أزمة العمل الوطني الفلسطيني واللحظة التاريخية الجديدة../ د. محمد عادل شريح

عندما نتحدّث عن الأزمة، فإنّنا لا نشير إلى أزمة سياسية مرتبطة بظرف مرحلي أو اختلاف في الرّؤى السياسية أو البرامجية لبعض القوى الفلسطينية الفاعلة ميدانيًّا، إنما نتحدّث عن أزمة بنيوية مرتبطة بمقدّمات أو مسلّمات فكرية- سياسية أوّلية قام على أساس منها العمل الوطني الفلسطيني، مقدّمات تحكّمت في رؤية الفصائل الفلسطينية منذ بداية عملها في منتصف الستّينيات، و امتدّت آثارها إلى يومنا هذا، لكن بدايةً لنحاولْ تحديد هذه الأزمة و تشخيصها و طرحها بوضوح على بساط البحث

أزمة العمل الوطني الفلسطيني واللحظة التاريخية الجديدة../ د. محمد عادل شريح

 

 

1 . في أزمة مشروع التسوية السياسية

 

عندما نتحدّث عن الأزمة، فإنّنا لا نشير إلى أزمة سياسية مرتبطة بظرف مرحلي أو اختلاف في الرّؤى السياسية أو البرامجية لبعض القوى الفلسطينية الفاعلة ميدانيًّا، إنما نتحدّث عن أزمة بنيوية مرتبطة بمقدّمات أو مسلّمات فكرية- سياسية أوّلية قام على أساس منها العمل الوطني الفلسطيني، مقدّمات تحكّمت في رؤية الفصائل الفلسطينية منذ بداية عملها في منتصف الستّينيات، و امتدّت آثارها إلى يومنا هذا، لكن بدايةً لنحاولْ تحديد هذه الأزمة و تشخيصها و طرحها بوضوح على بساط البحث.

 يمكن تعريف هذه الأزمة بأنها تتمثّل في انسداد الأفق أمام المشروع الوطني الفلسطيني ممثّلا في انسداد الأفق أمام فريقيْ هذا العمل- فريق السلطة و فريق المعارضة- على اعتبار أنّ كلّ فريق منهما يمثّل مشروعًا مختلفاً في التّعامل مع القضيّة الفلسطينية، ونقصد بذلك مشروع الحلّ السلمي و مشروع المقاومة المسلّحة، وهذان المشروعان هما خلاصة ما أسفرت عنه تجربة العمل الوطني الفلسطيني منذ بداية الانتفاضة عام 1987 على الرّغم من أنّ جذور المشروعيْن تعود إلى مرحلة ما قبل الانتفاضة بكثير.

"
إنّ ما ينطبق اليوم على تصوّرات القيادة السياسية لمنظّمة التحرير بشأن عملية التسوية، ينطبق أيضاً على أيّ رؤية أخرى لمشروع التّسوية في المنطقة و من ضمنها رؤية حماس لهذه التسوية
"

أودّ في البداية أن أثبت قاعدة مهمّة في شأن التسوية السياسية و هي مشروعيّة هذا الشكل من العمل الوطني مبدئياً، و أقصد بمشروعيّته المبدئيّة ، حقّ السياسي في أن يلجأ إلى التفاوض مع العدوّ لأسباب قد يفرضها الواقع أو موازين القوى، أو أيّ ظروفٍ أخرى ميدانية، و أهمية هذا الإثبات لمشروعيّة الفعل التفاوضي بالمعنى السياسي تأتي من حقيقة أنّ رفض التّفاوض و العمل على تعطيل مسيرته في المراحل السابقة، كثيراً ما كان يتمّ استنادا إلى رؤى طهورية ترى في فعل التّفاوض بحدّ ذاته خيانة يقوم بها السّياسي، وهذا فهم غير سويّ للعمل السياسي عموماً و له علاقة بالموروث الشّعبي، النفسي و الاجتماعي أكثر ممّا له علاقة بالعمل السّياسي.

لكن مشروعيّة الفعل السّياسي التّفاوضي من حيث المبدأ لا تجعل كلّ عملية تفاوضيّة عمليّة شرعيّة و صحيحة، فالتفاوض كما الفعل المقاوم له مقوّماته  ومقدّماته التي إن افتقدها يصبح فعلاً عبثياً و غير مُجدٍ.

