لتلافي أزمةٍ كتلك التي تضرب اليونان.

وإن أهم ما يداهم الاتحاد الأوروبي من أخطار، هو أن تبلي اليونان بلاءً حسنًا خارج الاتحاد الأوروبي، ما سيشجّع الدول الضعيفة داخل الاتحاد على ترك الاتحاد الأم، وتشكيل اتحادات أكثر شبابًا وحيويّة وتكيّفًا مع الاقتصادات متوسطّة الحجم.

التعليقات