العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (1/4)../ محمد جمال باروت

انطلقت الأحداث الأخيرة التي تشهدها سوريا من مدينة درعا التي يحتلّ فيها ارتفاع معدّل النموّ السكاني المرتبة الثانية على المستوى الوطني

العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (1/4)../ محمد جمال باروت

اندلعت في سورية منذ شباط / فبراير2011، اعتصامات وتجمعات، بعضها منظّم بطرائق عمل الشباب، كالاتصال المباشر ومواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية، وبعضها "تجمهري" عفوي. وقد جرت هذه الأحداث في المدن "المئة ألفية" الصغيرة، وفي بعض مراكز المدن الكبيرة في المنطقتين الوسطى والساحلية، بينما بقيت المدن" المليونية" الكبرى بمنأى عنها تقريباً الأمر الذي جعل انتشارها الأكبر يقع في المدن الصغيرة والمتوسطة "الطرفية" و"المهمّشة". وقد حدثت فصولها الأعنف في المدن الـ "طرفية" ولاسيما في درعا ثم في دوما، والتي تعاني في مجملها، ولاسيما درعا وريف دمشق، التهميش المتعدد الأبعاد، وتعسّف السلطات المحلية وسلطاتها "الكبيرة" الاعتباطية غالباً، ومحدودية تساقط آثار عملية النموّ الاقتصادي عليها، وتدنّي مؤشّرات تنميتها البشرية، وانتشار البطالة والفقر، وارتفاع أعباء الإعالة العمرية والاقتصادية فيها، لكن ما يجمعها إلى حركات الشباب في مدينة دمشق هو أنّ قوامها البشري ينتمي إلى الشريحة العمرية الشابة بتعريفها النمطي (15-24 سنة) أو الموسع (15-35 سنة) التي تعتبر أكثر الفئات حساسيةً وقابليةً للمبادرة، والتي تنتشر في صفوفها أعلى معدلات البطالة، كما ينتمي قسم منها إلى شريحة شابة عصرية متفاعلة مع "رياح الثورات" في البلدان العربية الأخرى.

انطلقت الأحداث الأخيرة التي تشهدها سوريا من مدينة درعا التي يحتلّ فيها ارتفاع معدّل النموّ السكاني المرتبة الثانية على المستوى الوطني، وهو ما يفسّر ارتفاع الكثافة السكانية في مجالاتها المعمورة إلى نحو300 نسمة/كم2، وارتفاع الضّغوط العمرانية على مورد الأرض، حيث أنّ مساحة المجال المعمور فيها تشكّل نحو 79% من إجمالي مساحتها. وتبلغ الضغوط السكانية والعمرانية ذروتها في مدينة درعا باعتبارها المركز المتروبوليتاني لظهيرها، وتمتصّ جزءاً كبيراً من الهجرة الداخلية المتدفقة إليها من قرى ذلك الظهير، وهو ما يفسّر ارتفاع معدل نمو عشوائياتها، واحتلالها مساحةً لا تقل عن12% من إجمالي مساحتها العامة[1]. وارتفاع وتيرة الحراك الاجتماعي فيها، بما هو بحسب كارل دويتش، حالة اجتماعية تتسم بتزايد الحركية الجغرافية (الهجرة الداخلية)، والمهنية، وسرعة تواصل الأفكار وانتشارها وكثافة الاتصالات [2].

وتشبه مؤشرات التنمية البشرية فيها المؤشرات المتدنية و "المقلقة" في المناطق الشرقية (الرقة، دير الزور، الحسكة، ويضاف إليها ريف حلب الشرقي). وجراء ضمور المشاريع التنموية العامة والخاصة فإن درعا تندرج في عداد المحافظات الأكثر تصديراً للهجرة الطويلة والدائرية بسبب ضعف مردودية الإنتاج الزراعي للمساحات الصغيرة والمتناهية في الصغر والمتذرّرة نتيجة الإرث. وبسبب تراجع هذا الإنتاج بعد ردم الآبار الجوفية (المخالفة)، وارتفاع التكلفة بعد رفع أسعار المازوت وتحريرها، فإنّ معدّل البطالة مرتفع فيها، وليس هناك إمكان لتصريف قوة العمل المتنامية إلاّ بالهجرة الداخلية أو الخارجية. ويغذّي ذلك ارتفاع نسبة المتسربين من التعليم الأساسي إلى 4%، بينما معدله الوطني الوسطي هو 2،8%. وهؤلاء ينضمون إلى أفواج الباحثين عن عمل، وغالباً ما يعملون في القطاع غير المنظم. ويفاقم تلك المشكلات التسرب المبكّر للإناث من التعليم الأساسي وزواجهن المبكر، حيث يتزوج ما لا يقل عن 30% من الإناث ما قبل الثامنة عشرة، مقابل 11% على المستوى الوطني، وهو ما يرفع تلقائياً معدّل خصوبة المرأة الكلية والزواجية معاً. وتتضافر هذه الآثار برمتها مع قوة النسيج الاجتماعي التضامني الذي يشكّل على مستوى وظيفته حمايةً نسبيةً من الضعف والتهميش وفقدان الأمان الاجتماعي.

 وعلى الرغم من أن مجتمع درعا متحضر تاريخياً، وفوق ذلك شديد "التمدين"، وأن عملية التمدين المتسارعة فكّكت الروابط العشائرية التقليدية "الحضرية"، فإن هذه الروابط ما زالت تحتفظ في "الملمّات" بقوتها على نحوٍ ما، وبقدراتها على التعبئة والاصطفاف. و توفّر هذه الروابط لبنيها لحمةً اجتماعية تضامنية. وبذلك تتجسم درعا كمجتمع متأخر في مؤشرات تنميته البشرية، ومحدودٍ في مصادر نموّه من جهةٍ، وبارتفاع معدل البطالة فيه، ولاسيما في شريحة الشباب، وكذلك بارتفاع معدل إعالة الفرد، في شروط ضيق أبواب الهجرة التي كانت تمثل متنفساً كلاسيكياً للأزمات. ووفق التقسيم النوعي للأقاليم السورية على مستوى مؤشرات التنمية البشرية، وتبعاً لذلك على مستوى الفقر، فإنّ درعا تقع في نطاق المناطق الشرقية والريفية الشمالية، وتشكّل جزءاً من قصة مرارة التنمية فيها وتعثّرها. ويترافق ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة فيها، وضعف شبكة الضّمان الاجتماعي، مع هشاشة العمل الجمعياتي الخيري والتنموي والدّفاعي(*) على المستويين الكميّ والنوعي، ففي محافظة درعا كلّها لا توجد إلاّ عشر جمعيات فقط لها بعض الفروع، بينما تفترض عملية التنمية وتدابير التحرير الاقتصادي تفعيل دور القطاع الجمعياتي في عملية التنمية، وتخفيف الآثار السلبية لعملية التحول إلى اقتصاد السوق، والتعويض نسبياً عن هشاشة شبكة الضّمان الاجتماعي.

 وعلى غرار ما حدث ويحدث في البلدان العربية الأخرى التي تجتاحها رياح التغيير، فإن الشباب شكّلوا عماد هذه الأحداث والتجمعات. ولقد بدأت هذه الأحداث بشكل سلمي طارحةً مطالبَ ديموقراطية في حالة اعتصامات الشباب العصري، أو جامعةً مطالب تنموية وديموقراطية، وطنية ومحلية، وهو ما عبّر عنه رمزياً شعار "حريّة"، بينما كان بعض هذه المطالب ثقافياً محافظاً. ولكن التظاهرات كلها كانت تُجمِع على الحرية. ثم أخذت هذه الحركة تتسارع بوتائر "دراميةٍ" داميةٍ ومفجعةٍ كاشفةً عن حجم "الاحتقان" العام المتراكم و"المكبوت" والمتفجّر الآن، والمنفتح على احتمالاتٍ شتّى قد تنوس بين المخرج الوطني التوحيدي نحو التحول الديموقراطي، والإصلاح المؤسسي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الشامل، والتمزق الاثني الأقوامي والطائفي، وفي مستوى معيّن من تطور الأحداث ربما يتدخّل لاعبون خارجيون في مجرى التطورات بشكل مباشرٍ أو غير مباشر لتحقيق أهداف أخـرى لا صلة لها بتطلعات حركات الشباب إلى الديموقراطية والتنمية، وقد تتصل بتصفية حساباتٍ جيو- سياسيةٍ مع النظام السياسي السوري، ودوره الإقليمي، واحتمالاتٍ أخرى غير مرصودة الآن، بسبب اتّساع مساحة عدم" التيقن" منها. علاوة على حصة "المفاجآت" في مثل هذه الحالات.

 الواقع أنّ مؤشرات دخول سورية إلى ما يمكن تسميته "قوس الأزمات" قد بدأت بشكلٍ متفرقٍ وجزئي ما بين 2001 و 2004، من خلال الصدامات بين بدو السويداء وحضرها التي ظلّت تغطي معظم سنوات النصف الأول من القرن العشرين، وصدامات بين إسماعيليّين وعلويّين ظلّت تستعاد أحداثها على طريقة "المعاد" في اللاّشعور الجمعي ومدّخراته التقليدية الموروثة في صورة صراعات مذهبية- طوائفية قديمة كامنة، وبين عرب وأكراد في مدينة القامشلي التي تتّسم بارتفاع حدّة التوتر الاثني- الأقوامي. وكان أبرز هذه" الأزمات" وأكثرها حدّةً أحداث آذار/ مارس 2004 في القامشلي. وتكمن عوامل ما حدث في القامشلي في طائفةٍ متعددةٍ ومختلفةٍ من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإثنية والسياسية. غير أن تلك الأحداث عبّرت، على المستوى الظاهر، عمّا يمكن وصفه تساقط "الآثار" الجيو- بوليتيكية لعملية احتلال العراق في الفضاء الاجتماعي السوري الذي يتّسم تاريخياً ببنيته الإثنية والثقافية التعددية. يقابل ذلك بروز بعض مظاهر الاحتجاج المدنية السلمية الجديدة في سورية في فترة ما بين 2001 و 2004، كاعتصام عمّال بسبب تأخر رواتبهم، واحتشاد سائقي تاكسي الخدمة العامّة أمام مبنى أحد المحافظين احتجاجاً على قرارات "إدارية" "مجحفة" بمصالحهم، واصطفاف بعض سكان العشوائيات في مواجهة محاولة إزالة بعض المخالفات أو المنازل. واقتصرت الظاهرة الحديثة في التجمّع على حشود الشباب وناشطي اللجان الديموقراطية الجديدة، وبعض ناشطي أحزاب المعارضة" الديموقراطية" حول مباني المحاكم إبان جلسات محاكمة بعض الناشطين.

 يمكن أن تفسّر نظرية "تساقط الآثار" بعض عوامل الأحداث التي تشهدها سورية، لكن لهذه النظرية حدودها في التفسير، وكذلك محاذيرها في التعميم. إذ لا يمكن أن تتساقط الآثار من دون سياق داخلي يقبلها ويتفاعل معها. فضلاً عن أنّ نظرية "تساقط الآثار" يجب أن تلحظ تشابه النظم الاقتصادية - الاجتماعية- السياسية التسلطية العربية الذي يضفي على تلك الآثار تساقطها بل وتشابهها في بعض الأحيان. ويعني ذلك أن تساقط الآثار لا يعدو كونه من قبيل تحفيز التشابهات القائمة.