تعود جذور مشروع التّسوية في العمل الفلسطيني إلى مراحلَ مبكرة، فعلى إثر حرب تشرين لعام 1973 تقدّم الاتحاد السوفييتي حينها بمشروع بريجنيف لتسوية القضيّة الفلسطينية، هذا المشروع تمّت الموافقة عليه في الدّورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، وقد لقي في حينها معارضة من بعض الفصائل الفلسطينية التي ما لبثت أنْ توافقت عليه في صيغة البرنامج المرحلي لمنظّمة التحرير المتمثّل في حلّ الدولتين عام 1979. إذا عدنا بالذّاكرة إلى تلك المرحلة فقد كان الشّكل المطروح لتطبيق هذه الرّؤية هو الدّعوة إلى مؤتمر دولي و إقرار حلِّ الدولتين، و عند النظر إلى هذا الأمر نكتشف أنّ المعوّل عليه في تحقيق هذا النموذج من التسوية السياسيّة هو الثقل السياسي للاتّحاد السوفييتي و دول المنظومة الاشتراكيّة في حينها، أي ثقل عامل خارجي دولي ،لا ثقل وقائع ميدانيّة داخلية تجعل من الخصْم يوافق على هذه التسوية، و هذا الأمر على واقعيّته في حينها ،لكنه كما تبيّن لاحقًا غير مُجدٍ في حالة الصّراع مع الكيان الإسرائيلي لخصوصيّة العلاقة التي تربط هذا الكيان بالمنظومة الدوليّة و طبيعة تحالفاته المعقّدة منذ نشأته كفكرة إلى أن تحوّل واقعاً متحقّقاً. هذا التصوّر للتسوية السياسيّة أخذ أشكالاً مختلفة من التطوّرات لاحقًا عبْر مبادرات مختلفة و في ظروف سياسية مختلفة لكنه كان في كلّ الأحوال محكوماً لتوازنات العالم ثنائي القطبيّة.

 مع انهيار الاتّحاد السوفييتي وقيام نظام عالمي جديد أحادي القطبيّة، لم ينهرْ مشروع التّسوية ظاهريًّا، إنما تم تعديل مرجعيّاته الدولية في مؤتمر مدريد، لتصبح رغبة النظام الدولي الجديد في فرض نموذجه للعلاقات الدولية و تصوّره لحلّ النزاعات الإقليمية هي مرجعية اتّفاق أوسلو التي لم تجْد نفعاً خلال ما يقارب عقديْن من الزّمان كما لم يُجْدِ نفعاً ما سمّي رؤية بوش و لن يُجديَ نفعاً ما يمكن تسميته اليوم التزامات أوباما أو غيره، و السبب ببساطة هو أنّ عدم اكتمال مقوّمات و مقدّمات أيّ رؤية للتسوية يمكن للطّرفين أن يجِداَ فيها خروجاً من واقع قد يعود بضرر أكبر عليهما إن لم يقْدما على هذه التّسوية. إنّ قيام كيان فلسطيني بالشّروط التي يريدها الفلسطينيون هو في المفهوم الإسرائيلي خطر على مستقبل إسرائيل، وإسرائيل لن تقبل بمثل هذا الخطر إلاّ تفاديًا لخطر أكبر منه لا يبدو أنّ ملامحه العملية الواقعية قد اتّضحت إلى تاريخ يومنا هذا.

 إنّ ما ينطبق اليوم على تصوّرات القيادة السياسية لمنظّمة التحرير بشأن عملية التسوية، ينطبق أيضاً على أيّ رؤية أخرى لمشروع التّسوية في المنطقة و من ضمنها رؤية حماس لهذه التسوية سواء طُرحت تحت مسمّى الهدنة طويلة الأمد، أو عبر تفويض القيادة الرسمية للتفاوض من أجل دولة في حدود عام 1967 كما عبّر عن ذلك خالد مشعل في خطاب المصالحة الأخير. فهذه التسوية لن تتحقّق أيضاً على الأرض و ستقود لِذات الأسباب، إلى ذات النتائج التي وصلت إليها قيادة حركة فتح من قبل، و نعيد مرّةً أخرى أنّنا لا نعبّر عن موقف طهوري مُعادٍ من حيث المبدأ للتفاوض و الحلول المرحليّة ، إنما نعبّر عن موقف سياسي مفاده أنّ مسار التسوية هو في واقع الموازين القائمة اليوم مسار وهمي له علاقة بإدارة الأزمة من قبل قوى دوليّة و إقليميّة، أكثر بكثير ممّا له علاقة بتقديم حلول لها.

