إدلب الصغرى وسيناريو غزّة جديدة في الشمال السوري

صراحةً أشارت تصريحات تركيا إلى أنّ إدلب السوريّة هي غزّة الجديدة، لكن أين التقاطع بينهما؟ وهل ستعود إدلب إلى سيطرة النظام السوري أم أن هناك نواةً لا يمكن أن تقبل العودة إليه؟

إدلب الصغرى وسيناريو غزّة جديدة في الشمال السوري

من إدلب (أ ب)

تشير حالة الاضطراب التي تعصف بالشرق الأوسط وشماليّ أفريقيا إلى قابلية الانتقال من مرحلة الدول إلى مرحلة تقسيم بعضها إلى ما تسميته إجرائيًا بـ"كانتونات[1]"، لحساب القوى الدولية العاملة على الأرض من جهة، ومصلحة الأقليات التي كانت تسعى وراء الانفصال وتحقيق حكم ذاتي، من جهة أخرى.

بعد عام 2003، الذي شهد أحداث غزو القوات الأميركية للعراق، طرأت تغييرات على المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، أطاحت بالقوى التقليدية العربية - العراق؛ وبعد عام 2011 سورية ومصر - لصالح نشوء قوى جديدة تؤثر على صناعة القرار في المنطقة مثل قطر والسعودية والإمارات. وعلى مستوى أعلى من القوة، تسعى إيران وتركيا والسعودية وإسرائيل إلى تطوير هيكل جديد في الشرق الأوسط قائم على تأمين خط حماية للفئات التي تلتقي مصالحها مع مصالح هذه الدول، بالإضافة إلى تأمين عمق إستراتيجي يخدم الأمن القومي لهذه الدول.

وإن كان على حساب استقرار وحجم دول الشرق الأوسط، إلا أن التحالفات أو/ والتفاهمات الحاصلة في الآونة الأخيرة، أي بعد 2017، بين القوى السابقة وقوى عالمية متمثلة في روسيا وأميركا، لا تنبئ بتغيير مستقبلي في بنية النظام الإقليمي في الشرق الأوسط وعلى بنية جغرافيا دول الإقليم. سابقًا، تمحورت الاتفاقيات بين الدول الكبرى حول تقسيم العراق إلى مقاطعات إثنية أثمرت إقامة حكم ذاتي في إقليم كردستان العراق، ليصار إلى حديث جديد حول تقسيم سورية إلى أقاليم بحسب معطيات القوة على الأرض ومصالح القوى المتناحرة، خاصّة في شماليّ وشرقيّ البلاد.

من العراق إلى سورية

وبعد قرار الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، إنهاء احتلال العراق عام 2011، أخذ الصراع منحىً داخليًا كانت الطائفية أبرز سماته، خاصّة في ظل وجود تنوع مجتمعي وإثني وطائفي (شيعة وسنة وإيزيديون وأكراد ومسيحيون سريان وأرمن وغيرهم) عمل الاحتلال الأميركي من جهة وإيران من جهة أخرى على إذكائه من أجل ضرب البنية المجتمعية العراقية وتفكيكها. كانت أميركا هي القوة الوحيدة المهيمنة في العراق، وأدى انسحابها إلى خلل جيوسياسي في الشرق الأوسط ككل، قاد دولًا مثل روسيا وإيران وتركيا إلى الدخول لملء الفجوة التي أحدثها الانسحاب من العراق. وعلى الرغم من انحسار النفوذ الأميركي في الآونة الأخيرة ليقتصر على مجموعة من القواعد العسكرية في بعض من دول الشرق، أو قوات تعمل وفق مهامّ معينة في سورية والعراق، إلا أنها تبقى صاحبة كلمة في صنع القرار السياسي في الشرق بحكم رغبة واشنطن في الإبقاء على خط دفاعٍ في وجه طهران على وجه الخصوص، وفي الحفاظ على أمن إسرائيل ومصالح واشنطن النفطية عمومًا. استثمرت القوى الستّ (أميركا وروسيا وإيران والسعودية وتركيا وإسرائيل) في رغبة الأكراد بالانفصال عن العراق وتشكيل إقليم يخضع لحكم ذاتي يجمع أكراد الشرق الأوسط تحت حكم واحد، ويكون ذا تأثير سياسي ودبلوماسي على المدى البعيد. يشير التاريخ الحديث لإقليم كردستان العراق إلى ضبابية في المواقف والتحالفات تجاه الأكراد، خاصة وأن حلفاءهم تنصلوا من اتفاقيات عام 1970 بخصوص تشكيل حكم ذاتي كردي شماليّ العراق، ليصبح النضالان السياسي والعسكري معًا الخط الأساسي في سبيل الحصول على الاستقلال. لعبت الولايات المتحدة الأميركية على وتر خلافات الأكراد مع نظام صدام حسين، وأدخلت الأكراد في أتون معركة ضده عام 1991 على أمل أن يلقى الأكراد استقلالهم بعد أن أصبح الإقليم رسميًا يسمى "كردستان العراق". لم ينجح مخطط الحكم الذاتي آنذاك، ليجد الأكراد في الربيع العربي فرصة سانحة في المشاركة في سلسلة الاحتجاجات التي انطلقت في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا في محاولة لانتهاز فرصة أخرى على درب الاستقلال[2].

