كيف ستبدو مدننا بعد كورونا؟

تدفعنا الضبابية حول مستقبل حياتنا بعد أو حتى خلال أزمة تفشي فيروس كورونا للتساؤل عما سيطرأ على الجوانب المختلفة من حياتنا، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، والذي قد يصل إلى حد تغيير شكل المدن

كيف ستبدو مدننا بعد كورونا؟

(Pixabay)

تدفعنا الضبابية حول مستقبل حياتنا بعد أو حتى خلال أزمة تفشي فيروس كورونا للتساؤل عما سيطرأ على الجوانب المختلفة من حياتنا، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، والذي قد يصل إلى حد تغيير شكل المدن.

وأعدت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، تقريرا مطولا، استندت فيه إلى آراء 11 خبيرا في مجالات مختلفة، لتبني تصورا أوليا عن شكل الحياة المدنية مستقبلا، خصوصا أن المدن، كما كانت على مرّ التاريخ، تُعد مراكز تفشي الوباء الأساسية بسبب الاكتظاظ السكاني فيها.

وذكرت المجلة أن الشوارع الفارغة والمحال المغلقة، تدفعنا للتساؤل عما إذا كانت المطاعم والمقاهي ستعود لعملها كالمعتاد؟ وهل ستبقى المواصلات العامة مُزدحمة؟ وهل سيستمر الموظفون بوظائف مكتبية بمزاولة عملهم في مكاتبهم، أم أن العمل من المنزل سيصبح بديلا لذلك؟

ولفتت المجلة إلى أن المدن تزدهر بفرص العمل وأماكن اللهو، والتنوع اللامتناهي للسلع والخدمات المتاحة. وإذا ما أصبح الخوف من المرض أمرا طبيعيا، فقد يتغير شكل الحركة المدنية بأكملها.

المدن ستنجو من الفيروس

قال الأستاذ في كلية "روتمان" للإدارة في جامعة تورنتو، ريتشارد فلوريدا، إن تاريخ العالم مع الأوبئة القاتلة يثبت أن المدن "العظيمة" سوف تتغلب على الفيروس، بل وقد يجعلها أقوى من ذي قبل أيضا، مشيرا مثلا إلى أن إنفلوانزا الخنازير التي قتلت عشرات الملايين قبر قرن من الزمن، لم تؤخر عملية تطور مدن مثل باريس ونيويورك ولندن، بل دعمتها.

(أ ب)

وأشار إلى أن ذلك يعود إلى أن الناس عادة ما كانوا ينتقلون إلى المدن في أعقاب الأوبئة بسبب فرص العمل الأفضل والأجور الأعلى التي أصبحت متاحة بعد انخفاض مفاجئ بعدد السكان نتيجة الوفيات التي سببتها الأوبئة، مضيفا أن الأزمة الحالية قد توفر نافذة صغيرة لانخفاض أسعار المعيشة في المدن التي كان يعتبر العيش فيها باهظ الثمن، بهدف إعادة تنشيط نفسها.

وأوضح أن بعض جوانب الحياة المدنية ستختلف مستقبلا، لكن ذلك مرهون أيضا بمدى استمرار الجائحة الحالية، فإن الخوف من الازدحام في وسائل النقل خاصة وفي الشوارع عموما، قد يدفع البعض ربما إلى الانتقال إلى الضواحي والمناطق الريفية. وسيكون هذا التأثير واضحا على الأسر التي تملك أطفالا، والشرائح الأكثر عرضة للمرض (ككبار السن مثلا).

(Pixabay)

ومع ذلك، اعتبر فلوريدا أن الفئة الشابة ستستمر بالتدافع نحو المراكز الحضرية بحثا عن الفرص المهنية والشخصية. وقد يستفيدوا من هبوط أسعار الإسكان المتوقع بعد الوباء.

"كارثة" الوظائف الحضرية

في نظرة أكثر تشاؤما، أبدى أستاذ الاقتصاد من جامعة هارفرد، إدوارد غلاسر، خشيته من فقدان عشرات ملايين الوظائف في القطاع الخدماتي، قائلا إنه كان يعتبره قبل الجائحة، الملاذ الأخير لعدم أتمتة الوظائف في المدن، معولا على قيمة وجود العامل الإنساني في أعمال كالمطاعم والمقاهي والعمل في التجزئة وغيرها، لكنه أوضح أن الحيّز المدني قد يفقد هذه الوظائف في حال أصحبت الأوبئة روتينية، ما سيدفع بالمزيد من الخوف والريبة بالتفاعلات بين البشر، وبالتالي إلى فقدان هذه الوظائف.

