ينشر "عرب 48" مقالا مترجما لأستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية كينيدي في جامعة هارفارد، داني رودريك، وهو مؤلف كتاب "حديث صريح حول التجارة: أفكار من أجل اقتصاد عالمي عاقل"، في إطار التعاون مع بروجيكت سنديكيت.
تأتي الأزمات في هيئتين: تلك التي ما كنا لنستطيع الاستعداد لها، لأن لا أحد توقعها، وتلك التي كان ينبغي لنا أن نستعد لها، لأنها في حقيقة الأمر كانت متوقعة.
ينتمي مرض فيروس كورونا المستجد (COVID-19) إلى الفئة الأخيرة، مهما قال رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، لتجنب المسؤولية عن الكارثة التي تتوالى فصولها بسرعة الآن.
وحتى برغم أن فيروس كورونا في حد ذاته جديد، ولم يكن من الممكن التنبؤ بتوقيت الفاشية الحالية، فإن الخبراء كانوا يدركون تمام الإدراك أن حدوث جائحة من هذا النوع كان مرجحا.
الواقع أن متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (SARS)، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS)، وفيروس الإنفلونزا H1N1، وفيروس إيبولا، وغير ذلك من الفاشيات، زودتنا بالقدر الكافي من التحذيرات. قبل خمسة عشر عاما، قامت منظمة الصحة العالمية بتنقيح وتحديث الإطار العالمي للاستجابة للفاشيات المرضية، في محاولة لإصلاح أوجه القصور المتصورة في الاستجابة العالمية التي شهدناها خلال فاشية سارس في عام 2003.
وفي عام 2016، أطلق البنك الدولي مرفق تمويل الطوارئ لمواجهة الجائحات لتقديم المساعدة للدول المنخفضة الدخل في مواجهة الأزمات الصحية العابرة للحدود. وكان الحدث الأكثر وضوحا، قبل بضعة أشهر فقط من ظهور مرض فيروس كورونا نهاية العام 2019 في مدينة ووهان في الصين، تقرير صادر عن الحكومة الأميركية يحذر إدارة ترامب من احتمال تفشي جائحة الإنفلونزا على نطاق تلك التي حدثت قبل قرن من الزمن، والتي قتلت ما يقدر بنحو خمسين مليون إنسان في مختلف أنحاء العالم.
مثله كمثل تغير المناخ، كان مرض فيروس كورونا كارثة تُنتظر أن تقع. وكانت الاستجابة في الولايات المتحدة كارثية بشكل خاص. فقد دأب ترامب لأسابيع على الاستخفاف بالأزمة ومدى شدتها. وبحلول الوقت الذي بدأت فيه أعداد المصابين بالعدوى والخاضعين للعلاج في المستشفيات ترتفع إلى عنان السماء، اكتشفت أميركا أنها تعاني من نقص حاد في الفحوصات، والأقنعة، وأجهزة التنفس، وغير ذلك من الإمدادات الطبية.
لم تطلب الولايات المتحدة مجموعات الفحوصات التي أتاحتها منظمة الصحة العالمية، وتقاعست عن إنتاج مجموعات فحوصات جديرة بالثقة في وقت مبكر. ورفض ترامب استخدام سلطته لطلب الإمدادات الطبية من منتجين في القطاع الخاص، مما أجبر المستشفيات وسلطات الولايات على التدافع والتنافس في ما بينها لتأمين الإمدادات.
كان التأخير في إجراء الفحوصات وفرض عمليات الإغلاق مكلفا في أوروبا أيضا، حيث تدفع إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة ثمنا باهظا. وكانت استجابة بعض الدول في شرق آسيا أفضل كثيرا. ويبدو أن كوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ سيطرت على انتشار المرض من خلال الجمع بين إجراء الفحوصات على نطاق واسع، وتتبع المخالطين، وسياسات الحجر الصحي الصارمة.
ظهرت بعض التناقضات المثيرة للاهتمام داخل البلدان أيضا. ففي شمال إيطاليا، كان أداء مدينة فينيتو أفضل كثيرا من أداء لومبارديا القريبة، وهو ما يرجع إلى حد كبير إلى إجراء الفحوصات على نحو أكثر شمولا، فضلا عن فرض القيود على السفر في وقت أبكر.