فعليًا، كانت معاناة الأكراد في سورية واضحة وتمثّلت في تعريب المناهج والحرمان من التجنيس واستلام مناصب عليا في الدولة. لم يكن همّ "قوات سورية الديمقراطية" وقوات "المجلس الديمقراطي السوري" في الشرق السوري هو قلب النظام السوري بقدر ما كانت مساعيهم تتجه نحو انتهاز الحراك في سورية لصالح إنشاء إقليم يخضع لحكم ذاتي شرق البلاد.

قادة الدّول الضامنة (أ ب)
قادة الدّول الضامنة (أ ب)

يبدو الدافع وراء الانفصال بالنسبة للأكراد أقرب إلى فرض خيار الاعتراف ضمن أطر الشرعية الدولية التي تضمن مبدأ الاختلاف والتنوع. أما في ما يتعلق بالنظام الفيدرالي، فصُمّم عالميًا من أجل ضمان الحلول الدستورية والمؤسساتية التي تضمن حقوق تقرير المصير للأقليات التي ترغب بالانفصال عن الدولة الأم[3]. نظريًا لم يتحقق الانفصال الكامل لأكراد سورية رغم الوعود والتطمينات الأميركية بذلك، إلا أن النظام المؤسساتي في الواقع يعمل بشكل منفصل عن الدولة السورية سواء من ناحية الخدمة العسكرية الإلزامية أو من ناحية المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني. بالنظر إلى هندسة النظام الفيدرالي، يمكن استنتاج أن النسق في حالة كردستان العراق يصنف على أنه أحادي الإثنية[4]، يضمن حقوقًا ثقافية ودينية وسياسية ومذهبية كاملة لسكان الإقليم، وبالتالي يمكن فصل الإقليم المستحدث (كردستان) عن باقي أراضي الدولة العراقية، ما يشجع أيضًا على فصل السنة عن الشيعة. أما في الحالة السورية، فعلى الرغم من وجود هذه الأحادية الإثنية، تبدو فكرة انفصال الأكراد غير ناضجة بما يكفي، خاصة وأن المنطقة الشرقية خليط عربي-كردي وسنّي-شيعي. هذا النسق متعدد الإثنيات[5] لا يضمن فصل الكرد عن باقي مكونات مجتمع شرقي سورية، بقدر ما يسعى إلى تنسيق جهود المكونات الفيدرالية (سنة، وشيعة، وعرب، وكرد، وأرمن، وسريان، وشركس) وجمعهم ضمن إقليم واحد ذاتي الإدارة.

حالة إدلب

قبل عام 2011، كانت فكرة الفيدرالية في سورية غير مطروحة أو ممهد لها على النحو الحالي. في الحديث عن الأقليات والهوية السورية، تجدر الإشارة إلى أن الهويات والقوميات في سورية مرتبطة بمحددات تاريخية وثقافية ودينية أكثر من ارتباطها بالدولة الحديثة. وبالنتيجة، فإنّ فكرة الارتباط بالدولة السورية وقوميتها القائمة على الحدود الجغرافية الحالية لم تعد عقبة أمام الانفصال. يشكل الدروز والعلويون والأكراد أبرز الحالات التي نستدل بها على أن صلات القربى أقدر عل تشكيل وعي يؤسس لانفصال عن الدولة الأم في حال طرح موضوع التقسيم في سورية في الوقت الحاضر. احتفظت الأنظمة السورية بعد الاستقلال بورقة الطائفة والهوية السورية لضرب أية محاولة انفصالية عن الكيان السوري. كان نظام الأسد منذ عام 1970 حتى الآن من أشد الأنظمة الحريصة على استخدام ورقة الطوائف في سورية من أجل إحكام السيطرة على البلاد.