والواقع أنّ البلدان العربية كافة تواجه احتمال وقوع أحداث تحاكي المشهد التونسي وما تلاه لأسباب متعددة. فقد دخلت معظم هذه البلدان في ما تطلق عليه دراسات السكان والتنمية مرحلة "انفتاح النافذة الديموغرافية" التي يرتفع فيها، على مستوى العرض الديموغرافي، معدل نمو حجم السكان في قوة العمل (15-65 سنة) بأعلى من معدل النمو السكاني، ومن معدل نمو الشرائح العمرية الأخرى الطفلية والمسنةّ. بينما يتسم العرض الاقتصادي بمحدوديته في استيعاب هذه القوّة المتنامية، وهو ما يولّد التوتّر بين العرض الديموغرافي الكبير والطلب الاقتصادي المحدود، ويؤدّي ببساطة إلى ارتفاع معدّل البطالة والتهميش الاقتصادي- الاجتماعي. وهذه الزيادة السنوية الكبيرة في قوة العمل يمكن أن تتحوّل إلى "هبةٍ" أو "نعمةٍ" ترفع معدلات النمو الاقتصادي أو إلى "نقمةٍ" في حال ضيق الطلب، وضعف توفير فرص العمل، فالنافذة الديموغرافية يمكن أن تنفتح على "بستان أخضر" أو "أرضٍ بور"[3].

 بهذا الشكل يكون المشهد التونسي مشهداً كامناً في أيّ بلدٍ من البلدان العربية. وما يجمع، إضافةً إلى ذلك، بين أسباب الثورات والتوترات الاجتماعية- السياسية المندلعة في أكثر من بلدٍ عربي هو نمط التنمية التسلطي في نظمٍ بوليسيةٍ أو نصف بوليسيةٍ، والذي أفضى نمطياً إلى تساقط ثمار النمو في سلّة "رأسمالية الحبايب والقرايب"، وتشويه التحرير الاقتصادي (اللبرلة) واستبداله بـ "احتكار القلّة"، وتكوين "منافسة احتكارية" في مكان السوق الحقيقية من جهةٍ أولى، وسيادة البنى التسلطية- الأمنية في العلاقة بين الدولة والمجتمع بدلاً من سيادة بنى القانون من جهةٍ ثانيةٍ، وانكماش الطلب الاقتصادي مقارنة باتساع عرض قوة العمل ومحدودية الطلب، ولذلك نتيجة واحدة هي البطالة وعقابيلها من جهةٍثالثةٍ، وتشوهات تساقط آثار التنمية على الأقاليم، وخلق فجواتٍ بين شمال وجنوب في داخل التشكيلة الوطنية الواحدة من جهةٍ رابعةٍ.

 تشترك سورية مع الدول العربية كافة في هذه الخصائص، وبالتالي ليس هناك معنى جوهري للتميزات غير الاعتيادية. ولفهم العوامل الداخلية العميقة التي تكمن خلف هذه الأحداث، لا بدّ من العودة إلى جذور هذه العوامل، ومقاربة كيفية اشتغال دينامياتها، وتطور مؤشراتها ومظاهرها. وتشكل المقاربة التنموية بمعناها المركّب الذي يربط النمو بالتنمية، ويتخطى حدود المقاربة "الاقتصادويّة" الضيّقة إحدى أهم المقاربات التي تسمح بفهم هذه العوامل على مدى سلسلةٍ زمنيةٍ طويلةٍ نسبياً، وتقدير مشاهدها الاحتمالية. وتتطلب طبيعة علم الاقتصاد نفسه تجاوز تلك المقاربات "الاقتصادوية". فعلى الرغم من اجتياح النزعة "الكميّة" هذا العلم في سياق اجتياحها العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن علم الاقتصاد، كما يعرف كثيرون، لا يقتصر على التحليل الوضعي المحايد بل لا بدّ أن يشمل الجانب القيمي المعياري (normative) الذي يعتمد في فهم طبيعة النشاط الاقتصادي وسياسات توجيه هذا النشاط، دالاّت إنسانية واجتماعية وسياسية مثل "دالّة الرفاه الاجتماعي" social welfare function. ولذا قّلما يجمع الاقتصاديون على وصفةٍ واحدةٍ للمشكلات [4].

 تسمح هذه المقاربة بتحديد حصة هذه العوامل في الأحداث الجارية والمتسارعة مثل كرة الثلج أو بالأحرى "النار"، إذ إن آثار عملية "إعادة الهيكلة الاقتصادية" ونتائجها بمصطلحات صندوق النقد الدولي، والتي اتسمت بارتفاع وتائرها في العشريّة الأخيرة في سورية تتخطى بطبيعتها المستوى الاقتصادي البحت إلى أحياز الحياة الاجتماعية- الاقتصادية- السياسية- الثقافية كافة، وتعيد تشكيل هذه الأحياز، وتفضي إلى تغييراتٍ عميقةٍ في علاقة "القوة"( Pouvoir) بالسلطة (Autorite). وبهذا المعنى فإن إعادة الهيكلة الاقتصادية لا يقتصر تأثيرها على المتغيرات الاقتصادية التي قد يكون التأثير فيها مبرراً في حد ذاته (مثل عجز الموازنة وحجم المديونية وغير ذلك)، بل يُلحِقُ بالحالة الاجتماعية والسياسية (ولا سيما في المراحل الأولى لإعادة الهيكلة) آثاراً، كثيراً ما تكون محفوفة بالمخاطر التي تهدد أمن شرائح وطبقات اجتماعية واسعة.

 كي نفهم هذه العوامل لا بدّ من تأكيد التمييز بين النمو الاقتصادي والتنمية، فمعدّل النمو المرتفع لا يؤدي وحده إلى التنمية الاقتصادية- الاجتماعية، ما لم يرتبط بسياساتٍ تتجاوز النموّ "الكمي" إلى تحقيق تنمية "نوعية" مستدامةٍ. فالنموّ في ذاته لا يفضي إلى التنمية لكنه شرط لا بد منه. ويمكن معرفة متى يفضي النمو إلى تنميةٍ مستدامةٍ من خلال الإجابة عن الأسئلة المحدّدة التالية: ماذا حصل للفقر المطلق؟ ماذا حصل للبطالة؟ ماذا حصل لتوزيع الدخل؟[5].

 في محاولة الإجابات المحتملة عن هذه الأسئلة-الإشكاليات لا بدّ من القول إن كافة البلدان العربية تستوي في ذلك، وتختلف في الدرجة وليس في النوع. وربما يفسر هذا الأمر انتقال رياح عملية التغيير كالنار في الهشيم في هذه البلدان، وتساقط آثار ما يحدث في أي بلدٍ على البلد الآخر، مطوّحين في مجال التنمية على وجه التحديد بأساطير عدة مثل القول إن "مصر ليست تونس" و "سورية ليست تونس وليست مصر"، إذ إن السياسات الاقتصادية- الاجتماعية- المؤسسية التي اتبعتها هذه البلدان، كما سائر البلدان العربية الأخرى التي تجتاحها رياح التغيير، ترتد في حقيقتها إلى نموذجٍ تنموي واحدٍ، هو نموذج اللبرلة الاقتصادية التسلطية. ولأسباب سياسية "حوكمية" تأخرت سورية في السير في طريق ذلك النموذج مقارنةً بالبلدان العربية الأخرى، ولكنها بدلاً من ذلك سارت في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وفي النصف الأول من التسعينيات (1987 ـ 1996) في طريق ما يمكن تسميته مرحلة التحرير الانتقائي الثاني في التاريخ الاقتصادي- الاجتماعي السوري خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي يمكن وصفها تجاوزاً بمرحلة الإصلاح الثاني بحسب مفهوم المؤسسات الدولية للإصلاح الاقتصادي. بينما حدث التحرير الجزئي الأول في النصف الأول من السبعينات لأسبابٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ، لكن سببه السياسي كان هو الأوضح، وارتبط ببرنامج الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد قيامه بالحركة التصحيحية (16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970) في الانفتاح على المدينة السورية، ومحاولة استيعاب دورها في سياسات الحركة. وفي أواخر التسعينيات وعبر العقد المنصرم من القرن الحالي شهدت السياسة الاقتصادية في سورية مرحلة التحرير الثالث الذي تميز بالتحول، بلغة صندوق النقد الدولي لبرامج الإصلاح الاقتصادي، من سياسة التثبيت النقدي إلى إعادة هيكلةٍ اقتصاديةٍ- اجتماعيةٍ-سياسيةٍ شاملةٍ. وتتحدّد إشكالية هذه المقاربة بتوصيف ثم تحليل حصة هذه العملية في الأحداث والاضطرابات والتظاهرات والاعتصامات التي تشهدها سورية اليوم، والتي تختلط فيها المطالب التنموية والديموقراطية والسياسية والثقافية في وقتٍ واحدٍ.

التركة الحرجة في محيط جيو- بوليتيكي مضطرب

 ورث الرئيس السوري بشار الأسد حين تولى رئاسة الجمهورية في العام 2000 وضعاً اقتصادياً - اجتماعياً- سياسياً ومؤسسياً "حرجاً"، ومشكلاتٍ اجتماعيةً - سياسيةً "معقدةً "كبيرةً" وغير محلولةٍ؛ "مرنةً" من طبيعة اجتماعية- اقتصادية - سياسية و "صلبةً" من طبيعةٍ جيو- بوليتيكيةٍ معقّدةٍ سرعان ما انفجرت طوال العشرية الماضية ولاسيما في نصفها الأول على خلفية استمرار محاصرة العراق واحتلاله، واندلاع حرب تموز/يوليو 2006، وتجريم "الانتفاضة" الفلسطينية، وقيام إسرائيل بأكبر عدوان على الشعب الفلسطيني. وتفهم انفجارات هذه التحديات" الصلبة" في ضوء ما تشرحه "نظرية الفوضى" وهي أن تطور منطقة الشرق الأوسط لا يجري وفق قواعد مضبوطة يمكن التنبؤ بها والتحكم فيها، بل يتم بأسلوب المفاجآت والقفزات والزلازل السياسية.