 إنّ مشروع التسوية مأزوم و ليس له أيّ مستقبل في العمل السياسي الفلسطيني إذا لم تحصل تغيّرات جذريّة تجعل من هذا المشروع مشروعاً قابلاً للتطبيق من حيث المبدأ، ثم تأتي بعد ذلك كلّ القضايا التفصيليّة التي لها علاقة بطبيعة التّسوية  وشروطها و غير ذلك من التفاصيل المهمّة، لكن ما نريد أن نثبته هو أنّ مشروع التسوية السّياسية هو مشروع غير ممكن اليوم و هذا ما أثبتته التّجربة العمليّة بعد ثمانية عشر عاماً من المفاوضات.

2 . في أزمة مشروع المقاومة

 

لو حاولنا بلورة هذه الأزمة في عنوان محدّد لقلنا إنّ أزمة المشروع المقاوم في السّاحة الفلسطينية تتمثّل في غياب رؤية متكاملة لهذا المشروع ، و إنّ قوى المقاومة كانت في معظم مراحل العمل الثّوري الفلسطيني تمارس المقاومة بوصفها فعلاً أخلاقياًّ يمليه واقع الاحتلال المرفوض عقديًّا و شعبيًّا و إنسانياً، ولم تكن تمارسه في إطار رؤية استراتيجيّة متكاملة يتحقّق بمحصلتها هدف الشّعب الفلسطيني في التّحرير و العودة أو حتّى إقامة الدولة كحلّ مرحلي توافقت عليه فصائل منظّمة التحرير في المؤتمر الوطني الفلسطيني الرابع عشر عام 1979.

ربّما كانت المراحل الأولى للعمل المقاوم منذ العام 1965 و حتّى عام 1970 هي المرحلة الوحيدة التي امتلك فيها الفعل المقاوم مقوّمات مشروع مقاوم يمكن تبيّن ملامحه بوضوح ، هذه المقوّمات التي تمثّلت في السّاحة الأردنيّة كساحة مواجهة لها خصوصيّتها الجغرافية و الديمغرافيّة ، فالأردن كخطّ مواجهة له جبهة حدوديّة يصل امتدادها من الشمال إلى الجنوب إلى 218 كيلومترا، منها 97 كيلومترا مع الضّفّة الغربيّة بواقعها الجغرافي و السكّاني الذي يتيح لأيّ عمل مقاوم حاضنة شعبيّة ملائمة.

إلى جانب العامل الجغرافي هناك خاصيّة ديمغرافيّة تميّز الأردن هي التّمازج السكّاني الكبير الذي يميّز موقعه الجغرافي في منطقة تتوسّط بلاد الشّام و جزيرة العرب. إضافةً إلى ذلك كانت هناك مقدّمات لتبلور حركات تحرّر ثوريّة عربية ترى في ظاهرة العمل الفلسطيني المسلّح طليعة للعمل التحرّري العربي الذي يأتي على رأس أولويّاته هزيمة المشروع الصّهيوني في المنطقة، و كانت على استعداد لرفد العمل الفدائي الفلسطيني بكلّ مقوّمات الصّمود في ظلّ الحاضنة القوميّة لنظام عبد الناصر في مصر. لكن خروج المقاومة من الأردن و نهاية المرحلة الناصريّة وضع العمل الفلسطيني المقاوم أمام خيارات صعبة أفضت بياسر عرفات كقائد ذي نظرة واقعيّة براغماتيّة إلى حدٍّ كبير، للتبنّي المبكر و الاضطراري لنهج التّسوية، في حين استمرّت المقاومة كحالة شكليّة أدّى انخراطها في الصّراع اللبناني الداخلي إلى فقدانها لدورها الرّئيس.