فعليًا، كانت في سورية أقليات تعمل من قبل 2011 للانفصال، كما في حالة الأكراد، بينما نشأت فصائل ومجموعات أخذت تتشكل على أنها أقليات في قالب إيديولوجي ديني بعيد عن القومية والإثنية، كما الحال في الجماعات الإسلامية الموجودة في إدلب، والتي تشكلت بفعل تطور أحداث الثورة السورية.

الجماعات الإسلامية المسلحة في إدلب

يُعزى وجود الجماعات الإسلامية في إدلب إلى عدم استقرار الهيكل السياسي والعسكري والمجتمعي للنظام السوري، الذي خلق بالمحصلة منافسة طائفية؛ وإلى الجهود الجيوسياسية التي تبذلها القوى الدولية والإقليمية في سبيل الحصول على جماعات مؤيدة لها ضمن مزيج من الإيديولوجيا والسياسية والعسكرة. بعد توغّل تنظيم داعش في البلاد عام 2013-2014، وانقسام المعارضة إلى فصائل إسلامية جهادية وفصائل معتدلة، عمل النظام السوري بالاتفاق مع الحلفاء (روسيا وتركيا والسعودية وأميركا وإيران) على جعل إدلب منطقة تجمّع للفصائل المعارضة الإسلامية وفق ما نصّ عليه برنامج المصالحة الوطنية الذي أعلن عنه النظام بعد عام 2016. ينص برنامج المصالحة الوطنية على أن تسلم قوات المعارضة أسلحتها، وأن ينضم مقاتلوها إلى صفوف الجيش السوري في حال القبول باتفاق محلّي خاص. وفي حال رفضت أي من الفصائل المسلحة الاتفاق يتم ترحيلهم إلى إدلب كونها نقطة تجمع للفصائل المعارضة. تضم إدلب الجماعات الإسلامية العاملة على الأراضي السورية من ريف درعا والحدود الأردنية إلى ريف حلب الشمالي مرورًا بريف دمشق وريف حمص وحماة. يشكّل "جبهة النّصرة" و"جيش الإسلام" وفصائل "أجناد الشام" و"جبهة فتح الشام" و"هيئة تحرير الشام" و"ألوية الفرقان" و"ألوية الإمارة" في درعا و"ألوية الناصر صلاح الدين" و"كتائب نور الدين الزنكي" وغيرهم، أساسًا للجماعات الإسلامية الموجودة في إدلب منذ عام 2017 إلى الآن. وعلى اختلاف مصادر تمويل هذه الجماعات، واختلاف القوى الإقليمية الداعمة لها، وبالتالي اختلاف هذه الجماعات بين بعضها واقتتالها داخليًا، إلا أنها أصبحت بعد عام 2019 أقرب إلى الاتفاق تحت وعود تركية بتشكيل منطقة ذات إدارة اقتصادية وسياسية تتبع بشكل أساسي لفصائل إسلامية تحت إشراف تركي.

إمكانية تأسيس إقليم

برأي عالم السياسة والسوسيولوجي الأميركي، تشارلز تيلي، فإن وكلاء الدول يقومون بأربعة أنواع مختلفة من النشاطات تؤدي إلى تنفيذ مهام رئيسة. أولى هذه المهام صناعة الحرب وتحييد الخصوم من خارج المناطق التي تتمتع بها الفصائل المسلحة بأولوية واضحة وغير منقطعة كممارسين للعنف؛ وثانيها صناعة الدولة والهدف هو القضاء على الخصوم الداخليين في هذه المناطق، وهذا ما شهدته مدينة إدلب من خلال الاقتتال الداخلي بين فصائل المعارضة وتصفية القيادات التي من الممكن أن تشكل خطرًا على أهداف المرحلة المقبلة؛ ومن ثم تأمين الحماية عبر القضاء على أعداء زبائنهم؛ ليكون رابع هذه المهام الاستخراج أو الاستحواذ على الأدوات التي تمكّن الفصائل من القيام بالأنشطة الثلاثة السابقة وصبّها في قالب يخدم المصلحة العليا في إنشاء إقليم مستقل.