ما يهمنا هنا لأسبابٍ منهجيةٍ هو التحديات "المرنة" والتطرق إلى التحديات "الصلبة" في ضوء آثارها في طريقة حلّ تلك التحديّات ومناهجها. لقد اتسم هذا الوضع على مستوى التحديات "المرنة" بخصائص الأزمة الهيكلية أو البنيويةوسماتها، إلى درجةٍ يمكن فيها وصفه بالوضع "المأزوم" بنيوياً. وقد برزت مؤشرات اختلال هذا الوضع وتشوهاته على مختلف المستويات الاقتصادية- الاجتماعية - السياسية، بينما كان النظام السياسي يدخل- ولاسيما في العامين 1999 و 2000 اللذين تفاقم فيهما الوضع الصحي للرئيس الراحل حافظ الأسد، بشكلٍ أعاقه عن متابعة أمور الحكم بصورةٍ شبه كاملةٍ - في المراحل الأخيرة من هرمه وشيخوخة آلياته، وجموده المؤسسي، وتكلّس دور نخبه البيروقراطية العليا والوسيطة، واستشراء الفساد بمستوييه الكبير والصغير في أجهزته، وتضعضع قواعد عقده الاجتماعي- السياسي التي تشكل أساس القبول أو الرضى الاجتماعي به جراء سياسات الهيمنة، الأمر الذي طرح أسئلةً معقدةً وشائكةً عن مدى قابليته لتجديد ذاته أو رغبته عن ذلك؟ وعن طبيعة المقاربات التي تسمح له وللمجتمع السوري معاً بالخروج من أزمته البنيوية "الثقيلة".

تحدي النمو والخروج من الركود: رفع "حجم الحكومة"

على المستوى الاقتصادي البحت الذي يشكل العمود الفقري للتحديات "المرنة"، ورث الرئيس بشار الأسد وضعاً يتسم بالركود الاقتصادي، بما يعني العجز عن توفير فرص العمل للأجيال الشابة المنخرطة في سوق العمل، وارتفاع معدلات البطالة، ونمو القطاع غير المنظّم. فقد انحدر معدّل النمو الاقتصادي المرتفع نسبياً الذي عرفه الاقتصاد السوري في مرحلة التحرير الثاني الذي شهد، بدوره، نمواً اقتصادياً سريعاً بلغ وسطياً في الأعوام 1991-1996 نحو 7,33%، ثم انخفض إلى نحو 2.15% وسطياً خلال الفترة ما بين 1997و 2003، ثم إلى معدّل صفري أو سالبٍ في العام 2000[6] جراء إحجام القطاع الخاص عن مواصلة استثماراته، وتأثر مصادر النمو الاقتصادي السوري الريعية بشكلٍ غير مباشرٍ بالأزمة المالية الآسيوية التي وقعت في العام 1997، واستمرّت حتى العام 2000 مع هبوط سعر برميل النفط من 20 دولاراً في العام 1996 إلى أقل من 9،5 دولارات في العام 1998، ثم ارتفاعه نسبياً إلى 17،5 دولاراً في العام 1999 [7]، وهو ما أثّر سلبياً في عائدات سورية من القطاع الأجنبي الذي كان يموّل موازنتها العامة ومشاريع التنمية.

 لقد كان معدّل النمو الاقتصادي الحقيقي في الفترة الأخيرة أقل من معدل النمو السكاني "المرئيّ" المقدّر في الفترة ذاتها بحوالي 2،38% الذي يعتبر من المعدلات العالية للنمو السكاني في المنطقة العربية وفي العالم أيضاً، إذ يحتل معدّل النمو السكاني في سورية المرتبة الثالثة والعشرين بين معدلاته في دول العالم، وبينها 18 دولةً تقع في البلدان الأقل نمواً في جنوبي منطقة الصحراء الأفريقية[8].

 على الرغم من غياب معيار ثابت للعلاقة بين معدّلي النمو السكاني والاقتصادي فإنه يفترض، في إطار الربط بين النمو والتنمية، ألاّ يقلّ معدّل النموّ الاقتصادي الحقيقي في الشروط الاقتصادية- الاجتماعية - السياسية السورية في تلك الفترة التي تعرضت فيها ثمار عملية التنمية المحقّقة سابقاً للتآكل، عن ثلاثة أمثال معدّل النمو السكاني، أي ألاّ يقلّ عن 7% إلى 8% ، وهو معدّل نمو استطاع الاقتصاد السوري أن يبلغ إليه خلال العقود الثلاثة الأخيرة في مرحلة السبعينات (1971-1980)، حين وصل وسطياً، بفضل تعبئة الموارد والمساعدات الخليجية المقدّرة بنحو مليار ونصف المليار دولار سنوياً، إلى 10،5%، محقّقاً معدل نمو مرتفعاً جداً مقارنة بمعدلات نمو دول الخليج العربي التي شكّلت مساعداتها أحد أهم مصادر النمو الاقتصادي السوري" الريعية"، أو بتعبيرٍ أدق "الريعية الثانوية" باعتبار "الريع الأولي" هو المولّد للمساعدات في الدول المصدّرة للنفط. ففي تلك المرحلة حقّق الاقتصاد السوري تشغيلاً كاملاً لقوة العمل، بل كان معدّل نموه المرتفع يتطلب مزيداً من قوة العمل للتعويض عن الهجرة السورية إلى الخارج ولا سيما إلى دول الخليج التي ارتفع معدلها بشكل غير مسبوق، ووصل إلى معدل مرتفعٍ يبلغ نحو 10،8 بالألف [9]. وقد خسرت عملية التنمية بهذا الحجم الكبير كفاءات بشرية وسيطة وعليا كانت عملية التنمية في حاجةٍ ماسةٍ إليها، لكنها ربحت، من جانبٍ آخر، ارتفاع حجم التحويلات التي تصب في سياق تحسين النمو الاقتصادي وتطوير مستويات التنمية البشرية للعائلات المستفيدة منها.

 وجدت الحكومة نفسها في فترة (2001- 2005) إزاء تحديات الخروج من مرحلة الركود، مضطرةً إلى اعتماد وسائل تدخّل تنموية بسبب إحجام القطاع الخاصّ عن الاستثمار، وارتفاع حجم البطالة إلى ما يصل 16،2% من قوّة العمل[10]، وتدهور توزيع الدخل من الناتج المحلي الإجمالي الذي برز من خلال بعض المؤشرات التي كان بينها انخفاض حصة الرواتب والأجور في الناتج المحلي الإجمالي من 43% في العام 1996 إلى 38% في العام 2003[11]. لذلك خصّصت الخطة الخمسية التاسعة (2001- 2005) التي صمّمها "تنمويون" على رأسهم الاقتصادي الراحل عصام الزعيم، 69% من استثماراتها للقطاع العام و 31% للقطاع الخاص، ووضعت برنامجاً طموحاً للتشغيل ومكافحة البطالة، ورفعت بذلك حجم القطاع العام أو ما يطلق عليه اسم (حجم الحكومة) الذي يقاس بحجم الإنفاق العام الجاري والاستثماري الفعلي من الناتج المحلّي الإجمالي، ويعبّر عن درجة الدور التنموي للدولة في النشاط الاقتصادي- الاجتماعي ونوعه.

 في إطار تلك التوجّهات التنموية رفعت الحكومة حجمها من 24.6% في العام 1997 الذي انحسرت فيه موجة النمو السريع الثاني، إلى 30.5% في العام 2000، ثم إلى 33.66% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2004[12]. مستفيدةً من ارتفاع سعر برميل النفط خلال سنوات 2000-2004 من 24 دولاراً في العام 2000 إلى ما بين 28,1 و 36 دولاراً بعد الاحتلال الأميركي للعراق [13]، وتوسعت في الإنفاق الاستثماري في البنية التحتية ولا سيما في قطاع النقل الذي يمثل أحد أهم أعصاب قطاع الخدمات الإنتاجية، والذي أُنفق في تلك الفترة عليه أربعة أضعاف ما تمّ إنفاقه عليه خلال الخطة الخمسية الثامنة (1996-2000)[14]، وهو ما شكّل أساس تطور معدل نموه، وتطور مساهمته في الناتج وصولاً إلى 10% في العام 2010.

اتجاهات الفاعلين الاجتماعيين- السياسيين: الفرصة الضائعة

حاول خطاب القسم للرئيس بشار الأسد في العام 2000 أن يتبنى مقاربةً "إصلاحيةً" مؤسسيةً للخروج من هذه الأزمة. وقد أطلقت هذه المقاربة عملية حوار اجتماعي- سياسي نوعية وواسعة طرحت فيها جميع الأسئلة عن إشكاليات التحول من نمط الخطط والسياسات التي تصدر عن نموذج "التخطيط المركزي الشامل" إلى "اقتصاد السوق"، ومن البنية التسلطية (Autoritaire) الموروثة لمنظومة إدارة الدولة والمجتمع ذات السمات الشمولية (Totalitaire) إلى بنيةٍ ديموقراطيةٍ. ونمت في هذا السياق حركة المنتديات الثقافية- السياسية التي دارت نشاطاتها حول أولويات التحول الديموقراطي في ما أسمي "ربيع دمشق"، وتصدرها المثقفون، ولاسيما المثقفون اليساريون، والقوميون اليساريون الذين أخذ وعيهم يتطور بشكلٍ متسارعٍ منذ أواسط الثمانينيات بشكل خاص من القومية واليسارية التقليدية إلى الديموقراطية. وقد استقبلوا عموماً انتقال السلطة بشكلٍ إيجابي، وراهنوا على دعم توجهات الرئيس الشاب الذي منح شبابه وعداً لسورية بتجديد الحياة السياسية العامة، وإيجاد فضاء عام جديد.

 شكّلت هذه المنتديات التي جذبت أعداداً من الفئات الوسطى والشباب إلى حقل العمل العام بعد مرحلة عزوفٍ طويلةٍ، ورشة تدرّب على الديموقراطية، وكانت مهيأة، في ما لو تمت مواصلة خيارات الإصلاح المؤسسي، لتأليف أحزابٍ ديموقراطيةٍ شابةٍ جديدةٍ، متحررة من العقلية "الانقلابية" الراديكالية التي ميّزت وعي النخب الثقافية والسياسية، ومفضية إلى تجديد الحياة السياسية، وإنضاج رأي عام عصري تجري فيه أشكال التفاعل الاجتماعي- السياسي، وتنمو فيه أيضاً أنوية لأحزابٍ وتشكيلاتٍ سياسيةٍ معارضةٍ تعمل في إطار القانون. غير أن القيادة السياسية السورية، بما في ذلك القيادات الأمنية، أوقفت هذه الحركة، وضيقت على كوادرها، مقدمةً بعضهم إلى المحاكم، وراميةً بهم في السجون. وكانت حركة "المنتديات" نشطت في مرحلة" انقسام" تلك القيادة على الموقف من حركة "المنتديات" وصولاً إلى إيقافها في أيلول/ سبتمبر 2001 بشكلٍ شبه كاملٍ باستثناء منتدياتٍ محدودةٍ منها "منتدى جمال الأتاسي للحوار الديموقراطي" الذي يمثل واجهةً لـ "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض الذي ما لبث أن أغلق هو الآخر في ما بعد، إذ لم تستطع القيادة السياسية التي كان لبعض أشخاصها وجود قوي، أن تفكر في هذه المنتديات وأنويتها السياسية المحتملة والممكنة في ضوء ما وعد به خطاب القسم من "احترام للرأي والرأي الآخر"، وأن تقوم بعملية مأسستها، بل فكّرت فيها في ضوء آليات الإقصاء التسلطية التقليدية التي اعتادت عليها طيلة سنواتٍ طويلةٍ، وشكّل ذلك "فرصةً ضائعةً" لتجديد الحياة السياسية، وتفعيل المشاركة المجتمعية.