"
إنّ غياب المشروع المقاوم قاد إلى عددٍ من الأخطاء الكارثيّة انعكست نتائجها على الشّعب الفلسطيني و نضاله الوطني في مراحلَ مختلفة.
"

مع انطلاقة الانتفاضة الفلسطينيّة عام 1987 و انتفاضة الأقصى عام 2000 بشكل خاصّ تطوّرت المقاومة المسلّحة في الداخل ميدانيًّا في سياق الفعل و ردّ الفعل، دون أن تبلور هذه المقاومة عقيدة قتاليّة واضحة أو رؤية استراتيجيّة، إنّ هذا النوع من الفعل المقاوم و على الرّغم من تقديرنا لكلّ البطولات الفرديّة و الجماعية التي عبّر الشّعب الفلسطيني من خلالها عن تمسّكه بحقّه و عن إرادة لا تلِين في مواجهة العدوان، لكنها كانت فاقدة لبوصلة حقيقة و كانت بحقّ فعلاً أخلاقيًّا بامتياز عبّر عن شجاعة و صلابة و قوّة في الدّفاع عن الحقّ، لكنّها لم ترق إلى حدود بلورة مشروع مقاومة متكامل العناصر.

 إنّ غياب المشروع المقاوم قاد إلى عددٍ من الأخطاء الكارثيّة انعكست نتائجها على الشّعب الفلسطيني و نضاله الوطني في مراحلَ مختلفة، سواء ما كان منها في مرحلة ما قبل الانتفاضة و العمل الفلسطيني المسلّح في لبنان قبل عام 1982 أو ما تمّ بعد ذلك في مرحلة ما بعد الانتفاضة و التي توّجت بعمليات إطلاق الصّواريخ من غزّة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منها ، هذه العمليات غير المدروسة و غير المرتبطة برؤية استراتيجية كانت محكومة برؤى سياسيةّ مصلحيّة آنيّة.

 الأخطر من ذلك كلّه أنّ غياب الرّؤية الاستراتيجيّة للعمل المقاوم أدّى في المحصّلة إلى اندراج الفعل الفلسطيني المقاوم في إطار مشاريع إقليميّة لها رؤيتها الاستراتيجيّة التي لا تتطابق مع مصلحة الشّعب الفلسطيني و لكنها لا ترفض توظيف الفعل الفلسطيني المقاوم في معركة استراتيجيات إقليميّة كبرى، كما تحوّل قبل ذلك الفلسطيني  المفاوض إلى ورقة في معادلة إقليميّة و دوليّة معاكسة. و هذا ما أفضى بالعمل الفلسطيني المقاوم إلى بداية التّصادم مع قوى فلسطينيّة داخلية ترفض مثل هذا التّوظيف، و قوى عربيّة ترى في هذا التّوظيف للعمل المقاوم انحيازاً فلسطينيًّا إلى مصلحة أطرافٍ إقليميّة على حساب أطرافٍ أخرى.

 

3 . في أسباب الأزمة و سبل الخروج منها

 

إنّ إدارة أيّ صراع تتطلّب وضوحاً في الرّؤية و تقديرًا صحيحاً لطبيعة الخصم و قدراته و إمكانياته و منظومة تحالفاته ، و بالتالي بناءً على ذلك يتمّ تحديد شكل المعركة و أدواتها و عناصر القوّة الذاتية فيها قياسًا إلى عناصر قوّة العدوّ ، و منظومة التحالفات المضادّة.

لا نريد أن نخوض في تقييم شامل لتجربة العمل الفلسطيني، على الرّغم من أهميّة هذا التقييم و هذه المراجعة الشّاملة اليوم، لكننا نريد أن نركّز على عامل واحد من العوامل التي حكمت العمل الفلسطيني منذ السّتينيّات و حتّى اليوم و أدّت إلى فقدان المشروعيْن سابقيْ الذّكر - مشروع المقاومة و مشروع التّسوية- لآفاق واقعيّة و أفضت بهما إلى طريق مسدود و بالتالي الوصول بالعمل الفلسطيني إلى حالة الأزمة.

