زولتان براني في مؤتمر "الجيش والسياسة": القواعد التي تجعل الجيش ديمقراطيًا

تطرق الدكتور زولتان براني في الشطر الثاني من محاضرته إلى الجيوش في الشرق الأوسط وفي البلدان العربية خصوصًا، وأسهب في الحديث عن الحالة التونسية التي شكّلت إحدى محاور دراسته للجيوش عبر العالم.

زولتان براني في مؤتمر "الجيش والسياسة": القواعد التي تجعل الجيش ديمقراطيًا

ألقى الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس زولتان براني، في بداية أعمال اليوم الثاني من مؤتمر 'الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي'، أمس الأحد، محاضرةً عن الجيش والديمقراطية، حدد فيها المبادئ الرئيسة التي تمنح أيّ جيش صفة 'الديمقراطي'، على الرغم من أنّ هذه الصفة لا تتفق تمامًا مع طبيعة تنظيم الجيوش داخليًا.

وقال براني إنّ الجيش هو المؤسسة الأقل ديمقراطيةً، من بين مؤسسات الدولة جميعها، بسبب طبيعته والقواعد التي تسيّره، إذ تحكمه التراتبية والأوامر، ولا مجال فيه لتطبيق آليات الديمقراطية. بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك، مؤكدًا أنّ الجيش هو مؤسسة الدولة الوحيدة القادرة على تدمير الدولة. ولكنه يوضح أنّ هناك مبادئ تمنح الجيش صفة 'الديمقراطي' عند إقرارها وتطبيقها. ويُعرّف الجيوش الديمقراطية بأنها الجيوش التي تَقبل الحكم الديمقراطي وتسانده وتحميه.

وأول المبادئ التي تؤسس الجيوش الديمقراطية هو خضوع الجيش لسلطة مدنية، ولكن براني يرى أنّ هذا المبدأ ليس كافيًا، وأنّ في التاريخ العديد من الأمثلة المتعلّقة بتحكّم مدنيين في الجيوش، من دون أن تتحقق الديمقراطية. فقد كان ستالين متحكمًا في الجيش الأحمر، لكن الاتحاد السوفياتي كان أبعد ما يكون عن الديمقراطية خلال فترة حكمه. وبناءً عليه، يرى المحاضر ضرورة أن يكون تحكّم المدنيين في الجيش عبر تقاسم بين السلطة التنفيذية. فيكون الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، والسلطة التشريعية؛ بأن يؤدّي البرلمان دورًا في الرقابة والتشريع فيما يتعلق بأدوار الجيش وموازنته. ولذلك تعتمد الأنظمة الديمقراطية وجود لجنة للدفاع، من بين اللجان البرلمانية، تتكفل بمناقشة الحكومة والجيش ومساءلتهما بشأن كل القضايا المتعلقة بالمؤسسة العسكرية. ويُفضل أنّ تضمّ بعض الأعضاء من ذوي الخلفية العسكرية، وتستعين بالمستشارين والخبراء في المجال العسكري. ويشدد براني على ضرورة شفافية موازنات الدفاع إلى أقصى حدّ ممكن باستثناء بعض المصاريف التي تقتضي البقاء في سرية.

أمّا المبدأ الثاني، فهو أن تُحدد الدساتير والقوانين تنظيم الجيوش والرتب والقيادات، وآليات الرقابة والمحاسبة والجهات التي تقوم بها، مثلما يجب أن تُحدد مهمّات الجيوش بدقة، خصوصًا ما تعلق منها بالتدخل داخليًا. فالعديد من الدول تمنع في دساتيرها وقوانينها أيّ تدخل للجيش، ماعدا تقديم المساعدة في حالات الكوارث.

والمبدأ الثالث هو عدم السماح للجيش بأيّ تدخل في السياسة. وتذهب بعض الأنظمة الديمقراطية في تطبيق هذا المبدأ إلى منع العسكريين حتى من المشاركة في التصويت في الانتخابات.