جدل التحريريين والتصحيحيين والتنمويين: لاعبون بازغون ولاعبون آفلون

 بينما وصلت مؤشرات الانفتاح السياسي إلى نهايتها، استمر الباب مفتوحاً بشكلٍ طليقٍ أمام قضايا الإصلاح الاقتصادي والإداري والمؤسسي، وأعطيت الأولوية لها. وفي هذا السياق عاد إلى الظهور الاستقطاب السابق "المضبوط" الذي "نظّمه" الرئيس الراحل حافظ الأسد عشية شروعه في عملية التحرير الثاني، بين "التحريريين" أو الليبراليين الاقتصاديين وبين "التصحيحيين" التقليديين. وكي نفهم تغير أوزان اللاعبين الاجتماعيين- الاقتصاديين- السياسيين أولئك في العشريّة الأخيرة لا بدّ من التوقف بعض الشيء عند هذا الاستقطاب.

أ‌- تشكل طبقة بيروقراطية مرسملة: كان قد تشكّل في السبعينيات، على خلفية مرحلة "النمو السريع" الذي بلغ خلال عقدٍ كاملٍ معدلاً سنوياً وسطياً قدره 10,5%، قطاع عام كبير اتسم فيه الاقتصاد السوري بخصائصه الريعية والتوزيعية التي وظّفتها النخبة السياسية في توسيع شبكة "الزبائنية" الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية، وتطوير آليات الاستيعاب والسيطرة. وقد استفادت جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية بدرجاتٍ متفاوتةٍ من هذه الطبيعة المزدوجة التي ارتبطت بنمط التنمية في دول الخليج العربي النفطية. لكن سورية انضمت إلى هذا النمط بشكل غير مباشر من خلال المساعدات الجيو- بوليتيكية الخليجية. وقد نما في إطار ذلك طبقة بيروقراطية مرسملة متموضعة في الشرائح البيروقراطية الحكومية والسياسية والعسكرية والأمنية العليا التي تنحدر في الأساس من الفئات الوسطى والفقيرة. ولقد وصفت هذه الطبقة في الأدبيات اليسارية بـ "البورجوازية البيروقراطية" المتحالفة مع "البورجوزاية الطفيلية". ويراد بالبورجوازية الطفيلية شرائح رجال الأعمال الذين عملوا مقاولين ثانويين للقطاع العام، أو في مجال الوساطة في عقود التجارة الخارجية التي كانت "العمولة" تشكل نسبةً كبيرةً من قيمتها الإجمالية. وهذان المصطلحان تبلورا في الأدبيات الشيوعية بدرجةٍ أساسيةٍ. كما يراد بالبورجوزاية البيروقراطية أو ما نسميه بالبيروقراطية المترسملة، أن نقطة تكوينها حدثت جراء "حيازتها" لجهاز الدولة. وكانت هذه الطبقة "تملك" الدولة من خلال" حيازتها" أجهزتها. ومن هنا كوّنت رساميلها من خلال استخدام "الإمارة" مدخلا لـ" التجارة" بالمصطلحات الابن خلدونية. وقد آلت إلى هذه الطبقة، بفعل عملية "نهب" المال العام الشديدة الجشع، حصة كبيرة من ثمار النمو الاقتصادي المرتفع جداً [15]. وشكلت تلك الحصة جزءاً من "الادخار السلبي" الذي استثمر في مشاريع الرفاه والأبهة، بينما وظّف "الأبناء" و "الأصهار و"الأتباع" جزءاً آخر منه في الشبكات "الزبائنية" السلطوية والتسلطية، وهو ما يمكن اكتشافه مباشرةً من خلال وجود هؤلاء في قوائم الاستثمار في السوق، أو بشكلٍ آخر من خلال الشراكات والواجهات مع قوى السوق "المقيّد" والذي تسيطر عليه بيروقراطية الدولة. ويعني ذلك، بمصطلحات العلوم الاجتماعية، أن هذه الطبقة قد امتلكت مصدراً اقتصادياً جديداً و"خاصاً" لقوتها(Pouvoir) يعزّز قدرتها على تطوير الشبكات "الزبائنية"، وامتلاك سلطة الأمر والنهي والثواب والعقاب في مجال هذه الشبكات. وهذه السلطة الآمرة هي أبرز محددات" القوة" الاجتماعية.

ب‌- قوة الطبقة البيروقراطية المرسملةكانت مصالح بعض أقطاب الطبقة البيروقراطية المرسملة أو ما أطلق عليه البورجوزاية البيروقراطية العليا قد اصطدمت بسياسات حكومة الدكتور عبد الرؤوف الكسم (1980-1987) لأسباب مختلفة، لكن ما كان يجمع بين هذه الأسباب كلها هو المصالح المباشرة أو المصالح "الزبائنية" التي مسّتها سياسات الكسم بدعم من الرئيس[16]. ونتج عن ذلك قيام هذه النخب بعملية ضغط كبيرةٍ على الرئيس الراحل حافظ الأسد للتخلص من هذه الحكومة، الأمر الذي دفعه إلى إقالتها في العام 1987، وتعيين الكسم، لغايات التوازن، في رئاسة مكتب الأمن القومي في القيادة القطرية لحزب البعث، وتأليف حكومةٍ جديدةٍ برئاسة المهندس محمود الزعبي ، والتي سيعبر بقاؤها حتى العام 1999 عن جمود دور النخبة، وتشكَّل طبقة بيروقراطية حكومية سياسية مسيطرة وفاسدة؛ فقد اتهم ثلاثة من أعضائها بصفقة فساد كبيرة، وحكم عليهم بالسجن. وتمثلت إحدى أهم وظائف هذه الحكومة في تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي الانتقائي وإجراءاته لجذب القطاع الخاص إلى الاستثمار بغية الخروج من الأزمة الاقتصادية "الخانقة" في الثمانينيات، وتوفير المستوردات السلعية لتجاوز الاختناق في العرض السلعي، وتشغيل مؤسسات التجارة الخارجية الحكومية، وللوفاء بمتطلبات برنامج "مقاصّة" الديون العسكرية والاقتصادية السوفياتية بإنتاج سلعي سوري ( السلع مقابل الديون).

ج- تنظيم الاستقطاب بين "التصحيحيين" و"التحريريين": لعبة توزيع الأدوار

كان منهاج الرئيس حافظ الأسد في الإدارة يقوم على توزيع الأدوار. وقد استمدّ هذا المنهج من تجربة الرئيس جمال عبد الناصر في توزيع الأدوار بين أقطاب النظام، فكان وزير الخارجية ونائب الرئيس لاحقاً عبد الحليم خدام يمثّل في القيادة السورية الدور السوفياتي، بينما كان العماد حكمت الشهابي يمثّل الدور السعودي- الأميركي وسياساته في لبنان وفلسطين والإقليم. وفي ضوء هذا المنهج نظّم الرئيس الراحل الاستقطاب بين مؤيدي الانفتاح على القطاع الخاص، وجذبه وتحفيزه الاستثمار وتوسيع دوره في إطار "الخصخصة التلقائية"، وبين بيروقراطية الدولة والحزب والأمن التي تمفصل لديها الشعار "الاشتراكي" مع الحفاظ على حيازتها القطاع العام، واستخدامه لمصالحها الخاصة والزبائنية، وذلك عشية قراره السير في طريق التحرير الاقتصادي الانتقائي من دون انتهاج الطريق المصري في توقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي تؤدي إلى تحكّم الصندوق في السياسات المالية والنقدية والاقتصادية. ولم يبتدع الرئيس الراحل هذا الاستقطاب بل قام بتنظيمه بين من اصطلحنا على تسميتهم بـ "التحريريين" و "التصحيحيين"، بحيث يستوعب النظام السياسي في آلياته يساره ويمينه في وقتٍ واحدٍ، ويحقق نوعاً من وظيفة "تقاسم السلطة" وإدارة المواقف المختلفة فيها. وكانت هذه الآلية جزءاً من آليات النظام السياسي الذي طوّره الرئيس الراحل وأعطاه شكله، وهي آليات الاستيعاب/الإقصاء، معطياً الأولوية لآليات الاستيعاب وتوسيع قنواتها.

   كانت النقابات والطبقة البيروقراطية الأمنية والسياسية، مضافاً إليها الشيوعيون "الجبهويون" بحزبيهم يضطلعون بدور "التصحيحيين". بينما كان الفريق الاقتصادي وقوى القطاع الخاص ممثلةً بـ "غرفة تجارة دمشق" التي تم إصعاد ممثليها إلى مجلس الشعب، ولجان القرارات الاقتصادية التي تطبخها "لجنة الترشيد"، وبعض شرائح القيادة السورية المتقبلة لهذا الدور، أو التي وجدت مصالح لها فيه، يضطلعون بدور "التحريريين"، ويعملون على تطوير التحريرية التلقائية إلى تحريريةٍ منظّمةٍ تشمل القوانين والمؤسسات المصرفية والائتمانية، وتمهد لإيجاد سوق صغيرة للأوراق المالية. وتمخّض عن هذا الاستقطاب التحول من نظرية الدور القيادي المركزي للقطاع العام إلى نظرية "التعددية الاقتصادية" بين القطاعات العامة والخاصة والمشتركة، وتمثلت ذروة هذا التحول في مشروع القانون رقم 10 للاستثمار في العام 1991 الذي وُوجه بنقاشٍ عاصفٍ انتهى بإقراره وتحوله إلى قانون احتذت فيه سورية بمصر، لكن من دون توقيع الاتفاقية التي وقّعتها مصر في ذلك الوقت مع صندوق النقد الدولي، والمعروفة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي(Economic Reform and Structural Adjustement Program). وكان ذلك جزءاً من نهجٍ غير معلن، هو محاكاة السياسات الانفتاحية المصرية بشكلٍ مخفّفٍ ومتأخرٍ نسبياً عن مصر، في ما يمكن وصفه بـ "سيناريو لعنة الفراعنة".

د- التحريرية السلطوية: محدودية الإصلاحات السياسية

كان الرئيس الراحل حافظ الأسد ينتمي إلى جيل القادة الوطنيين الذين تكونت خبراتهم ومعارفهم ومحدّدات سلوكهم في إطار مناهج حركة التحرر الوطني في مرحلة الحرب الباردة، والذين قادوا ما أطلق عليه بالمصطلحات السوفييتية سلطات "الديموقراطية الشعبية" أو "طريق التطور اللارأسمالي". لكنه كان ينتمي في إطار ذلك إلى رؤيةٍ مرنةٍ وبراغماتية، بمعنى خلوها من التشدد العقائدي "الصلب". وتمثل ذلك في برنامج الحركة التصحيحية التي كانت رؤيتها إلى المشاركة السياسية والشعبية متسقةً يومئذ مع سقف الوعي السياسي للحركات السياسية المنضوية في الولاء له أو المعارضة.