إنّ مواجهة المشروع الصّهيوني في المنطقة تعني مواجهة إسرائيل كدولة بكلّ مقدراتها العسكريّة التي لا يُستهان بها، و يعني أيضا مواجهة شبكة علاقاتها و تحالفاتها الدوليّة التي تشمل  العالم الغربي برمّته بكلّ مقدراته العسكريّة و السياسية و الاقتصاديّة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه التحالفات ليست تحالفات سياسيّة عابرة إنّما هي علاقة عضويّة تجعل من الغرب على استعداد للدّخول العسكري المباشر في المنطقة حمايةً لدولة إسرائيل ، عدا عن استعداده الدائم لمدّ إسرائيل بكل مقوّمات التفوّق الاقتصادية و التسليحية ، إضافةً إلى الحماية السياسيّة و الدولية التي جعلت من إسرائيل الدّولة الوحيدة في العالم التي لها امتياز كونها دولة فوق القانون.

"
إنّ مواجهة المشروع الصّهيوني في المنطقة تعني مواجهة إسرائيل كدولة بكلّ مقدراتها العسكريّة التي لا يُستهان بها، و يعني أيضا مواجهة شبكة علاقاتها و تحالفاتها الدوليّة التي تشمل العالم الغربي برمّته بكلّ مقدراته العسكريّة و السياسية و الاقتصاديّة
"

إنّ مواجهة من هذا النّوع تقتضي قيام تحالف قوَى مكافئ لقوى الخصم، أو في  أقلّ تقدير له من مقوّمات الصّمود و المواجهة ما يجعله قادرًا و مؤثّرًا، لكن الواقع يشير إلى أنّ فلسفة العمل الوطني الفلسطيني المعاصر قامت على أساس افتراض غريب مفاده أنّ الشّعب الفلسطيني قادر على مواجهة هذا الخصم بقواه الذاتية، و قد دخل بالفعل في معركة شرسة مع هذا الكيان معتمدًا على قواه الذاتية، و على الرغم من المستوى العالي للكفاحيّة و الاستعداد للتّضحية التي أظهرها الشّعب الفلسطيني، لكنه في كلّ الأحوال كان يقود ،بالمعنى الاستراتيجي، معركة خاسرة، و ذلك ببساطة شديدة لعدم تكافؤ القوى مع الخصم، و هذا ما يمكن تلمسه في مراجعة بسيطة لكلّ مراحل العمل الوطني الفلسطيني المعاصر، و هذا بالتحديد ما قادنا اليوم إلى ما أسميناه الأزمة المتمثّلة في انسداد الأفق أمام العمل الوطني الفلسطيني بمسلّماته القديمة.

 و لكي نكون مُنْصفين لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الفلسطينيّين لم يلجؤوا إلى هذا الخيار برغبتهم الذاتية، إنّما كانوا مجْبَرين إلى حدٍّ كبير للدّخول في المواجهة منفردين أمام تخاذل الأنظمة العربيّة الرسمية، لكن هذا الخيار الاضطراري تحوّل بقصد أو من دون قصد إلى قاعدة و مبدأ بدَا مريحًا جداً لقيادة العمل الوطني الفلسطيني وللأنظمة ذاتها.

إنّ الهويّة الفلسطينيّة المقاومة التي عبّرت خلال عقودٍ عن خصوصيّة نضاليّة تغنَّى بها الشّعراء و الكتّاب هي ظاهرة متعدّدة الأوجه، و كما هو شأن معظم الظواهر الحياتية فهي ذات وجهين أحدهما إيجابي و الآخر سلبي.

 كان لتبلور الهويّة الفلسطينية و الخصوصيّة الفلسطينية دورٌ هام في الحفاظ على ديمومة القضيّة الفلسطينية و بخاصّة أمام تقاعس الأنظمة الرّسمية العربية و عزوفها عن القيام بدورها في مواجهة المشروع الصهيوني، و كذلك فإنّ تجمّعات اللاجئين و مجتمعاتهم ذات الخصوصية الثقافية و السياسية المتميزة كان لها كذلك دورٌ في دفع النّضال الفلسطيني لمواجهة المشروع الصهيوني. و قد أفرز هذا الواقع و هذه الخصوصية مجموعة من المكاسب التي لا يمكن التخلّي عنها اليوم ببساطة و سهولة.