وفي الولايات المتحدة، سجلت كل من ولاية كنتاكي وولاية تينيسي، وهما ولايتان متجاورتان، أول حالة إصابة بعدوى فيروس كورونا في غضون يوم واحد بين الاثنتين. وبحلول نهاية آذار/ مارس، كان عدد الحالات في كنتاكي ربع نظيره فقط في تينيسي، لأن الولاية تحركت بسرعة أكبر لإعلان حالة الطوارئ وإغلاق المرافق والأماكن العامة.
مع ذلك، توالت فصول الأزمة على نحو كان يمكن توقعه من الطبيعة الغالبة على الحكم في بلدان مختلفة. فلم يكن النهج العاجز المتخبط المضخم للذات الذي اتبعه ترامب في إدارة الأزمة مفاجئا، بقدر ما كان قاتلا. على نحو مماثل، دأب رئيس البرازيل المغرور الزئبقي بذات القدر، جائير بولسونارو، على التقليل من حجم المخاطر، كما كان متوقعا.
من ناحية أخرى، لا ينبغي أن يكون من المفاجئ أن تستجيب الحكومات بشكل أسرع وأكثر فعالية حيثما لا تزال تحظى بقدر كبير من ثقة مواطنيها، كما هي الحال في كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان.
كانت استجابة الصين صينية كالعادة: قمع المعلومات حول انتشار الفيروس، ودرجة عالية من السيطرة الاجتماعية، وتعبئة ضخمة للموارد بمجرد ما بات التهديد واضحا. أما تركمنستان فقد حظرت استخدام كلمة "فيروس كورونا"، وكذا استخدام الأقنعة في الأماكن العامة. وفي المجر استفاد فيكتور أوربان من الأزمة بإحكام قبضته على السلطة عن طريق حل البرلمان بعد أن منح نفسه سلطات الطوارئ إلى أجل غير مسمى.
يبدو أن الأزمة أبرزت بشدة الخصائص الغالبة على سياسة كل دولة. لقد أصبحت البلدان فعليا نسخا مضخمة من ذواتها. وباء على ذلك فقد يتبين لنا أن الأزمة لم تكن ذلك الخط الفاصل في السياسة والاقتصاد العالميين كما زعم كثيرون. فبدلا من وضع العالم على مسار مختلف إلى حد كبير، من المرجح أن تعمل على تكثيف وترسيخ الاتجاهات القائمة بالفعل.
إن الأحداث على مثل هذا القدر من خطورة الأزمة الحالية، تعمل على توليد قدر خاص من "انحياز التأكيد": فنحن نميل إلى رؤية كارثة مرض فيروس كورونا على أنها تأكيد على نظرتنا للعالم. وربما نستشف دلائل أولية على نشوء نظام اقتصادي وسياسي مستقبلي لطالما تمنيناه.
لذا، فإن أولئك الذين يريدون دورا أكبر للحكومة والمنافع العامة سيجدون وفرة من الأسباب للتفكير في الأزمة باعتبارها مبررا لاعتقادهم. أما أولئك الذين يتشككون في الحكومة وينددون بانعدام كفاءتها فسوف يجدون أيضا ما يؤكد أراءهم المسبقة. وسوف يسوق أولئك الذين يريدون حكومة عالمية أقوى الحجج للتدليل على أن نظام الصحة العامة الدولي كان ليتمكن من خفض تكاليف الجائحة. في حين سيشير أولئك الذين يسعون إلى إقامة دولة قومية أقوى، إلى الطرق العديدة التي أساءت بها منظمة الصحة العالمية إدارة استجابتها للأزمة (على سبيل المثال، عندما صدقت ادعاءات المسؤولين الصينيين، وعندما عارضت حظر السفر، وساقت الحجج ضد الجدوى من الأقنعة).
باختصار، قد لا تبدل جائحة كورونا الاتجاهات التي كانت واضحة قبل الأزمة - ناهيك عن عكسها. فسوف يستمر احتضار النيوليبرالية البطيء. وسوف يصبح الحكام المطلقون الشعبويون أكثر استبدادا. وسوف تظل العولمة المفرطة باقية على موقفها الدفاعي مع استعادة الدول القومية للحيز السياسي. وسوف تواصل الصين والولايات المتحدة على مسار التصادم. وسوف تزداد حدة المعركة داخل الدول القومية بين أنصار القِلة الحاكمة، والشعبويين الاستبداديين، والأمميين الليبراليين، في حين يناضل اليسار في محاولة لابتكار برنامج يستقطب غالبية من الناخبين.
ترجمة: إبراهيم محمد علي
التعليقات