(Pixabay)

وأكد أن الفرصة الوحيدة لمنع انهيار القطاع الخدماتي هذا، هو ضخ استثمارات هائلة في بنى تحتية مضادة للأوبئة (أي تحافظ على التباعد الاجتماعي)، في أماكن العمل هذه، لألا يتكرر هذا الرعب من الحيّز العام في حال انتشار أوبئة أخرى أو استمرار الوباء الحالي لمدّة طويلة.

فرصة لإعادة البناء بشكل أفضل

أشار الكاتب والباحث روبرت موغاه، إلى الأثر الحالي الذي تخلفه الجائحة على حياة المدينة، من إرباك للمستشفيات والقطاع الصحي بأكمله، وهدم الأعمال التجارية، والحد من الوصول إلى الأماكن العامة، وتعظيم التحديات النفسية، وإجبار الناس على البقاء في منازلهم، مشددا على أن غياب اللقاح قد يجعل بعض هذه الاضطرابات دائمة.

لكنه أشار إلى أن الأولوية اليوم هي إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح، وتقديم الخدمات الأساسية، والحفاظ على القانون والنظام، خاصة في مدن العالم النامي المحاطة بالعشوائيات، والتي يزيد ارتفاع أسعار المواد الغذائية فيها من خطر الجوع والاضطرابات الاجتماعية والسياسية.

(أ ب)

واعتبر أنه على المدى القصير، ستقدم العديد من السلطات حول العالم، الفحوصات الجماعية، وتتبع ومراقبة المرضى، وتعديل المباني والأماكن العامة للحفاظ على التباعد الاجتماعي، وتعزيز الأنظمة الصحية للتعامل مع التهديدات المستقبلية. موضحا أننا قد نشهد على المدى الطويل، تأثيرات أخرى قد تغير شكل المدينة، مثل رقمنة قطاع التجزئة، والانتقال إلى الاقتصاد غير النقدي (أي الرقمي)، والتحول إلى العمل عن بعد وتقديم الخدمات على المساحة الافتراضية، وقد تصبح المواصلات العامة بلا سائقين، وغيرها من التغييرات.

وفي حين يكشف فيروس كورونا جودة الحوكمة وحجم التفاوتات في المدن حول العالم، فإنه سيوفر فرصة للمخططين ورواد الأعمال الحضريين لإعادة بناء المدن بشكل أفضل. إذ أن بعضهم يختبرون طرقا لتطوير أعمالهم لخلق مساحة لازدحام يراعي قوانين التباعد الاجتماعي، أو الاستثمار المراعي للبيئة.

تعطش لفرح الحياة البسيطة

اعتبر أستاذ تخطيط المدن ومدير برنامج الدراسات الحضرية والإقليمية في جامعة كورنيل، توماس ج. كامبانيلا، أن المدن تعرضت لأوبئة صعبة للغاية عبر التاريخ، لكنها تمكنت من الازدهار بسببها، ما يعني أن العزوف عن الحياة الحضرية خوفا من انتقال العدوى سيكون تأثيرا مؤقتا في أفضل الأحوال، مستشهدا بمحطات تاريخية كثيرة دفعت الناس إلى اجتناب المركزية الحضرية لفترات وجيزة، لكنهم سرعان ما عادوا إلى التدفق إليها.

(أ ب)

أما بالنسبة لتوقعه ما بعد انتهاء الوباء، فقال أن معظم أماكن اللهو، كالمقاهي والمطاعم قد تغلق أبوابها، ولكن لتفتح مكانها مطاعم ومقاهي أخرى. وقد تتجنب الشرائح الأكثر عرضة لخطر مرض كوفيد-19، الأماكن الحضرية لفترة وجيزة، ولكنها ستفسح المجال لدخول لارتفاع نسب شرائح أخرى في المدينة.

