آلاف الأعوام من الهيمنة المصرية على النيل قد يمحيها سد النهضة

تُهدد النيل، شريان حياة مصر، عدة أمور أهمها سد "النهضة" الذي من المتوقع أن يلغي وجوده إرث السيطرة المصرية عليه، والتي استمرت لآلاف الأعوام

آلاف الأعوام من الهيمنة المصرية على النيل قد يمحيها سد النهضة

( Laura Boushnak، New York Times)

تقترب إثيوبيا من إنهاء تشييد سد "النهضة"، الذي من المزمع افتتاحه بشكل رسمي في الصيف المُقبل، لتسيطر بشكل تام على النيل، في خطوة بات يشعر بها المصريين، وخصوصا المزارعين منهم.

وأعدت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تقريرا تحت عنوان "لا وجود لمصر دون النيل"، استعرضت من خلاله آخر التطورات في ملف المفاوضات المصرية الإثيوبية حول حصص المياه السنوية، متناولة بعض الآثار الإيكولوجية التي سيخلفها هذا السد على مصر.

واستهلت الصحيفة تقريرها بإجراء مقابلة مع أحد المزارعين المصريين، الذي وصفته بأنه كان يقف بحقل مليء بالتراب، يرثي حياته السابقة، فقبل أعوام قليلة فقط، كان هذا حقل مملوء بالدفيئات المملوءة بالقمح والطماطم، أما اليوم، فالصحراء تأكل أراضيه، بسبب عدّة أسباب أهمها، تناقص مياه النيل.

أطفال مصريون يلهون بمياه النيل
( Laura Boushnak، New York Times)

وأشارت الصحيفة إلى أن السد الذي يحتوي على خزان بحجم لندن، والأكبر في أفريقيا، يُعد رمزا لطموحات إثيوبيا بأن تتحول للدولة الأقوى أفريقيا، حيث أن المشروع الضخم من المتوقع أن يضيء ملايين المنازل، وأن يتيح للبلاد جني المليارات من مبيعات الكهرباء إلى الدول المجاورة.

وقالت الصحيفة إن المشروع الضخم الذي مرّ بعقبات متعلقة بالفساد وموت كبير مهندسيه بشكل غامض، بات في مرحلته الأخيرة، وهي تثبيت التوربينات، وسينتهي تشييده في تموز/ يوليو المقبل، في تهديد هائل لمصر.

مفاوضات عقيمة و"سخافة" مصرية

سلط التقرير الضوء على المفاوضات المتعثرة التي استمرت لنحو ثمانية أعوام بين البلدين، حول حصة مصر من مياه النيل، والتي انتقلت إلى واشنطن في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، لكي يتوسط فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي يضغط على الطرفين للتوصل إلى اتفاق ينظم حصص المياه بينهما، حتى نهاية شباط/ فبراير الجاري.

لكن الصحيفة أكدت بناء على تصريحات مسؤولين مصريين وإثيوبيين، أنه من غير المرجح أن يتوصل الطرفان إلى صفقة في الموعد المحدد من قبل واشنطن، بسبب عمق الخلاف حول النيل.

وأشارت في هذا الصدد إلى حجم الأزمة التي من المتوقع أن تواجهها مصر بعد افتتاح سد "النهضة" رسميا، خصوصا أن 95 في المئة من المصريين يعيشون على ضفتي النيل، والذي يوفر النسبة الساحقة من المياه التي يستهلكونها.

ولفتت إلى أن وزير المياه الإثيوبي، سيلشي بيكلي، وصف طلبات مصر من مياه النيل بـ"أسخف ما سمعته على الإطلاق"، كما أشارت إلى أنه برغم دفع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في مؤتمر صحافي في القاهرة عام 2018، لقول: "والله، والله، لن أقوم بأي ضرر للمياه في مصر"، إلا أن أعمال إنشاء السد استمرت كالمعتاد دون أي توجه جدي من قبل إثيوبيا لحل الخلاف.

جانب من سد "النهض"
​( Laura Boushnak، New York Times)

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بالطبع، فإن أحمد، والذي اعتبر السيسي تعهده في المؤتمر بمثابة "طمأنة" للمصريين، قال في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مع تصاعد التوتر حول السد: "ما من قوة في العالم يمكنها" أن تمنع إثيوبيا من إتمام السد، ملمحا إلى احتمال خوض حرب مع مصر في حال سعت إلى اتخاذ إجراءات عدائية ضد السد.

وذلك أتى كما بدا في حينه، ردا على ترديد وسائل الإعلام المصرية التابعة بمعظمها الساحق للنظام، أو المؤيدة له، تهديدات بـ"احتمال" أن يشن السيسي حربا للسيطرة على النيل، اعتبرها الكثيرون شعارات "خاوية".

وهذه ليس المرّة الأولى التي يتصاعد بها التهديد بالحرب بين البلدين، فقد قال الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، في سبعينيات القرن الماضي، عندما ألمحت إثيوبيا إلى احتمال إنشاء سد عن منبع النيل، الذي يقع ضمن أراضيها: "لن ننتظر لنموت من العطش في مصر. سوف نذهب إلى إثيوبيا ونموت هناك".

أما عن الوساطة الأميركية، فقد قال دبلوماسيون غربيون إن المفاوضات التي تجرى بوساطة البيت الأبيض والبنك الدولي لم تسر كما كانت تأمل مصر، فرغم العلاقات الوثيقة بين ترامب والسيسي، والذي يصفه الأول بأنه "الديكتاتور المفضل لدي"، فقد اضطرت مصر للتنازل عن مطالبها الرئيسية من النيل.