  لم يكن إدماج القطاع الخاص في إطار آليات التحكم والضبط الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي في عملية التنمية غريباً عن هذا التكوين، وفي هذا السياق كان الأسد الأب مرناً في تصور توسيع المشاركة السياسية وفق قواعد الاستيعاب/الإقصاء. ولهذا كان مستعداً في العام 1989 لإدخال بعض التحديثات السياسية والمؤسسية في آليات نظامه السياسي. لكنه اقتصر على ما هو محدود فيها، بتأثير طبيعة النظام والمتغيرات الدولية والإقليمية في وقت واحد. ففي هذا العام الذي أخذ يشهد "تحول العالم"، كانت سورية قد فكّت عزلتها الإقليمية، واستعادت الاعتراف الدولي والإقليمي بدورها. ومكّنها ذلك من الخروج من "عقلية الحصن" أو "القلعة المحاصرة" و"المنكمشة" في سياساتها الداخلية.

  كان الترابط بين التوجه إلى السوق وبين التوجه إلى "الدمقْرطة" محدوداً جداً في هذه التجربة، ومختلفاً جذرياً عن نمط التحول الذي يدمج بينهما وكما جرى في دول أوروبا الشرقية. بل كان الترابط الأوضح الذي حدث بالفعل هو الذي نشأ ما بين "اللبْرلة" الانتقائية، ومحاولة تحديث بعض الآليات في إطار تحريرية تسلطية. ونجم عن هذه الآليات حجز المعادل السياسي للتحرير في نطاقاتٍ ضيقةٍ ومسيطرٍ عليها، وعززت هذا التوجه التحولات الجارية في العالم وقتئذ، وتحديداً تحولات البيروسترويكا السوفياتية. ففي اللقاء الأول( حزيران/ يونيو 1985) واللقاء الثاني (نيسان/ أبريل 1987) بين الرئيس الراحل حافظ الأسد والأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، كان الأخير نابضا بالعنفوان والإقدام والعزم على تطبيق برنامجه في "البيروسترويكا" و"الغلاسنوست". لكن في اللقاء الأخير بينهما في 28 نيسان/ أبريل 1990 كان غورباتشوف في حالة تضعضع، ويشكو للرئيس الأسد تدهور وضعه، ويسأله عن كيفية تمكّنه من الحكم في سورية طيلة تلك المدة [17].

في تلك الأحوال لم يجر تنفيذ الإصلاحات "السياسية" المضبوطة التي وعد بها الرئيس في العام 1989، فلم يُعقد مؤتمر الجبهة الوطنية ولا مؤتمر الحزب، كما لم يتم تعديل قانون الطوارئ، وخابت آمال القوى والفاعليات السياسية التي هيأت نفسها للاندماج بآليات النظام الاستيعابية، وكذلك مشروع الحزب لـ"الفعاليات الاقتصادية"، بل دخلت كافة الإصلاحات كلها في "ثلاجة الانتظار" إلى حين تنتهي مفاوضات السلام التي استنزفت الرئيس الراحل. وكان ذلك متوقعاً في نظامٍ يقوم أي تحديث فيه على قرارات الرئيس جراء صلاحياته التي تتخطى في الواقع ما هو مألوف في النظم الرئاسية، والتي هي أوسع من صلاحيات "البريزديوم" السوفياتي وسلطاته. وقد شكل الرئيس مركز القيادة برمتها تبعاً لطبيعة النظام الرئاسي "البريزديومي" الواسع السلطات الذي يقوم في مفهوم القانون الدستوري على التفريق بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وليس الفصل بينها؛ وعلى مستوى العلاقة بين "القيادة" و"الحكومة"، يقوم على الفصل بين الوظيفة السياسية التي تتولاها القيادة والوظيفة الإدارية التي تتولاها الحكومة [18]. واقتصرت حدود الانفتاح، على استبدال التعددية السياسية بتعدديةٍ اقتصاديةٍ، وإدماج ممثلي القطاع الخاص، بوصفهم "مستقلين"، في آليات الاستيعاب السلطوي التشريعية، وعلى توسيع عدد أعضاء مجلس الشعب بشكلٍ يتيح لهم أن يصلوا إليه عبر انتخاباتٍ "تنافسيةٍ" محصورة بينهم تحت اسم "المستقلين"، بينما تحتفظ "الجبهة" بــــ"حصتها" أو بـِــ"كوتا" الأغلبية، وعلى الإفراج عن دفعةٍ كبيرةٍ من المعتقلين السياسيين. وكان لا بدّ من الاعتراف بدور القطاع الخاص في ضوء تعريف جديد لأدوار اللاعبين الاقتصاديين- الاجتماعيين، إذ بلغت صادرات القطاع الخاص في العام 1990 نحو 43 ضعفاً عما كانت عليه في العام 1985، محققةً "طفرةً" غير مسبوقةٍ، وفائضاً في الميزان التجاري بعد سنوات من العجز[19].

هـ- الاستقلال الذاتي ( أوتونوميا) للدولة عن المجتمع

   إن التفسيرين المستخدمين لقوة التسلطية السياسية، على الرغم من التحرير الاقتصادي، غير كافيين في الحالة السورية، فهما يفسران الاعتماد على القطاع الخاص في إطار تضعضع ما يطلق عليه "أوتونومي الدولة" أو صيغة استقلال الدولة نسبياً عن المجتمع المدني. لكن يجب أن يضاف إلى ذلك تفسير آخر يرتبط بفهم الخصائص الريعية المباشرة للاقتصاد السوري، وإن كانت مصادره الريعية الخارجية من نوع ثانوي يعود إلى الجغرافيا السياسية التي تربط سوريا بدول الخليج. فإلى الحد الذي تعتمد فيه المالية العامة للدولة على الدخل الريعي أكثر من اعتمادها الضرائب المحصلة من المواطنين المكلفين، تضعف أثر مقولة "لا ضرائب من دون تمثيل نيابي للمواطنين" كأحد دوافع التمثيل الديمقراطي. ولذلك فإن الدخل الريعي يؤثر سلباً في عملية التحول إلى الديموقراطية[20]. ففي سورية يعتبر تدفق ريوع النفط السوري الخفيف، وكذلك عائدات المالية العامة من ازدهار المواسم الزراعية التي يجري تصدير منتجاتها الخام، والقابلة للتصدير بالطبع، على طريقة تصدير النفط، من نوع الصادرات الريعية المباشرة. ومن هنا ليس مفارقةً أن تترافق الريعية مع التسلطية، وأن تشكل أساس "أوتونوميا الدولة" أي استقلالها عن المجتمع[21].

ويبين تقرير"التعاون الدولي على مفترق طرق" ( 2005)، أنّ نصف سكان 34 بلداً من البلدان النامية التي تمتلك ثرواتٍ نفطيةً أو غازيةً (هذه الثروات تمثل ما لا يقل عن30% من عائداتها)، يعيش على أقل من دولار واحد في اليوم، كما أن ثلثي هذه البلدان غير ديمقراطية، وتتسم بالفساد البنيوي الكلي[22]. وتعتبر سورية من البلدان التي تعتمد فيها المالية العامة على الريع النفطي المباشر من صادرات النفط السوري الخفيف، وعلى "الريع الثانوي" المتمثل في المساعدات الخليجية التي بلغت مستويات عالية في السبعينات بشكل خاص. وتساهم هذه المعطيات في تفسير عزوف القيادة السورية عن متابعة الإصلاحات وتطويرها في مرحلة التسعينيات، ولا سيما تجميد الإصلاحات السياسية والمؤسسية.

 إن التوقف عند بعض هذه المحطات يتمتع بأهمية خاصة في نطاق البحث، نظراً إلى علاقتها بالمشكلات السياسية الجوهرية التي ورثها الرئيس بشار الأسد، ولم تجد حلاً لها. وفي هذا السياق تمثلت المحاولة الأخيرة والوحيدة في عقد التسعينيات للحوار مع الفاعلين السياسيين في ما جرى في سنتي 1997و 1998 مع جماعة الإخوان المسلمين السورية، وكان الموقف الإخواني يومئذ جزءاً من موقف التنظيمات الإسلامية الداعم للموقف السوري في المفاوضات مع إسرائيل، ويتسق مع التاريخ الوطني لجماعة الإخوان المسلمين في حرب فلسطين وفي تأييد حركة "فتح". وقد جرت المفاوضات مع نائب المرشد العام للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الدكتور حسن الهويدي، التي توسط فيها رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان وعدد من قادة الإخوان المسلمين العرب، وأدارها الشيخ أمين يكن المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سورية مع العماد حكمت الشهابي رئيس هيئة الأركان. وتمّ التوصل فيها إلى اتفاق على حل مشكلة المفقودين، وتمثيل الجماعة بحزب سياسي إسلامي ينضم إلى الجبهة بوصفه حزباً" وطنياً" [23]. وفي هذه الفترة دخلت مراكز القوى في صراعٍ داخلي ضار ينتمي إلى نمط الصراعات التقليدية بين النخب، واتخذ مظاهر متعددة، وأشكال تشهير غير مألوفة في صراعات النخب البيروقراطية السورية العليا [24]. وفي هذه الفترة نفسها دخل الرئيس حافظ الأسد في المرحلة الأخيرة من مرضه العضال، بشكلٍ غاب فيه عن أي اجتماع للقيادة السورية، وعن اجتماعات القيادة القطرية طيلة سنوات 1999-2000[25]. ولم يكن غيره قادراً على إخراج المفاوضات من مأزقها.

 في هذه الفترة "الحرجة" التي وصلت فيها مفاوضات السلام إلى مأزقها الكبير، وتراجعت فيها فاعلية الرئيس الشخصية بسبب المرض، وانكشفت فيها عمليات الفساد بشكلٍ غير مسبوقٍ، كانت عملية نقل السلطة قد أخذت تسير بشكل "هادىء" و"مستقر"، وبرز فيها الدكتور بشار الأسد شخصية عصرية قامت بطرح سياسات "الإصلاح" ومبادئه، وافتتح حواراً مع المثقفين وقادة الجاليات المغتربة، مع إبراز أولوية مكافحة الفساد، وهدم العقارات التي بناها بعض رجال البيروقراطية الكبار على أراضي الدولة، وتطبيق برامج نشر المعلوماتية، وإدخال سورية في فضاء المجتمع التواصلي الحديث، بينما كانت الأجهزة الأمنية تمنع رسمياً أجهزة الفاكس، وتصادر الصحون اللاقطة للفضائيات من سطوح المنازل في حملاتٍ "علنيةٍ" [26] استمرت حتى سنة 1998. وبعث ذلك كله لدى الفئات الديناميكية السورية، في ظل الجمود المؤسسي والسياسي، نوعاً من "الوعد" بتجديد سورية.