وقال إن تأثير الحجر سيدفع الناس على الخروج من الإغلاق في نهاية المطاف، بسبب التعطش من أجل البهجة البسيطة المتمثلة في أن يلتقوا في أحد شوارع المدينة المزدحمة.

المدن ستتفوق في منع الأمراض والاستجابة لها

لفتت المحاضرة في المركز الطبي بجامعة جورجتاون، ربيكا كاتز، إلى تغيّر في الاتجاه نحو جاذبية الكثافة السكانية التي يجلبها كوفيد-19 مع تفشيه، معتبرة أنه مع توجه الملايين نحو خلق عادات جديدة للعمل عن بعد، فقد نشهد نزوحا من المناطق الحضرية للريفية.

(أ ب)

ومع ذلك، رأت كاتز أن بلديات المدن سوف تتفوق في الاستعداد للأمراض ومنعها، وستصبح أقسام الصحة أكثر تمويلا ومتانة، وستتطور طرقا جديدة للحفاظ على حماية السكان في المدن للإبقاء على جاذبي البيئات الحضرية.

يمكننا أن نخلق مستقبلا حضريا لا يستغني عن أحد

أشارت مديرة برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، ميمونة محمد شريف، إلى حقيقة أن 95 بالمئة من المصابين بكوفيد-19 حول العالم، يعيشون في المناطق الحضرية، مشددة على أن المرض سيضرب بشكل خاص، أكثر من مليار شخص يعيشون في المناطق العشوائية والأحياء الفقير المكتظة، وأولئك الذين يفتقرون إلى إمكانية الحصول على السكن المناسب وميسور التكلفة، والآمن، فـ"بدون منزل، فالاستجابة لدعوة البقاء في المنزل مستحيلة. وبدون مأوى آمن وحصول على الخدمات الأساسية، لا معنى للبقاء في المنزل".

(أ ب)

وباختصار، فإن الوباء يفاقم الانقسام الحضري الذي نجم عن فشل طويل الأمد في معالجة أوجه عدم المساواة الأساسية وضمان حقوق الإنسان الأساسية حول العالم. لذا فتتوقع شريف أن تتجه السلطات على المستوى الوطني والمحلي، نحو الحد من عدم المساواة، وضمان تزويد جميع سكان الحضر بالخدمات الأساسية لكي يعيش الجميع بكرامة ويستعدوا لـ"الأزمة العالمية المقبلة".

إنشاء المدينة الآمنة والمرنة التي لطالما احتاجها البشر

اعتبرت مديرة "بلومبرغ أسوسييتس" جانيت صديق خان، أن الوباء يوفر فرصة اليوم، لإعادة تشكيل الحيّز المدني بشكل أقل اعتمادا على السيارات، وأكثر دعما لتنقل الناس سيرا على الأقدام أو بالدراجة أو غيره من وسائل النقل العام، وبالتالي، تخفيف الاكتظاظ وفرص انتقال العدوى والتلوث البيئي وحوادث الطرق.

(أ ب)

وقالت: "تعتمد قدرتنا على تحمل هذا الوباء على وضع بروتوكولات سلامة جديدة للحفاظ على سلامة الركاب وعمال النقل العام، وعلى الاستثمار في توسعات الخدمة الشاملة لتسهيل إدارة الأزمة التالية".

وأضافت أن التحدي لا يكمن بما إذا ستبقى المدن أم لا، بل بما "إذا امتلكنا خيال ورؤية لتحويل الشوارع وإيجاد مدن أكثر أمانًا وأكثر سهولة ومرونة لطالما احتجناها".

إعادة المأسسة ستعيد المدن

اعتمد المدير المؤسس لمختبر "مترو نواك" في جامعة دريكسل، بروس كاتز، على مراحل من التاريخ الأميركي خاصة، ليقول إنه يبشر بأن الأزمات تتسبب بخلق حكومات ومؤسسات جديدة، متوقعا أن يؤدي كوفيد-19 إلى إحداث تغيير مؤسساتي في المدن، والتي سيتعين عليها ابتكار قدرات جديدة لمعالجة الدمار الاقتصادي.

(أ ب)

وأشار إلى أن معالجة الانهيار المتوقع وغير المسبوق للشركات والأعمال الصغيرة، ستتطلب وسطاء جدد على المستويين العام والخاص، لتقديم خدمات للشركات الضعيفة ماليا وتدريب رواد أعمال جدد.