وفي السياق نفسه أيضًا، يرى براني أنّ الجيوش الديمقراطية تلتزم مبدأ عدم التدخل في النشاط الاقتصادي. فلا يكون للجيش مؤسسات اقتصادية، كما يُمنع أفراده من امتلاك الشركات أو القيام بأنشطة اقتصادية أثناء الخدمة.

ويؤكد المحاضر أهمية وجود مستشارين وخبراء عسكريين مستقلين تستفيد من خبراتهم الحكومة والهيئات الرقابية والتشريعية، وكذا وسائل الإعلام، على نحو يمنح الرأي العامّ أدوات استيعاب وتقييم عمل الجيوش والمؤسسة العسكرية.

الاستثناء التونسي

تطرق الدكتور زولتان براني في الشطر الثاني من محاضرته إلى الجيوش في الشرق الأوسط وفي البلدان العربية خصوصًا، وأسهب في الحديث عن الحالة التونسية التي شكّلت إحدى محاور دراسته للجيوش عبر العالم. ويرى أنّ تونس تمثل حاليًا قصة النجاح الوحيدة للتحول الديمقراطي الذي أطلقته الثورات العربية. ويقول إنّ الحالة التونسية تتحدى النظرية التي وضعها صمويل هنتنغتون حول الحدّ الأدنى للناتج المحلي لدولة ما حتى تنجح فيها الديمقراطية؛ ذلك أنّه وضع، من خلال دراسته للدول الديمقراطية والدول التي فشل فيها التحول الديمقراطي، حدًّا أدنى للناتج المحلي الخام كي ينجح التحول. غير أنّ تونس تحقق تحولًا ناجحًا، على الرغم من أنّ ناتجها المحلي أدنى من الحد الذي وضعه هنتنغتون.

كما يؤكد 'الاستثناء التونسي' في المجال العربي، مشيرًا، على نحو خاصّ، إلى أنّ الجيش التونسي ظل الوحيد تقريبًا البعيد عن السياسة، وأنّه يُحسب للحبيب بورقيبة منْع الضباط وأفراد القوات المسلحة من الانخراط في الحزب. يُضاف إلى ذلك أنّ تونس هي الدولة الوحيدة من بين الدول العربية التي لم تحدث فيها أيّ محاولة انقلابية من الجيش.

ويرى براني أنّ التحول الديمقراطي في تونس تواجهه تحديات عديدة ليس من بينها تحدي 'دمقرطة' الجيش، على عكس العديد من الدول العربية.

الجيش والتحول الديمقراطي: حالات عربية

بعد المحاضرة العامة، جرت أعمال اليوم الثاني من مؤتمر 'الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي' الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مدى ثلاثة أيام، على مسارين مزدوجين في الآن نفسه، فقدمت أوراق بحثية متنوعة في ستّ جلسات جرت كل اثنتين منها بالتزامن في قاعتين منفصلتين، وشملت الجلسة الأولى موضوعي: 'الجيش والقوى غير النظامية'، و'الجيش والسلطة في حالات الجزائر وسورية والسودان'.