 و- إخراج البيروقراطيين "التصحيحيين": مشكلة خدّام وتغيير قواعد اللعبة

 

كان الأساس في تأليف حكومة مصطفى ميرو الأولى ( آذار/مارس 1999). وهي الحكومة الأولى التي تتألف خارج الأطر الأمنية والبيروقراطية السياسية العليا المعهودة تحت إشراف الرئيس حافظ الأسد نفسه الذي كان بالغ النقمة يومئذ على القيادتين الحكومية والحزبية بسبب الفساد الكبير والمفرط، على الرغم من تدهور حالته الصحية[27]. وتشكلت تركيبتها وفق منهج التوازن بين اتجاهين في الحكومة والقيادة اللذين بلورهما الرئيس الراحل حافظ الأسد، وهو ما عُرف بالجمع بين "أهل الخبرة" (أقطاب البيروقراطية العليا المسنون) و"الكفاءة" (الإصلاحيون والتحديثيون الشبان القادمون من بيئاتٍ سياسيةٍ ومهنيةٍ وتقنيةٍ جديدةٍ). لكن هذا التمثيل ترافق بإحراج أقطاب "التصحيحيين" الكبار في البيروقراطية السياسية والنقابية العليا بطريقةٍ "هادئةٍ"، و"طبيعية" في ظاهرها، فتحرر النظام السياسي من أبرز القوى البيروقراطية المعيقة لتطور النظام.

  اضطلع الدكتور عصام الزعيم في إطار تشكيلة الحكومة الجديدة بترجمة المفاهيم التنموية المؤسسية في الخطة الخمسية التاسعة. كان منهج الزعيم يلتقي مع"التصحيحيين" في التمسك بدور القطاع العام، لكنه يتناقض معهم تناقضاً جذرياً في شأن إصلاح القطاع العام وتحريره من الطبقة البيروقراطية المسؤولة عن ترهله وفساده وتراجع إنتاجيته. فلقد كان الزعيم تنموياً وليس "تصحيحياً"، وكان من الناحية الاستراتيجية ضد تطبيق وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، لكنه كان يقر بانتقاء توصيات إيجابية منهما وتطبيقها. وفي هذا السياق لم تكن لديه عقدة إيديولوجية في شأن قبوله أفكاراً عملية في الخصخصة مثل فصل الإدارة عن الملكية. كان هذا التفكير التنموي الذي ارتبط باسم الزعيم ضعيفاً، فلم يقيّض له أن يتحول إلى اتجاه، وظل من هم قريبون من هذا الاتجاه مختلطين بهذه الدرجة أو تلك مع بيروقراطية "التصحيحيين".

زاد من ضعف احتمالات نجاح التفكير التنموي تحول نائب الرئيس عبد الحليم خدام، بعيد انتقال السلطة إلى الرئيس بشار الأسد، من موقع الراعي لعملية الإصلاح الاقتصادي، والمتبني لمقترحات التحول من الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق[28]، وأحد عناصر جذب البيروقراطية العليا القديمة، والبيروقراطية "التصحيحية" خصوصاً إلى الإصلاح، إلى موقع أكثر البيروقراطيين السياسيين محافظةً وتخويفاً من الإصلاح السياسي. فقاد عملية القضاء على"ربيع دمشق"، بحجّة انتهاء الشهور الستة الممنوحة، والخوف من "الجزأرة" في سورية[29]. كما حذّر في داخل القيادة من التحرير الاقتصادي، ودفعها إلى التحصّن بعقلية "الخائف" من أيّ سيرٍ في طريق اقتصاد السوق. وأثّر موقفه جذرياً في موقف القيادة القطرية من تبنّي مشروع الإصلاح الاقتصادي الذي صاغته حكومة مصطفى ميرو الثانية، ورفع مستوى "عقلية الخوف" من الإصلاح. وتلخص هذا الموقف في جعل أي قرار تتخذه الحكومة خاضعاً لموافقة القيادة القطرية[30].

بحلول نهاية العام 2005 كان معظم "التصحيحيين" و "التقليديين" الذين شاخوا فعلياً، وغدوا في سن التقاعد أو قريبين منها، قد أحيلوا على التقاعد، لكنهم حاولوا أن يشكلوا فيما بينهم، على طريقة لقاءات "الرفاق القدامى" نوعاً مما سُمّي في أوساطهم بـ "الجبهة"، بدعوى حماية الرئيس من مخاطر تتهدده. وقد تلاقى بعض رؤوس هذه الجبهة، عن وعي أو من دون وعي، مع القضايا التي كان يطرحها نائب الرئيس عبد الحليم خدّام. لكن عقْد هذه "الجبهة" انفرط بعد انتحار وزير الداخلية اللواء غازي كنعان، وخروج خدام من سورية وانشقاقه على القيادة السورية في العام 2006، جراء ارتفاع الشبهات في تورطه في خطة انقلابية للاستيلاء على السلطة بذريعة الحفاظ على النظام. وكانت تلك الخطة تهدف إلى إعادة تأهيل النظام السوري بما ينسجم مع الترتيبات الجديدة لإعادة تنظيم الشرق الأوسط، وارتبطت بالجناح السعودي في القيادة السورية الذي تجسد في خدام وكنعان ( وإن غدا وزيراً للداخلية) والشهابي (وإن أحيل على التقاعد) بالتحالف مع رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري[31].

 كانت فترة (2001-2005) فترة اضطرابٍ إقليمي دولي بعد وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، ثمّ احتلال العراق في نيسان/ أبريل 2003، وتولي مجموعة "المحافظين الجدد" زمام إرشاد المبادرة الاستراتيجية الأميركية في إعادة بناء النظام العالمي انطلاقاً من ترتيب الشرق الأوسط و "بناء الأمم". وفي هذا السياق تعرضت سورية لضغوطٍ غير مسبوقةٍ لتغيير مواقفها من قضايا الإقليم، والانغماس في "السرير الأميركي الجديد" للمنطقة. وفي هذا السياق المتوتر وقعت عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 1995، وتمّ تلبيس سورية الجريمة. واتخذت القضية منصة لإخراج سورية من لبنان، وتحقيق الوفاق في الحلف الأطلسي الذي تعرّض للتصدع إبان الحرب على العراق، وفق ما نشره وحلله فانسان نوزيي[32] (Vincent Nousille). وقد انعكس ذلك على توازنات مراكز القوى في النظام السوري في صورة إخفاق خطة خدام- الشهابي- كنعان في استخدام ضغط القوى البيروقراطية التقليدية التي كانت لا تزال تحاول التمسك بنفوذها و "نصائحها"، ونتج عنها تلقائياً انفضاض التقاء الكتلة التقليدية أو المشتبه بولائها له حوله، حيث حظر سفرهم إلى الخارج[33].

- طيلة فترة ( 2000-2005) كان باب الجدل في شأن الإصلاح الاقتصادي مفتوحاً وشفافاً على نحو طليق، وتألفت في سياق الجدل بين التوجهات التنموية والتحريرية التي بلورها الدكتور عصام الزعيم لجانٌ عدة متنوعة التركيب والأفكار لإصلاح القطاع العام الاقتصادي. وتراوحت أفكارها بين الإصلاح والحذر، والاكتفاء بحدود فصل الإدارة عن الملكية، وإعادة هيكلة القطاع العام. وقد طرحت في هذه الفترة جميع المشاريع التي تمّ تجميدها في العام 1992 تحت ضغط "التصحيحيين" المتعلقة بتعزيز مسار تحرير الاقتصاد السوري، وإخراجه من جموده البنيوي، وإعادة هيكلته[34]. فما كان غير مقبولٍ في العامين 1991و1992 غدا مقبولاً في سنوات (2000-2005). وارتفعت وتيرة القبول بذلك في فترة (2006-2010). وهذا ما يظهر من ارتفاع مجموع المراسيم والأوامر الإدارية التي صدرت خلال فترة (2000-2005) وتجاوزت الـ 1200 مرسوم وقرار لتطوير بيئة الأعمال، وتحسين مناخ الاستثمار، ووضع مشروعات القوانين والتشريعات في شأن قانون التجارة وقانون الشركات وقانون المنافسة التي صدر بعضها لاحقاً[35].

 عبّر ذلك في حدّ ذاته عن حجم التغيرات في أدوار اللاعبين" التصحيحيين" و "التحريريين"، تحوّلَ "التصحيحيون" قوةً "شائخةً" بينما غدا" التحريريون" قوةً بازغةً تمتلك الحلول. أمّا "التنمويون"، فعلى الرغم من كونهم الأضعف، لأنهم يعرفون ما يرفضون لكنهم لا يعرفون تماماً ماذا يريدون، لم يستطيعوا التمييز بشكلٍ كافٍ بين منظورات مفهوم "التنمية المستقلة" الذي لم يتم تطويره، وظل محكوماً بالمفاهيم التقليدية للتوجه نحو الداخل مع التوجه إلى الخارج، وبين صوغ نموذج تنموي مؤسسي متشابك مع العالم يوجه عملية العولمة لمقتضياته التنموية من داخل قواعد لعبتها، والعمل على تغيير قواعد هذه اللعبة، أومحاولة تعديلها بتعاون جنوب - جنوب مثلاً.

 الإصلاح المؤسسي أو التحريرية التنموية: الخطة الخمسية العاشرة

 في اللحظات" الحرجة "بين التيارين" التحريري" و "التصحيحي" وأفكار المنحى "التنموي" تمّ وضع الخطة الخمسية العاشرة ( 2006-2010) بوصفها خطة تأشيرية لإنجاز عملية تحول اقتصادي- اجتماعي عميقة، تنقل سورية من مرحلة الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وتتبنى سياسات "مناصرة" للفقراء، وتطوير المناطق الفقيرة والمهمّشة، وإدماجها في عملية التنمية. وصيغت هذه الخطوة على مستوى الرؤية والسياسات والاستراتيجيات في ضوء نموذج تحريري محكومٍ بالضوابط التنموية، ومحكومٍ بشكل خاص بمقاربات الإصلاح المؤسسي الشامل الذي يمكن أن يفتح الباب أمام الإصلاح السياسي. كان إدماج "المقاربة المؤسسية" في الخطة أحد أبرز الإنجازات في تاريخ التخطيط التنموي السوري، فقامت على ربط ترتيبات التحرير الضرورية لإخراج الاقتصاد السوري من جموده بعملية التمكين. ولم تكن متأثرةً بالمؤسسية الجديدة التي تقوم على طرح "النمو من الداخل" في مواجهة ثنائية التوجه إلى الداخل/التوجه إلى الخارج السابقة التي بلور البنك الدولي معاييرها في تقويم عملية التنمية ومناهجها[36]، إلا بحدودٍ ضيقةٍ عبر حدود تأثير مشروع (سورية 2025) يومئذٍ. بل كان نموذج التنمية الآسيوي المرتكز على أولوية التنمية البشرية هو الحاضر لديها، وعبر العناصر المؤسسية في ذلك النموذج دمجت بشكل عميق عملية التحرير وعملية التمكين والبناء المؤسسي.