مع ذلك، أقر مسؤولون إثيوبيون، أن ترامب يضغط عليهم للتوصل إلى اتفاق مع مصر.

النيل يواجه ما هو أصعب من السد

قالت الصحيفة إنه في حين أن الدولتين تركزان بشكل أساسي على خلافهما حول النيل، فإن علماء الهيدرولوجيا يدعون أن التهديد الأكثر إلحاحًا الذي يواجه النيل ينبع من الانفجار السكاني وتغير المناخ. فيزداد عدد سكان مصر بمقدار مليون شخص كل ستة أشهر - وهو معدل مرتفع تتوقع الأمم المتحدة أنه سيؤدي إلى نقص المياه بحلول عام 2025.

شلالات النيل الأزرق
( Laura Boushnak، New York Times)

ويهدد ارتفاع منسوب سطح البحر، بالتدفق إلى ساحل مصر المنخفض والمساعدة في دفع المياه المالحة إلى الداخل، مما يفسد الأرض الخصبة، كما أن الطقس المتقلب بفعل التغير المناخي، يزيد من المخاطر.

وأظهرت دراسة نشرها باحثون من كلية دارتموث، في آب/ أغسطس الماضي، أنه على الرغم من أن من المرجح أن تزداد الأمطار في حوض أعالي النيل على مدار القرن القادم، فإن معدل قدوم الأعوام الحارة والجافة، قد يزداد بالضعفين أو أكثر في الفترة ذاتها، موضحة أن "الحياة ستزداد صعوبة على المزارعين في النيل".

وتدعي إثيوبيا أن تخزين المياه في المنبع، بمساعدة السد، سيساهم بتقليل هذه العوارض، لأنها ستكون أقل عرضة للتبخر منه في مصر الأكثر جفافا.

إهمال مصري

قالت الصحيفة إن السيسي اتخذ إجراءات ضعيفة جدا للحول دون الكوارث المترتبة على تراجع النيل إما بسبب السد الإثيوبي أو التغير المناخي، ومنها فرض قيود على المحاصيل كثيفة الاستخدام للمياه مثل الأرز والموز، المصحوبة بالخطب التي يقدمها الشيوخ بأوامر من النظام، أيام الجمعة، والداعية لتقليل استخدام المياه.

سد "النهضة"
( Laura Boushnak، New York Times)

وأضافت أنه برغم "قدسية" النيل لدى المصريين، إلا أنهم "يسيئون استخدامه بقدر ما يبجلونه"، لافتة إلى سوء الإدارة الحكومي، للصرف الصحي، والتي تصب نسبة كبيرة منها في النيل، كما أن القمامة تسد قنوات الري التي يحتوي عليها.

وأشارت إلى أن العاصمة الإدارية الجديدة التي يشيدها السيسي في الصحراء، من المتوقع أن تزيد من مستويات انخفاض مياه النيل.

الخلاف سياسي في الأصل

تناولت "نيويورك تايمز" الخلاف التقني حول كميّات المياه في تقريرها، بشكل مقتضب لكنها أشارت بشكل خاص إلى الرغبات السياسية للسيسي، وأحمد في دولتهما، مشيرة إلى أن الأول الذي يعتقل عشرات آلاف المعارضين في سجونه، يسعى إلى الحفاظ صورته "الأمنية" القوية، أما الثاني، فيسعى إلى أمور كثيرة أهمها الانتخابات المُقبلة التي من المزمع عقدها في وقت لاحق من العام الحالي.

وأشارت إلى أن أحمد يتعرض لضغوط من مواطني بلاده الذين مولوا السد عبر شراء سندات حكومية، إضافة إلى أن إتمام السد سيمنحه مصداقية أمام الشعب الإثيوبي، فهو مشروع ضخم يساهم في تعظيم نظرتهم لدولتهم باعتبارها قوّة إقليمية ناشئة.

مشاهد من أثيوبيا
( Laura Boushnak، New York Times)

وتملك إثيوبيا أحد أسرع الاقتصادات نموا في العالم، ويوفر السد فرصة لتصبح أكبر مصدر للطاقة في أفريقيا، ومثلما هو الحال في مصر، يعد نهر النيل من رموزها الأساسية.

وتعززت قوة آبي أحمد وطموحاتها، مع تنامي قوة بلاده الجيوستراتيجية، ففي الأعوام القليلة الماضية، تتنافس دول كثيرة، منها الإمارات والصين والولايات المتحدة، على ترسيخ نفوذها في القرن الأفريقي، حيث تقع إثيوبيا، والتي أحرزت أيضا، نصرا دبلوماسيا كبيرا في المفاوضات حول السد عندما أقنعت السودان، والتي كانت يقف إلى جانب مصر تقليديا، أن تقف إلى جانبها في النزاع.

وفي المقابل، يبدو أن السيسي يحاول كما يبدو، أن يحل الأزمة بطرق أخرى قد لا تبدي نجاعة على الأرجح، ومنها تعزيز علاقات مصر مع خصوم إثيوبيا، وشحن الأسلحة إلى حكومة جنوب السودان، بحسب ما قاله محققون من الأمم المتحدة، أو الهجوم الديبلوماسي على إثيوبيا لحشد دعم الدول المجاورة.

التعليقات