في صناعة الحرب في إدلب، تواجه الفصائل الإسلامية المسلّحة، والمدعومة من أنقرة، حربًا مع قوات النظام من جهة والقوات الروسية من جهة أخرى. تضمن هذه العمليات القتالية تحييد النظام عن المناطق التي ترمي هذه الفصائل إلى الاستحواذ عليها وإخضاعها لإدارة ذاتية. وإن كانت هذه الفصائل خسرت بعض المعارك واضطرت للانسحاب من بعضها تحت ضربات النظام والروس، إلا أن هذا يبقى ضمن إطار الاتفاقيات بين تركيا وروسيا في المقام الأول، في خطة لضمان حصر وتصفية قوات المعارضة في مناطق تناسب حجمها وتأثيرها في الشمال السوري وتحديد مصير إدلب ومحيطها. في آذار 2019، سعت أنقرة وموسكو، القوتان الضامنتان في الشمال السوري، إلى ضمان وقف إطلاق النار في إدلب وسحب العناصر الجهادية أسلحتها بمسافة 12 كيلومترًا، إلا أن الخروقات من قبل المعارضة والنظام على حد سواء أفشلت الاتفاق لتعود المعارك من جديد. يصمم النظام السوري على نزع أكبر قدر ممكن من أراضي إدلب الخاضعة لسيطرة الجماعات الإسلامية الجهادية، التي أجلاها من المحافظات السورية ضمن برامج المصالحة الوطنية، وحصر هذه الجماعات ضمن نطاق جغرافي يعرف اليوم "إدلب الصغرى". تسيطر قوات المعارضة بمجموعها، أي فصائل الجيش الحر وفصائل الجماعات الإسلامية، على ما يقارب 3000 كيلومتر مربع من إدلب ككل، علمًا أن هذه الفصائل كانت تسيطر على ما لا يقل عن 9000 كيلومتر مربع عام 2017. كان النظام السوري قد أعلن عمليات مكثفة في إدلب في عام 2017 بعد أن رجحت كفة الحرب لصالحه، إلا أن النتائج كانت كارثية على المدنيين هناك بعد أن شهدت المحافظة أكبر عملية نزوح باتجاه "إدلب الصغرى" والحدود السورية التركية حتى عام 2019.

تسيطر قوات المعارضة و"هيئة تحرير الشام" قوامها الأكبر بعدد 12000 مقاتل، على منطقة "إدلب الصغرى" والتي تشكل قرى بداما وأريحا والفوعة وأتارب ودارة عزة حدودًا لها، بينما استعاد النظام معظم المناطق الإستراتيجية خاصة تلك التي تشكل عقد مواصلات مهمة للربط بين المحافظات الواقعة تحت سيطرته، مثل مناطق سراقب ومعرة النعمان والقرى الواقعة على طريق "M5" وتأمينها بنقاط عسكرية. عززت "هيئة تحرير الشام" من نفوذها على المنطقة من خلال وجود ما يسمى "حكومة الإنقاذ" التي أنشئت عام 2017، والتي أعلنت بشكل تدريجي أنها حلّت محل الحكومة المؤقتة التي تتخذ من مدينة غازي عنتاب التركية مقرًا لها.

الجولاني، قائد "هيئة تحرير الشام" أو "جبهة النصرة" سابقا
الجولاني، قائد "هيئة تحرير الشام" أو "جبهة النصرة" سابقا

داخليًا، شهدت المحافظة معارك عنيفة بين أطراف المعارضة جميعها ضبابية حول التحالفات بين هذه الفصائل. وقفت "هيئة تحرير الشام" موقف المتفرج على "الجيش السوري الحر" أثناء قتاله مع "وحدات حماية الشعب" الكردية، في ظل صمت من قبل النقاط التركية البالغ عددها حوالي 12 نقطة كانت أنقرة اتفقت على تثبيتها مع كل من روسيا وإيران. بينما أمّنت هذه النقاط ذاتها هجوم "هيئة تحرير الشام" على فصيل "حركة نور الدين الزنكي" و"الجبهة الوطنية للتحرير". يمكن أن نقرأ هذا الاقتتال الداخلي من زاويتين؛ الأولى إيديولوجية على اعتبار أن "هيئة تحرير الشام" هي جهادية إسلامية صرفَة، بينما تكون جميع الكتائب والفصائل الأخرى (التي جاءت بفعل المصالحات الوطنية) أخف إيديولوجيًا منها وأكثر اعتدالًا، الأمر الذي جعلها في مواجهة داخلية مع هذه الفصائل، بينما الزاوية الثانية سياسية عسكرية ترغب من خلالها "هيئة تحرير الشام" بتحييد كل الفصائل الأخرى عن مشهد السيطرة على أي جزء من إدلب وإبعادها خارج نطاق "إدلب الصغرى" ليتسنى لها القيام بمهام إدارة المنطقة.