 كانت هذه الخطة ورشة عمل حقيقية شارك فيها أول مرةٍ، عدد كبير من الخبراء الوطنيين والدوليين، وأصحاب الرأي والتفكير، وممثلو المنظمات، وصيغت جوانبها الإجرائية بشكلٍ صارمٍ مع الوزارات التي لم تعهد مثل هذه الطريقة في مساءلتها عن جدوى توسعاتها[37]. لقد اشتملت الخطة على عناصر "تحريرية" شديدة القوة، ودمجت منظوراتها التحريرية مع المنظورات المؤسسية والتنموية البشرية، بما في ذلك دور المجتمع المدني في عملية التنمية، وإرساء الشراكة بين القطاعات العامة والخاصة والأهلية. وقد كان مشروع الخطة شفافاً، ومفتوحاً للجميع.، وكان السباق قائماً بين إنجازه وموعد عقد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث لإقراره.

لكن مشروع الخطة هذا، بشقيه الإلزامي والتأشيري، وُوجه بمعارضةٍ شديدةٍ من جهاتٍ متعددةٍ، كل منها لسببٍ مختلفٍ. وكانت المواجهة الأخطر مع الحكومة التي شاركت في تصميمه. لكن الوزراء تخلوْا عن دعمه، إما بسبب عدم تلبية مشروع الخطة رغبات مديريهم، أو ادعاؤهم بأن الخطة صعبة التنفيذ، أو أن الضرورة ماسة لوضع برنامج إصلاح اقتصادي، وهو ما بلبل القيادة القطرية التي تضطلع بالوظيفة السياسية.

  حين قدم مشروع التقرير الاقتصادي إلى المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث حذف المكتب الاقتصادي منه الشق الإصلاحي المؤسسي. لكن الخطة في جميع الأحوال أُقرّت في مجملها ، لكنها ما لبثت أن وضعت على الرفّ نتيجة ما حدث بعد ذلك من صراع حكومي وسياسي. وجرى بدلاً منها تطبيق برنامج سياساتي ليبرالي ساذج حتى في ضوء منظورات "وفاق واشنطن الموسّع"،(**) وتسخير عملية التحرير لمصلحة تطوير شريحة جديدة هي شريحة "رجال الأعمال الجدد". لقد تقلص الإصلاح إلى عملية تحرير أشبه ما تكون بطريقة "المكْسكة" التي قادت فيها المكسيك تحرير التجارة ، وحصدت أوخم النتائج. وعند هذه النقطة تبدأ نقطة تحول اقتصادية- اجتماعية جديدة ستفسر ما جرى وما يمكن أن يجري من أحداث.

ويكمن في صلبها رجال الأعمال الجدد الذين سيكيّفون السياسة الاقتصادية- الاجتماعية تبعاً لمصالحهم الخاصة. وفي سياق هذه القوة تقلص مشروع الإصلاح المؤسسي إلى مشروع "لبرلة ٍ" أو "مكسكة " على طريقة المكسيك في قيادة تحرير التجارة، وأنتج أخطر الظواهر التي تمثل أحد أهم جذور مرحلة "قوس الأزمات" التي دخلت سورية فيها. وهي ظاهرة تقلص الإصلاح إلى عملية تحرير أو شبه "مكْسكة" للاقتصاد السوري. وهو ما سنتوقف عنده بالتفصيل في الجزء التالي، ليس نظراً إلى أهميته الاستراتيجية في فهم ما يجري في سورية فحسب، بل إلى ما يمكن أن يحدث فيها خلال العقدين المقبليْن أيضاً.

-------------------------------

· [1] محمد جمال باروت (مؤلف رئيس)، مشروع "سورية 2025": اتجاهات التحول السكانية والمجالية المحتملة خلال العقدين القادمين، (دمشق: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وهيئة تخطيط الدولة، 2007)، ص 235- 238.

· [2] عدنان أبو صالح، معجم علم الاجتماع، (عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع، ودار المشرق الثقافي، 2006)، ص 134 -135.

· [*] يقصد بالجيل الدفاعي الأفراد الذين ينشطون في الدفاع عن الحقوق المدنية والبيئية والمرأة والمهمشين و غير ذلك.

· [3] عن هذا المفهوم في منظور السكان والتنمية راجع تقرير "السكان والتنمية: النافذة الديموغرافية فرصة للتنمية في البلدان العربية"، نيويورك: اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا- الأسكوا، 2005، ص7-12. وعن معدلات التشغيل والبطالة، وارتفاع معدل البطالة في شريحة الشباب، قارن بيانات التقرير العربي الأول وتحليلاته عن التشغيل والبطالة في الدول العربية، القاهرة: منظمة العمل العربية، 2008، ص 441- 468.

· [4] نبيل سكر، الإصلاح الاقتصادي في سورية، (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 2000)، ص12.

· [5] فيما يتعلق بنقاش مفهومي في شأن التنمية الشاملة راجع: Sachs I., "Inclusive development and decent work for all", International Labour Review, Volume 143, 2004/1-2 and ILO, 2004, A fair globalization: Creating opportunities for all, Report of the World Commission on the Social Dimension Of Globalization, Geneva. See also United Nations, 2005,The Inequality Predicament, New York.

· [6] محمد جمال باروت (مؤلف رئيس)، مسح التطورات الاقتصادية الكلية وتحليل اتجاهاتها الأساسية في سورية ( 1970-2005) والمشاهد المستقبلية"، (دمشق: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ورئاسة مجلس الوزراء، 2007)، ص211.

· [7] إبراهيم العيسوي، الاقتصاد المصري في ثلاثين عاماً، (القاهرة: منتدى العالم الثالث ومشروع مصر 2020، المكتبة الأكاديمية، 2007)، ص 182.

· [8] محمد جمال باروت (مؤلف رئيس)، حالة سكان سورية: التقرير الوطني الأول 2008، (دمشق: الهيئة السورية لشؤون الأسرة وصندوق الأمم المتحدة للسكان، 2008)، ص 85.

· [9] باروت، المصدر نفسه، ص 68.

· [10] "مسح البطالة"، دمشق: هيئة تخطيط الدولة، 2003، تقرير محدود التوزيع، وهو مسح مساعد لهيئة مكافحة البطالة التي أحدثت بموجب القانون رقم (71) في العام 2001، وخصص لبرنامجه خلال سنوات ( 2002-2006) خمسون مليار ليرة سورية. وقد قدر المكتب المركزي للإحصاء معدل البطالة يومئذ بـِ 11،7%، بسبب تعريفه للبطالة. بينما تبنت الهيئة تعريفاً أوسع للبطالة يشمل البطالة السافرة ونقص التمويل. وتتسم التعريفات السورية والعربية الرسمية للبطالة بأنها متحيزة لتقليل حجم العاطلين عن العمل بغية خلق انطباع زائف بقوة الاقتصاد. ويعتبر هذا التعريف أداة" سياسوية" غير مباشرة للتضليل والتمويه على الحقيقة.

· [11] جودت عبد الخالق، "السياسات الكلية لتقليل الفقر في سورية"، دمشق: ورقة خلفية للخطة الخمسية العاشرة، 2004، ص 4 . قارن مع "تحليل الاقتصاد السوري الكلي"، دمشق: هيئة تخطيط الدولة، 2005، ص 23-24.

· [12] باروت، مسح المسارات الاقتصادية الكلية، مصدر سبق ذكره، ص 255.

· [13] العيسوي، مصدر سبق ذكره، ص182.

· [14] باروت، مسح المسارات الاقتصادية الكلية، مصدر سبق ذكره، ص255.

· [15] يعتبر معدل النمو في السبعينات، والذي بلغ 10,5% أعلى معدل نمو اقتصادي سريع بلغه الاقتصاد السوري في تاريخه الحديث، وأعلى من معدل النمو الاقتصادي الإجمالي في الوطن العربي في السبعينات الذي وصل في تلك الفترة إلى 7.9% سنوياً، وأعلى من معدلات نمو السعودية ودول الخليج العربي" المانحة "للمساعدات لسورية، والتي تراوح متوسطها بين 8% و9% سنوياً. وكان معدل النمو الاقتصادي السوري في تلك الفترة أعلى معدل نمو اقتصادي سريع في المنطقة العربية كلها، (مسح المسارات الاقتصادية الكلية، ص 93). قارن مع سعد الدين إبراهيم (محرر)، المجتمع والدولة في الوطن العربي: مشروع استشراف الوطن العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1988، ص 308.

· [16] كان موقف عبد الحليم خدام الشديد العدائية للكسم مرتبطاً بتصدي الأخير لتورط أبناء خدام في صفقة" طمر النفايات النووية" في سورية، كما كان جهاز أمن الدولة قد استاء من الكسم بسبب تجميد المسابقات التي يجريها لتعيين موظفيه المدنيين، واستاء منه أيضاً كبار الموظفين المدنيين والعسكريين بسبب تشديده على منع حركة السيارات الحكومية المدنية والعسكرية خارج أوقات الدوام الرسمي، وتقليصه حصص المحروقات. وبالفعل وفر الكسم يومئذ15 % من استهلاك سيارات الحكومة من الوقود. وكان كبار الجنرالات قد تحولوا إلى ألد خصومه بسبب رفضه مشروعاً للبناء على مساحةٍ كبيرةٍ من الأراضي الزراعية في دمشق كان يهدد حوضها الجوفي بالدمار والجفاف. وبدعم من الرئيس دفع الكسم جريدة "الثورة" إلى نشر تحقيق عن مخاطر هذا المشروع ردّ عليه بعض الجنرالات المتورطين في المشروع بالضغط المباشر عليه، وتهديده بعواقب وخيمة (مقابلة شخصية في ربيع 1999 مع محمد خير الوادي رئيس تحرير جريدة "الثورة". وقد أكّد لنا الوادي صحة رواية محمود صادق لهذه الواقعة، قارن مع: محمود صادق، "حوار حول سورية"، من دون مكان، من دون تاريخ، ص 2222 و228-229، بينما كان موقف طلاس محكوماً بتحدي اللواء بشير النجار المدير العام للجمارك لرجاله على الحدود السورية- اللبنانية، واتهامه العماد بالتهريب، وهو ما أدى إلى ردة فعل طلاس الكبيرة على النجار (صادق، ص22)، والذي لايستبعد أن عناصره قاموا بعمليات التهريب في سيارته من دون علمه، ذلك أن طلاس لم يكن في حاجة إلى ريع المهرّبات. والواقع أن الكسم قام بقدر ما يستطيع بحرب لا هوادة فيها لمنع التهريب ولا سيما التهريب من لبنان الذي شكّل نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي السوري. مقابلات أجراها الباحث مع شخصيات متعددة كانت شاهداً على هذه الوقائع ولم ترغب في ذكر أسمائها.

· [17] أبرز النقاط في محاضر المحادثات بين الرئيس حافظ الأسد وميخائيل غورباتشوف، في 28/ 4/ 1987، وفي 28/ 4/ 1990 موجودة لدى أرشيف القصر الجمهوري بدمشق، من دون تصنيف. حصل الباحث على هذا المحضر مع عدة محاضر أخرى في العام 2004 للاستفادة الحصرية منه في بحوثه، قبل أن يتم تصنيف الأرشيف.

· [18] كمال غالي، مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية، (دمشق: المطبعة الجديدة، 1975)، ص 626 -627.