لكن ثنائيّة هذه الظاهرة لا تغيّر من حقيقة أنّ أحد أوجهها يمثّل وجهها الأصلي، في حين أنّ الوجه الآخر هو الوجه المُضاف أو المكتسَب.

إنّ الوجه الأصلي لظاهرة الهويّة الفلسطينية و الخصوصيّة الفلسطينية هو وجه سلبي عاد بنتائجَ كارثيّة على مستوى إمكانية بلورة مشروع مواجهة استراتيجي للتصدّي  للمشروع الصهيوني المتعاظم و المتنامي، و لا يغيّر من واقع الحال الإنجازات التي حقّقها المشروع الوطني الفلسطيني في كلّ مراحل عمره. و قد عبّر العمل الفلسطيني المقاوم عبْر تاريخه عن تناقض شديد في طروحاته و رؤيته لفهم الصّراع مع المشروع الصهيوني، فمن ناحية أولى كان يتمّ التأكيد على مركزيّة الصّراع على فلسطين سواء لجهة قوميّة المعركة أو إسلاميّتها،  ومن جهة ثانية كان هناك تأكيدٌ شديد على مكوّنات الهويّة الفلسطينية الخاصّة و العمل الحثيث على إبرازها و إبراز تميّزها و خصوصيّة دورها و ما شابه ذلك ممّا كان للأدب الفلسطيني دورًٌ مهم في بنائه و تعزيزه دون تلمس الأبعاد السياسية الخفيّة الكامنة في بناء هذه الخصوصية النّضالية. و على العموم فقد وقع العمل الفلسطيني أسير تناقض الدعوة إلى المركزيّة و التشبّث بالخصوصيّة التي تمثّلت في فترات طويلة بشعار القرار الفلسطيني المستقلّ الذي تحوّل في مرحلة ما بعد أوسلو إلى المسار الفلسطيني المستقلّ و الذي يُعنى به مسار التّسوية السياسيّة.

إنّ وقوع العمل الفلسطيني في هذا التناقض لم يكن خطأً فردياًّ وقعت فيه النّخب الفلسطينية في الستينيات و السبعينيات من القرن الماضي، إنّما هو محصلة لواقع عربي متناقضٍ أصلاً، فالنّخب الفلسطينيّة في تأكيدها على الهويّة الفلسطينية كانت تؤيّد الحفاظ على هذه الهويّة في وجه المشروع الصهيوني الذي يسعى لطمسها، لكنها في نفس الوقت كانت تؤكّد و ترسّخ الحالة السياسية التي أدّت إلى إمكانيّة تحقّق هذا المشروع الصهيوني ، و هو الواقع الذي تمخّضت عنه الحرب العالميّة الأولى و اتّفاقيات سايكس بيكو و سان ريمو من تقسيم المنطقة العربيّة إلى دويلات، و ّ فشل المشروع القومي العربي في تحقيق نتائج ملموسة أدّى إلى تكريس التقسيمات القطرية كأمر  واقع و قد عمدت كلّ الأنظمة القطرية لتكريس نوعٍ من الهويّات القطرية لتكون أساساً لاستقرار نظامها السياسي و قاعدة له و بذلك عاشت هذه الأنظمة أيضاً تناقض الهويّة القطرية و شعار الوحدة القومية، هذا التناقض الذي جعل من دولتين عربيّتين حاملتين للواء الوحدة القوميّة - سورية والعراق- عدوّتيْن لدودتيْن.

"
إننا اليوم أمام تحوّل يعيد صياغة المنطقة جيوسياسياً، و استراتيجياً، سواء لصالح الشعوب العربية و تطلّعاتها ، وهذا ما نأمله ، أو لجهة معاكسة و هذا ما نخشى منه،
"

من ناحية أخرى فقد ساهمت الدول القطرية العربية في تعزيز هويّة فلسطينية و تمكينها و بلورتها لأنّ في ذلك دفعاً لمسؤوليات الصّراع عن كاهلها، فعندما وقف السادات في مؤتمر القمّة العربي في الرباط لعام 1974 مدافعاً عن قرارٍ يدعو لأن تكون منظّمة التحرير الفلسطينية ممثّلاً شرعياً ووحيداً للشّعب الفلسطيني كان أحرص على التملّص من مسؤوليّته تجاه الملفّ الفلسطيني من حرصه على استقلال القرار الفلسطيني.