شرعية الفصائل المسلحة في إدلب

تسهّل التفاعلات والتحالفات والأنشطة السياسية والعسكرية الدولية نشوءَ دول وأقاليم جديدة في مساحات جغرافية قابلة لتغيير جيوسياسي، سواء على المدى القريب أو البعيد، نظرًا لقوة الدول الفاعلة والضامنة في التأثير على مجريات الأحداث السياسية والعسكرية في المناطق التي ترمي إلى تحقيق مصالح فيها. تحدّد كل من روسيا وتركيا وإيران وقطر والسعودية بنية وهيكلية المعارك والمفاوضات حول مصير إدلب والقوات المعارضة الموجودة داخلها، بناء على مصالح مشتركة ومصالح أمن قومي لهذه الدول مجموعة أو على حدى. تستمدّ الفصائل الجهادية شرعيتها في الشمال من الدعم التركي، خاصّة في ما يتعلق باتفاقيات ضمان وجود منطقة عازلة تضمن عدم اقتراب النظام من هذه المناطق. هنا يجب أن نشير إلى أنّ شرعية هذه الفصائل الجهادية واستلامها إدارة منطقة في الشمال السوري من شأنها أن تصب في مصلحة كل من النظام السوري والروسي والتركي على حد سواء. ما يهم النظام السوري فعليًا هو استعادة أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية وضمها تحت لواء الجيش السوري وإعلان نصر على الإرهاب والفصائل الجهادية أمام المجتمع الدولي. بينما يمكن له، على الطرف المقابل، أن يضمن أن معركته ضد هذه الفصائل رابحة بعد أن يعلن نجاحه في حصرها في منطقة واحدة تسري عليها أحكام اتفاقيات دولية وحماية تركية، إن صحّ مخطّطُ أنقرة الرامي إلى فرض وصاية عليها، والتخلي عن هذه المساحة المقدرة بحوالي 1500 كيلومتر مربّع في معركته أمام هذه الفصائل لصالح كسب دعم دولي ورفع العقوبات عنه. أما روسيا، فإنه من مصلحتها حصر الفصائل الجهادية في منطقة واحدة، خاصة وأن ما تسعى إليه الآن هو ضرب الحركات الإسلامية الجهادية والحركات المتطرفة التي من شأنها أن تؤثر على مصالحها في منطقة البحر المتوسط ومناطق النفوذ الروسي القريبة من بحر قزوين، ويكون لها ارتباط مع الحركات الإسلامية في الشيشان وغيرها من الحركات في آسيا الوسطى. على عكس المساعي السابقة، تبدو تركيا أقرب إلى احتواء هذه الفصائل، في محاولة ربما هي الأوضح بحسب منطق التفاهمات الحاصلة في الشمال، والمحادثات الروسية التركية من جهة، والمحادثات بين روسيا وقادة المعارضة من قبيل رياض حجاب ومعاذ الخطيب من جهة أخرى، لفصل "إدلب الصغرى" عن النظام السوري وتسليمها لقيادة المعارضة. يتيح هذا العزل تأمين العمق الإستراتيجي لتركيا من جهة، وتأمين مساحة إضافية تمهج لنقل أعداد من اللاجئين السوريين وتجميعهم في هذه المنطقة.

بين القدرة الحقيقية والمساندة

إن الاعتراف الصريح بمركزية القوة في الأنشطة الحكومية لا يتطلب الاعتقاد بأن السلطة الحكومية تستند "فقط" و"بشكل نهائي" على التهديد بالعنف، كما أنّه لا يستلزم افتراض أن الحكومة (وفي هذه الحالة الفصائل المسلحة) لا تقدم إلا خدمات الحماية. حتى عندما تفرض الحكومة حمايتها مقابل ثمن باهظ يقرّر البعض أن خدمات الحكومة الأخرى ترجح على تكلفة القبول باحتكارها للسلطة. تنتهج فصائل مثل "هيئة تحرير الشام" في معاركها مع النظام من جهة، ومع الفصائل المعتدلة الأخرى، نهجًا مشابهًا لنسق الحكومات التي تحتكر العنف في سبيل السيطرة على مقاليد الحكم في منطقة "إدلب الصغرى". وتسعى تركيا من خلال وصايتها إلى جعل المنطقة أشبه بتابعية للحكومة التركية، لا سيما وأن ما تقوم به اليوم من إدخال الليرة التركية للتداول بدل الليرة السورية يمهد لفعل تتريك المنطقة، أو على الأقل فصلها عن سورية.