· [19] منير الحمش، التنمية الصناعية في سورية وآفاق تجديدها، (دمشق: دار الجليل، 1992)، ص91. قارن بـِ: راتب الشلاح، "الفائض التجاري السوري: حدث عابر أو تحسن مستمر؟"، دمشق: محاضرات جمعية العلوم الاقتصادية، حزيران، 1990، ص3. لكن فائض الميزان التجاري لم ينعكس إيجاباً على وضع القطاع الأجنبي لأن غالبية الصادرات كانت تتجه إلى الاتحاد السوفياتي لسداد الديون.

· [20] عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديموقراطي عربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2007)، ص74-75.

· [21] بشارة، مصدر سبق ذكره، ص 79.

· [22] تقرير التنمية البشرية للعام 2005، "التعاون الدولي على مفترق طرق: المعونة والتجارة والأمن في عالمٍ غير متساوٍ"، (نيويورك : برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2005)، ص 125.

· [23] مقابلة شخصية في صيف 1997 مع أمين يكن وأولاده. يشير الباحث إلى أنه بقي على اتصال مع يكن حتى أواخر حياته، وقد نشأت بينهما علاقة" ود" و" حب"، وتوسط الباحث بينه وبين قادة الفلاحين في منطقته، بالاعتماد على صلاته الوثيقة باللجنة المنطقية الشيوعية، وتم الاتفاق تقريباً. لكن قام بعض هؤلاء باغتياله في شكل مفرزة اغتيال، مبررين ذلك بـأنه صراع بين فلاحين وملاك، وبين شيوعيين وإخوان مسلمين، وهلم جرّا. بينما كانت الحقيقة محاولة السيطرة على أراضيه. وكان المجرمون ينتمون إلى السياسة وأحزابها، لكن لاشيء يشير إلى تورط هذه الأحزاب بغير ما توهمت أنه القضية الاجتماعية. وفي منظورنا كانت عملية اغتيال أمين يكن جريمةً تامة الأركان، لكنها وقعت لأسباب مصلحية وتوسعية شخصية في الأراضي، واستخدمت فيها الإيديولوجيا والسياسة كعملية تعبئة لا أكثر ولا أقل.

· [24] كان من أبرزها توزيع فلْم فيديو يبرز ويصور بعض الوزراء في أوضاع مهينة وغير لائقة. وتسبب ذلك في عزل بشير النجار (زيادة، ص563). وترافق ذلك مع توزيع مذكرة مطولة باسم (ناجي علوش) وهو اسم مستعار ولا علاقة له بناجي علوش الكاتب الفلسطيني المعروف. وتكثّف هذه المذكرة التي صيغت بلغة صداميةٍ وتعبويةٍ وتحضيريةٍ جوهر أفكار "التصحيحيين" البيروقراطيين ضد ما وصفته بـ "الذئب محمود الزعبي" وسياسات الحكومة الليبرالية الاقتصادية، والتهديد بقطع كل يد تمتد إلى القطاع العام الذي وصفته المذكرة بـ "ماكينة البعث" (مذكرة خطية باسم ناجي علوش محفوظة لدى الباحث).

· [25] مقابلة شخصية أجراها الباحث مع شخصية قيادية كانت موجودة يوميا مع الرئيس الراحل، وارتأينا لأسبابٍ تقديريةٍ مفهومة مؤقّتاً عدم ذكر اسمها.

· [26] ملاحظات ميدانية للباحث في شأن مصادرة الصحون اللاقطة في مدينة حلب.

· [27] عن تولي الرئيس الراحل الأسد تغيير الحكومة، فقد ورد ذلك في جوابه عن اتصال الرئيس كلينتون به بهدف اللقاء معه، واعتذار الرئيس الأسد عن عدم تمكنه من ذلك بسبب انشغاله بالتغيير الحكومي، وعدم قدرته على مقابلته إلابعد إنجاز ذلك. وضغط كلينتون بأن جدول مواعيده مملوء مسبقاً، لكن الأسد أصر على الاعتذار عن الموعد الذي حدده كلينتون، وقد أعلمه كلينتون بأنه سيعيد الاتصال به ( مكالمة هاتفية بين الرئيس بيل كلينتون والرئيس حافظ الأسد في 12 آذار/ مارس 2000، أرشيف المكالمات الهاتفية الخاصة بالرئيس مع الرؤساء، القصر الجمهوري). وسرّع الأسد في تأليف الحكومة، فلقد كان شديد الحساسية من أن يقال إن تأليفها قد تمّ بعد اللقاء مع كلينتون ( مقابلة مع شخصية لم ترغب في ذكر اسمها). وتقول هذه الشخصية إنها فوجئت بحجم ماعرضه الرئيس من مظاهر الفساد بين رجال كبار الدولة.

· [28] كان خدام هو الذي تولى متابعة ما اتفق عليه كل من رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري والرئيس حافظ الأسد في العام 1987، حين أبدى الحريري في سياق مشروعه لتسوية " الأزمة اللبنانية" اهتماماً بما أبداه الرئيس الأسد من قلق في شأن تردي الوضع الاقتصادي السوري يومئذ. فعرض مساعدة سورية بتمويل مشروع دراسي لإصلاح الاقتصاد السوري. وقد شكل الدكتور نبيل سكر الذي كان يعمل سابقاً في "البنك الدولي" الدينامو الفعلي للمشروع، ومؤلف خلاصته. وقد قدمه إلى القيادة السورية في صيغة تحليلية وسياساتية وبرامجية في العام 1987 (مقابلة شخصية مع نبيل سكر في تموز/يوليو 2006)، وقد كان سكر من أوائل الرواد المنهجيين لإصلاح الاقتصاد السوري بطريقة يتكيف فيها نسبياً مع المعايير الليبرالية. وحمل المشروع اسم" نحو اقتصاد اشتراكي متطور"، دمشق: مخطوط غير منشور، 20 تشرين الثاني/ أكتوبر 1987، محفوظ لدى الباحث.

· [29] جاءت حملة خدام في ختام ماوصفه بانتهاء مهلة الشهور الستة التي منحت لحركة المنتديات،.وقد جعله هذا الموقف بشكل أو بآخر، مركز القوى البيروقراطية العليا الخائفة من الإصلاح والمضادة له. حاول الرئيس بشار الأسد أن يعطي دفعة جديدة للحركة، واستأنفت المنتديات وحركة المثقفين عملها. لكن ذلك كله توقف في حملة الاعتقالات الانتقائية في 10-11 أيلول/سبتمبر ، فلقد وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول، واستغلت البيروقراطية العليا هذه الأحداث لتشديد قبضتها، وإدخال توجهات الإصلاح في مرحلة "الاحتضار".

· [30] محادثة شخصية مع رئيس الحكومة السورية الدكتور محمد مصطفى ميرو في صيف 2007 بدمشق.

· [31] قد يفسر هذا التحالف أن الحملة انصبت بعد اغتيال الحريري على اللواء رستم غزالة المعاون السابق للواء غازي كنعان وخلفه، ولم تمس اللواء غازي كنعان إلا بشكل محدود جداً وعابرٍ جداً، مع أن السياسيين اللبنانيين المعارضين للوجود السوري الاستخباري والعسكري في لبنان، أو الذين غدوا معارضين له، طالوا بمداخلاتهم كافة المسؤولين السوريين المعنيين بالمسألة اللبنانية طوال ما أطلق عليه "عهد الوصاية".

· [32] Vincent Nouzille, Dans le srcret des presidents( Paris,Fayard, 20 10) p. 463.481.

· [33] مقابلة شخصية أجراها الباحث في شتاء 2008 مع أحد الممنوعين من السفر في قائمة تصل إلى نحو 93 اسماً، ولم يرغب في ذكر اسمه.

· [34] هي لجنة الـ (35) التي قاطعتها هيئة تخطيط الدولة، ثم لجنة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولجنة الـ (18)، أيلول/سبتمبر-23 تشرين الأول/أكتوبر 2001. ثم لجنة صوغ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أقرته الحكومة ورفعته إلى القيادة السياسية للموافقة السياسية عليه (2002). وسبقها تطبيق تجربة "الإدارة بالأهداف" التي تولاها النقابي والكاتب محمود سلامة، لمزيد من التفصيلات يمكن العودة، إلى: باروت، "مسح التطورات الاقتصادية الكلية وتحليل اتجاهاتها الأساسية في سورية" (1970-2005)، و"المشاهد المستقبلية"، مصدر سابق، ص 240، والملحق( 1-1).

· [35] "مسح المسارات"، ص 266 (مصدر سبق ذكره)، استناداً إلى تقرير التنافسية: العالم العربي للعام 2007 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. ملاحظة: تغطي بيانات تقرير التنافسية ما يتعلق بسورية سنة 2005.

· [36] سبق لمشروع "سورية 2025" الذي كان للباحث شرف إدارته وتأليف تقاريره الأساسية، أن شخّص السيناريوهات الأساسية المحتملة، وفتح الباب أمام بناء سيناريوهات فرعية يبنيها مشروع آخر أوسع منه. وفي هذا الإطار عرض السيناريو التنموي. بينما يمكن للمشاهد الفرعية أن تشتمل على مشهد فرعي يدمج السيناريو التنموي بالاستفادة من آليات الإصلاح الاقتصادي. للاطلاع على تحليل معمق وافٍ لتاريخ المفهوم وتطوره، مقارنة بإمكانية الاستفادة منه في إعادة الاعتبار للدولة التنموية في عملية التنمية في النموذجين السوري واللبناني قارن مع ألبر داغر، "أية سياسة صناعية للبنان: مقاربة مختلفة لدور الدولة في الاقتصاد"، بيروت: المركز اللبناني للدراسات، 2005، ص23-32. وعن موقع الاتجاه الجديد في الفكر التنموي في أميركا اللاتينية ضمن الاتجاهات الجديدة في عملية العولمة، قارن مع: عاطف قبرصي، "التنمية البشرية المستدامة في ظل العولمة: التحدي العربي"، نيويورك: الأمم المتحدة، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (اسكوا)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2000، ص6-7. وعن دور الدولة التنموية من خلال التجربة الآسيوية في التأثير في بروز الإرهاصات الأولى لنظريات النمو الحديثة المسماة بـ"النمو ذاتي-المركز"( Endogenous Grouth ) باعتبارها عملية تاريخية متميزة تماماً عما جرى في بدايات عمليات التراكم الرأسمالي في البلدان الغربية المتقدمة، ومن نماذج التنمية في العالم الثالث من الخمسينات وحتى السبعينات، قارن مع: محمود عبد الفضيل، العرب والتجربة الآسيوية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص 224.

· [37] كان الباحث شديد الالتصاق بمجريات وضع هذه الخطة، ومساهماً في بعض أوراقها الخلفية، وكان يحضر معظم اجتماعات لجانها، ويتابع ردات الفعل اليومية على مناقشاتها في الدوائر الداخلية بشكل مهني- علمي. ويستطيع الادعاء بأنه يكتب في هذا المجال عن معرفة يومية منظمة علمياً.

· [**] هو الوفاق الذي تم صوغه بعد السلبيات التي تمخّضت عنها برامج الخصخصة وإعادة الهيكلة.

التعليقات