كلّ هذه الملابسات صحيحة و مفهومة تاريخياً و سياسياً، لكن ذلك لا يلغِي حقيقة أساسيّة و جوهريّة و هي أنّ فصل النّضال الفلسطيني عن محيطه و بلورة هويّة نضاليّة فلسطينيّة خاصّة  قد وضع الصّراع الشمولي مع الكيان الصهيوني بأبعاده المختلفة على سكّة التفوّق الإسرائيلي الاستراتيجي الذي قاد في المحصلة إلى استنزاف المشروع المقاوم و انسداد آفاقه الحقيقية اليوم. كما جعل من طروحات التسوية جولات من المماحكة و التنافس الكلامي الذي لن يفضيَ إلى شيءٍ يُذكر في ظلّ تحالفات اليوم و توازنات القوى التي يبدو أنها قد بدأت في التّغيير و لذلك فإنّ استحقاق المراجعة أصبح أكثر إلحاحاً.

ليس الحديث عن انفصال النّضال الفلسطيني عن محيطه العربي و الإسلامي حديثاً جديداً، لكنّنا اليوم أمام واقع جديد ينْمو و يتشكّل، و هذه هي اللحظة التاريخية التي يجب التقاطها قبل أن تتجاوزنا و تتجاوز قدرة القوى السياسية على اللّحاق بها. إننا اليوم أمام تحوّل يعيد صياغة المنطقة جيوسياسياً، و استراتيجياً، سواء لصالح الشعوب العربية و تطلّعاتها ، وهذا ما نأمله ، أو لجهة معاكسة و هذا ما نخشى منه، لكنّنا أمام واقع يتغيّر و إنّ واحدًا من المعايير الأساسية التي يمكن من خلالها الحكم على هذه التغيّرات و وجهتها هو في الحقيقة ما ستقرّره هذه التوجّهات بشأن القضية الفلسطينية. لذلك نستطيع القول إنّنا أمام تحوّل مفصلي على الصعيد العربي الإسلامي تجاه القضيّة الفلسطينية، تحوّل لم تتّضحْ كلّ معالمه، لكنه بحدّ ذاته يمثّل حدثاً تاريخياً سيُعيد تشكيل المنطقة.

لذلك، فقد آن الأوان للقوى الفلسطينية و الفصائل أن ترتقيَ على مستوى الوعي، وعلى مستوى التخطيط و إدارة الصّراع من مرحلة ما قبل الثورات العربية إلى مرحلة ما بعدها، و أن تخرج من  دائرة التفاصيل الصّغيرة و أن تعيد حساباتها  وتراجعَ مسلّماتِها للّحاق باللحظة التاريخية و إعادة القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح، مسار تفوّقها الاستراتيجي عبْر مراكمة القوى و بناء التّحالفات القادرة على مواجهة قوى الخصم. على القوى الفلسطينية أن تسارع للعودة بالقضية الفلسطينية إلى حاضنتها العربية و الإسلامية، و إلاّ فإنّ هذه القوى ستكون من مخلّفات الزمن العربي الذي انتهى و النّظام العربي الرّسمي الذي انتهى.

إنّ الفرصة لا تزال متاحةً أمام القوى و الفصائل الفلسطينية للقيام بالمراجعات المطلوبة، لكن هذه الفرصة لن تكون طويلةً و سيعمد الشّعب الفلسطيني إلى تجاوز هذه القوى و الفصائل إنْ عجزت عن التغيير، كما هي الحال بالنسبة إلى الواقع العربي المتشكّل و الذي إنْ عجز عن الارتقاء إلى تطلّعات الجماهير العربية، فإنّ هذه الجماهير الحاملة لأقصى حالات التوتّر الثّوري ستكون على استعدادٍ لتجاوز الواقع العربي و الانحياز نحو البدائل الثوريّة الأشدّ راديكاليّةً و التي تنشأ و تتكوّن في قلب كلّ الثورات الكبرى كما يشهد  على ذلك التّاريخ.

التعليقات