وحتى تمّوز/يوليو الجاري، يعيش حوالي مليونين من أهالي محافظة إدلب في منطقة "إدلب الصغرى" المحاذية تمامًا للحدود التركية. هذه المساحة الجغرافية تنقسم إلى مخيمات يقطنها نازحون داخليون من قوات المعارضة وذويهم، نزحوا بفعل المعارك القائمة في قرى إدلب الشرقية والجنوبية، ومنازل السكان الأصليين في هذه القرى. تعيد فكرة الكثافة السكانية هذه إحياء نموذج قطاع غزة في ظل وجود حكم فصائل المقاومة الفلسطينية لما لا يقل عن مليوني نسمة. منطقة "إدلب الصغرى" هذه هي منطقة لم تتعرض لعنف وقصف كما باقي المناطق في المحافظة. يعود الأمان النسبي في هذه المنطقة إلى وجودها بالقرب من الحدود التركية الآمنة بدءًا من معبر باب الهوى وصولًا إلى محور دركوش - خربة الجوز، وإلى رغبة النظام السوري في جعل هذه المنطقة آمنة أمام نزوح ما تبقى من جيوب المعارضة وذويهم من القرى التي يرغب بالسيطرة عليها، مقابل التخلي عن "إدلب الصغرى" لهم، وبسبب القرب من معبر باب الهوى، الذي يشكّل عامل جذب للمدنيين في هذه المنطقة كونه المعبر الأول لتلقي المساعدات من الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية. بينما لا يرغب بعض السكان (أو النازحون الجدد) بالعيش في قرى مثل الأتارب وتفتناز وبنش كونها قريبة من طريق M4 الواصل بين حلب واللاذقية مرورًا بإدلب. تشكل جسر الشغور مساحة إستراتيجية لكل من النظام والمعارضة، سواء بموقعها المطل على سهل أو من ناحية التعداد السكاني البالغ حوالي 50000 نسمة، ولهذا فإن النظام يسعى إلى ضمها لصالحه حتى وإن كانت الآن ضمن منطقة منزوعة السلاح بجانب طريق M4. يمكن الإشارة هنا إلى عملية تطهير طائفي للمناطق التي يرغب النظام بالسيطرة عليها في الشمال السوري، وتسير ضمن منهجية واضحة لإجبار السكان من الطائفة السنية على النزوح إلى "إدلب الصغرى" من أجل تأمين القرى التي يقطنها علويّو ودروز ومسيحيّو إدلب، في قرى سهل الغاب والمناطق القريبة من جسر الشغور.

سهل الغاب (رويترز)
سهل الغاب (رويترز)

هذه الكثافة السكانية، والقوة العسكرية لفصائل "هيئة تحرير الشام"، والغطاء التركي للفصائل في المنطقة المختصرة من إدلب، من شأنه أن يجعل هذه المنطقة عرضة للفصل عن سورية إداريًا وسياسيًا لا سيما وأن الحفاظ عليها من مهام ما يقارب 9000 جندي تركي وحوالي 12 من نقاط الجيش التركي المنتشرة على الطرف الشمالي لإطار طريق M4. ليس من مصلحة تركيا أن تبقى حدودها مصدر قلق لأمنها الداخلي، كما أنه ليس من مصلحتها أن تبقي حالة النزوح واللجوء إلى أراضيها من الجانب السوري على ما هي عليه؛ ولهذا فإن جلّ ما ترمي إليه تأمين منطقة بمساحة جغرافية تضمن من خلال إدارتها المستقبلية أمنها القومي على المدى البعيد، وإن كان عبر بذل جهد عسكري.