Tي مداخلته بعنوان 'الجيش والسلطة والدولة في الجزائر: من الأيديولوجيا الشعبوية إلى الدولة النيوباترمونيالية'، قال الباحث نوري دريس إنّ الجيش الجزائري هو مركز القرار والسلطة في النظام الجزائري، حتى إنْ لم يأخذ شكل الديكتاتورية العسكرية. ويرجع ذلك لأسباب تاريخية متعلّقة بالأوضاع التي نشأت فيها الدولة الوطنية الجزائرية، بعد حرب تحرير خاضها جيش التحرير الذي أصبح نواة الجيش الدولة. ثمّ إنّ الجيش استطاع أن يحتكر السلطة، ويتحكم في طريقة توزيعها والأدوات التي تعيد إنتاجها، سواء كان ذلك خلال مرحلة الأحادية الحزبية (1962 - 1989)، أو بعدها. واستخدم الباحث مفهومي 'الشعبوية' و'النيوباترمونيالية' لرسم المسار الذي أخذته السلطة في الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، لافتًا النظر إلى أنّ 'الشعبوية' وسَمت الفترة الأولى لما بعد الاستقلال إلى حدّ انقلاب هواري بومدين عام 1965، وبعدها صبغت كاريزما بومدين وسلطته النظامَ الجزائري بصفة النيوباترمونيالية، وبعد وفاته أصبحت عصبة من قيادات الجيش مَركزًا للسلطة وجرت مواصلة السمة النيوباترمونيالية.

وفي مداخلة بعنوان 'الجيش والسلطة والانتقال الديمقراطي المتعثر في الجزائر'، قال باحث دكتوراه بجامعة الجزائر 3 عادل أورابح، إنّ الجيش الجزائري على غرار معظم الجيوش العربية، يؤدّي دورًا مركزيًا في صناعة القرار السياسي بالنظر إلى تكوينه السابق للدولة؛ وذلك لأسباب تاريخية وهيكلية راجعة، أساسًا، إلى النضال التحرري الذي قاده جيش التحرير والشرعية التاريخية التي نالها بعد الاستقلال، وإنّ هذه اللحظة التأسيسية تُعَدّ محوريةً لفهم تطور المؤسسة العسكرية وسلوكها التحكمي.

ولفت الانتباه إلى أنّ 'تضخّم دور الجيش، واضطلاعه بمهمّات بناء الدولة الحديثة ومراقبة المجتمع، من العوامل التي زادته تسييسًا؛ فزادت بذلك حدّة الصراع بين العسكري والمدني. فلطالما مثّلت أولوية العسكري على السياسي قاعدةً الحكم المركزية في الجزائر؛ إذ يتحكم الجيش في السلطة الفعلية بوصفه المحتكر للشرعية، ويفوّض بعض المهمّات البيروقراطية إلى المدنيين. وتجلّت هذه القاعدة، أساسًا، عند تسيير المؤسسة العسكرية للمرحلة الانتقالية في التسعينيات'.

وقدّم نيروز ساتيك، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مداخلةً بعنوان 'تموضع الجيش في السلطة في سورية (2000 – 2011)'. وأوضح أنّ الجيش السوري تشكّل في الزمن الاستعماري للمنطقة العربية، ولم تفلح الدولة الوطنية في تحريره من الأفكار الكولونيالية نسبيًا. ولفت النظر إلى أنّ 'الجيش أمسك بالسلطة في سورية، وأعاد ترسيخ الرؤى الاستعمارية للمجتمع السوري. لكنّه اندمج على نحوٍ متتابع في السياسات النيوليبرالية، وازدادت السلطة في سورية انتشارًا وأصبح من الصعب الإمساك بها، حتى وصلت إلى مؤسسات الجيش ذاته. فانقسم الضباط ما بين ضباط سلطويين فاعلين وضباط رسميين مُراقبين في مؤسسة عسكرية مقيدة بالتقاليد الاستعمارية'.

وقد ناقشت الجلسة الثانية في مسارها الأول موضوع 'الجيش والقوى غير النظامية'، مركزةً على الحالة السودانية. أمّا المشاركون في المسار الثاني، فقد تطرّقوا إلى موضوع 'مشكلات العلاقة بين الجيش والانتقال الديمقراطي في بلدان المغرب العربي: تونس، وليبيا'. وتابعت الجلسة الثالثة دراسة الموضوع الثاني للجلسة الثانية، مع التركيز على الحالة الجزائرية، في حين تناول المسار الثاني موضوع 'مواقف المؤسسة العسكرية من الثورات العربية ومسائل إصلاحها'.

التعليقات