وقال: " ينبغي أن يضمن ذلك الوصول إلى المنتجات المالية المدفوعة بالأسهم، بدلا من مجرد توفير المزيد من الديون. وفي الوقت نفسه ، ستزداد أهمية بنوك الأراضي العامة وشركات التنمية غير الربحية.... بدون تغيير مؤسساتي جذري، سيتطلب التعافي الشامل للمدن فترة طويلة جدًا في المستقبل".

انخفاض أسعار الإسكان في المدن

رأت الباحثة في جامعة تشابمان، جويل كوتكين، أن جائحة كورونا ستترك تأثيرا مباشرا على الاكتظاظ السكاني في المدن، وخاصة الكبيرة منها، لكن المدن ستبقى أساسية للبشر، لذا فإنه من المرجح أن تنمو هوامش المدن، لأمر الذي قد يتطلب تغييرات كبيرة في استخدامات الأراضي ولوائح التخطيط العمراني بحيث تشجع العمل عن بعد حيثما أمكن ذلك، وتطوير أنظمة نقل شخصية ومستقلة في نهاية المطاف بدلاً من إجبار الناس على ركوب وسائل نقل مزدحمة. وتوزيع السكان هذا، سيدفع أسعار الإسكان إلى الهبوط غالبا بشكل طردي مع انتشار الوظائف.

(أ ب)

دعوة للمدن لإعادة التفكير في نموذجها الاقتصادي

نوه أستاذ بجامعة سنغافورة للتكنولوجيا والتصميم، ورئيس مركز لي كوان يو للمدن المبتكرة، تشان هينغ تشي، إلى أن جائحة فيروس كورونا دفعت مسؤولي المدن اليوم، لإعادة التفكير في التخطيط الحضري مع ضمان الأمن الصحي كأولوية قصوى. واتخذ من سنغافورة مثلا على ذلك، فقد قال إن هذه المدنية التي تعتمد على العمالة الأجنبية بشكل كبير، والتي تمنح العمال شققا سكنية مشتركة، جعلتهم أكثر عرضة للإصابة بالفيروس، ستعيد التفكير في تصميم المهاجع، بل وغالبا سيعيد مسؤولوها التفكير بالنموذج الاقتصادي الذي يعتمد على المهاجرين أصلا. وستُعزز التكنولوجيا لتقليل الاعتماد على ا لأيدي العاملة.

(أ ب)

يجب علينا استعادة الثقة في سلامة الحياة المكتظة

اعتبر النائب السابق لعمدة بلدية نيويورك، والذي كان مسؤولا عن التنمية الاقتصادية، دان دكتوروف، أن المدن ستعود أقوى من ذي قبل، لكنها ستكون مدفوعة بنموذج جديد للنمو يؤكد على الشمولية، والاستدامة، والفرص الاقتصادية، وسيبدأ إحياء النمو السكاني الحضري بعد الوباء، باستعادة الثقة في الصحة العامة الحضرية وسلامة اكتظاظ الحيّز العام.

ولكنه حذّر من أنه يجب على السلطات أن تستفيد من السياسات والتقنيات الجديدة لجعل أسعار الحياة الحضرية أكثر انخفاضا واستدامة لعدد أكبر من الناس.

وقال إنه يمكن لأساليب البناء رخيصة التكلفة والأكثر مرونة مثل بناء الأخشاب الطويلة أن تقلل من تكلفة السكن وتقلل بشكل كبير من انبعاثات الكربون في المباني الجديدة. ويمكن أن تساعد خيارات التنقل الجديدة وامتدادات النقل العام، السكان، في الوصول إلى وظائفهم دون الحاجة إلى امتلاك سيارة. ويمكن للابتكارات في مجال الطاقة تمكين الأحياء الكهربائية التي تقلل من تأثيرها على المناخ دون تكاليف باهظة.

وخلص إلى القول: "إذا انتهزنا هذه الفرصة للبناء بشكل أفضل، فلن تتعافى المدن فحسب، بل ستوفر فرصًا أكبر مما كانت عليه قبل أن يضرب الفيروس التاجي.

التعليقات