دور القوى الدولية والإقليمية

يمكن أن يلتقي سؤال النقطة الثالثة من مهام الوكلاء في أطروحة تيلي حول مشروعية حماية الجماعات القائمة بالحرب وتوفير الدعم لها مع نسق الاتفاقيات الحاصلة بين القوى الإقليمية والدولية ودعمها للأطراف المتنازعة للقيام بأعباء المرحلة المقبلة في إدلب. تأخذ صناعة الحرب في سورية أبعادًا أكبر مما صممت له المعارك خاصة في ضوء وجود قوى إقليمية ودولية ضامنة كثيرة. وبالتالي، وصلت هذه الصناعة إلى توليد حركات عسكرية (ربما أقرب للانفصالية) أيديولوجية في غالبها، وترى في كيانها قدرة على تأسيس كيان ذاتي الإدارة. يختلف نمط بناء القوة العسكرية في مناطق سورية بعد عام 2011 عن نمط بنائه قبلها، من ناحية أنّ القوة في سورية هي نتاج صراعات داخلية أنشئ استجابةً لها جيش وقوى أمنية وأجهزة مخابرات من أجل حماية القوى المستأثرة السلطة. أما بعد عام 2011، وفي مناطق معينة من قبيل شرقي وشمالي سورية، لم تكن الفصائل العسكرية بوارد استغلال سطوتها إلا بعد أن رأت دعمًا يمكّنها من فرض نوع من القوة واحتكارها لصالحها على طريق إدارة مناطق بعيدًا عن سلطة النظام السوري من جهة والحكومة الانتقالية (حكومة الإنقاذ) من جهة أخرى.

توفّر القوى الدولية الدعم والخبرات والتمويل لهذه القوى للانفصال واحتكار القوة، لكن ضمن مساحة لا تتعدى حدودها اتفاقيات الحماية والإقرار الشرعية. إلا أنه، على الطرف المقابل، يبدو حديث المسؤولين الأتراك، وأبرزهم وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، حول اللاجئين السوريين في تركيا والنازحين الداخليين في سورية أقرب إلى كونه استغاثة دولية يضع الأتراك من خلالها ورقة اللاجئين كأداة ضغط على المجتمع الدولي في سبيل تحقيق اعتراف بإقليم (أو حتى تابعية) تشرف عليها أنقرة وتقدم فيها المساعدات عبر منظمات دولية تنسق مع النظام التركي، وتعوّض من خلاله فاتورة معارك الشمال السوري. إذا ما صح الحديث عن إنشاء منطقة آمنة للاجئين السوريين الذين سيُرحّلون من تركيا، فإن هذا سيزيد من العبء الاقتصادي والسياسي على الاتحاد الأوروبي، وسيضطر الاتحاد إلى تمويل تركيا بما لا يقل عن 40 مليار دولار لتعويض الفاقد الاقتصادي خلال سنوات الأزمة في سورية. ترمي أنقرة من خلال ترويجها لـ"غزة جديدة" في إدلب، شمالي سورية، إلى جرّ الاتحاد الأوروبي والقوى الدولية والإقليمية العاملة في سورية إلى الاعتراف بقوة أنقرة العسكرية والسياسية والدبلوماسية، وقدرتها على إدارة مفاوضات وخوض معارك على الأرض، مقابل عجز وفشل هذه الدول عن الوصول إلى حل يضمن استقرارًا في الشمال السوري.

المصادر والمراجع:

تشاووش أوغلو: إدلب غزة جديدة.

تركيا تصف إدلب بغزة جديدة: ما أوجه الشبه

Tilly, Charles, and Catherine Besteman. "War making and state making as organized crime." Violence: A reader (1985): 35-60.

ساتيك، نيروز (2015). هل يمكن تقسيم دول المشرق العربي؟ سياسات عربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (15).

أوباما يعلن انسحاب القوات الأميركية من العراق بحلول نهاية العام 2011.

جسر الشغور، الهدف القادم للجيش السوري مطلع العام الجديد

[1] Cantons: أقاليم تأخذ حكمًا ذاتيًا داخل حدود الدول الأم.

[2] ساتيك، نيروز. (2015). هل يمكن تقسيم دول المشرق العربي؟ سياسات عربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (15).

[3] Wolff, S. (2009). Complex power-sharing and the centrality of territorial self-governance in contemporary conflict

settlements. Ethnopolitics, 8, 27–45.

[4] Gunter, M. (2008). The Kurds ascending: The evolving solution to the Kurdish issue in Iraq and Turkey.

New York: Palgrave

[5] مصدر سابق

التعليقات