الانتفاضة السورية: هواجس ومسارات../ حمزة مصطفى المصطفى

انقضت ثلاثةُ أشهرٍ على انطلاق الحركة الاحتجاجيّة في سورية. ولا تزال الأزمة الحاصلة "الحادّة" تراوح في مكانها لجهة نتائجها المعلنة أو في كيفيّة معالجتها وطريقة التعاطي معها سياسياً. واقع الأمر يدلّل على تفاصيلَ متسارعةٍ في المشهد الاحتجاجي

الانتفاضة السورية: هواجس ومسارات../ حمزة مصطفى المصطفى

 

1. الابتعاد عن الاعتراف الحقيقي بالأزمة


 

انقضت ثلاثةُ أشهرٍ على انطلاق الحركة الاحتجاجيّة في سورية. ولا تزال الأزمة الحاصلة "الحادّة" تراوح في مكانها لجهة نتائجها المعلنة أو في كيفيّة معالجتها وطريقة التعاطي معها سياسياً.  واقع الأمر يدلّل على تفاصيلَ متسارعةٍ في المشهد الاحتجاجي.

ويترافق ذلك مع غياب دور القيادات المسؤولة من أقطاب المعارضة الوطنية وشخصياتها -باستثناءاتٍ نادرةٍ-  في ضبط الشارع، لجهة الشعارات والانحراف الذي قد يأخذ بعداً آخر يحمل في طيّاته مشاكلَ وشروخاتٍ اجتماعيةً وسياسيةً تترك تأثيرها في الحاضر وقد تمتدّ إلى المستقبل. على حين تظهر السلطة السياسية في موقع الافتراق أو " المبتعد "عن  الشارع المنتفض سياسياً. الأمر الذي تُبنى عليه هواجس ومخاوف داخلياً وخارجياً تفرضها مجموعة من المؤشّرات أبرزها:

هناك لغط في علم إدارة الأزمات بين الاعتراف بالأزمة أو تجاهلها كمدخل للتعامل معها وحلّها. بحيث يكون تجاهل الأزمة والتقليل من تداعياتها أحد أبرز مداخل معالجتها آنياً بهدف إدامة الواقع القائم على الاستقرار والنّفور من تغييره. بيْد أنّ هذه الطريقة قد تفيد "آنياً" في معالجة أزماتٍ عماليةٍ أو اقتصاديةٍ ريثما تتوفّر الرّغبة في التغيير. إلاّ أنّ التعاطي مع الأزمات السياسية - التي تندرج تحتها الحالة السورية-  وفق هذه الطريقة قد يكون مؤشّراً يحمل مخاطرَ عديدة، خاصّةً إذا ما ترافق تجاهل الأزمة ورفض الاعتراف بها مع غلبة أدوات الصّدام على أدوات الامتصاص في التّعامل معها.

وجدنا في الحالة السّورية اعترافاً رسمياً ضمنياً بوجود أزمةٍ في الواقع السّياسي والاجتماعي، لكن تمّ التعاطي معها على أساس وجود حالة طارئة  لم تتبلور كظاهرةٍ واضحةٍ يمكن أن تُبنى عليها نتائج. فالمراقب لتطوّر الأحداث في سورية يجد أنه وبعد الكلمة التوجيهيّة للرئيس السوري بشّار الأسد للحكومة الجديدة( 14نيسان 2011)، يلاحظ غياب أيّ تعاطٍ رسمي من قبل المسؤولين مع تطوّرات الشارع، باستثناءات معيّنة جاءت إعلانيةً من قبل وزير الإعلام عند إعلانه عن رغبة السلطات في فتح حوار وطني، أو كردّة فعلٍ على معطياتٍ خارجيةٍ أبرزها تصريحات وزير الخارجية وليد المعلم عشيّة إقرار الاتّحاد الأوروبي مجموعة من العقوبات السياسيّة والاقتصادية على القيادة السوريّة شملت رأس الهرم في الدولة.

 

"
وجدنا في الحالة السّورية اعترافاً رسمياً ضمنياً بوجود أزمةٍ في الواقع السّياسي والاجتماعي، لكن تمّ التعاطي معها على أساس وجود حالة طارئة  لم تتبلور كظاهرةٍ واضحةٍ يمكن أن تُبنى عليها نتائج.
"
وخلال هذه المرحلة، كان العديد من الأكاديميين والإعلاميين القريبين من الأدبيات السياسيّة للسلطة الوحيدين في الساحة الإعلامية. وقد استطاعوا ،بداية الأمر وفي الأيام الأولى من الانتفاضة الشعبية، إنتاج موقفٍ مقابلٍ للخطاب السّياسي المعارض. إلاّ أنّ حضورهم خَبا نتيجة تسارعِ الأحداث من جهة، والإصرار على عدم الاعتراف بالأزمة من خلال الارتكان إلى  مصطلحات سياسية مكرّرة تجمل الحركة الاحتجاجية في إطار " المؤامرة" إلى حدّ وقوع بعضهم في هفواتٍ كبيرةٍ كان لها أثر تأزيمي تصاعدي واستفزازي كوصف أحد "الأكاديميين" المتظاهرين بأنهم " حثالة المجتمع" والتحريض على قتلهم. في حين استخدم أكاديمي آخر  مصطلح " الضيوف" لتوصيف شخصيات المعارضة السورية الوطنيّة التي سيصار إلى إجراء الحوار معها. بعد ذلك تم التعاطي مع الحركة الاحتجاجية على أساس أنها تشكّل حالةً مسلّحةً تهدّد كيان الدولة ككلّ تفترض مواجهتها فرض حلولٍ أمنيّة قمعيّة لوأْدها . تطوّرت في ما بعد إلى  زجّ المؤسّسة العسكرية (الجيش) بفرقٍ معيّنةٍ خاصّة لاجتثاث الحركة من مكان انطلاقتها في درعا ثم انتقلت إلى حمص وسط سوريا، مرورًا بالرستن وتلبيسة إلى مدن ادلب و قراها شمال سورية.

خلال هذه الفترة غابت قيادات الدولة بمختلف أطيافها حكوميّة وبعثية ومنظماتية و جبهوية سياسياً، وظهرت ميدانياً عندما أعلنت ببيانات وزيريْ الإعلام والداخلية القصيرة أنّ ما تواجهه في سوريا  هو تمرّد مسلّح لن تتهاون في مواجهته.

جاءت المقاربة الأساسيّة لتطوّرات الوضع في سوريا خلال خطاب الرئيس بشار الأسد 20 حزيران/ يونيو 2011، ليقترب التعاطي الرسمي من الأدبيات التي حاولت السلطة نقْلها عبر الشخصيات الإعلامية المقرّبة، فقد ركّز الرئيس بشار الأسد على وجود " محنة" تمرّ بها سوريا مردّها أعمال التخريب التي نتجت  من جهات مرتبطة بمؤامرة خارجية استغلّت التظاهر الذي أجمل قسمه الأكبر بالمطلبي لتنفيذ المخطّط.

 وقد طرح وعودًا إصلاحيّة ذات بعد فضفاض يلامس أحيانًا القضايا الأساسية دون أن يدلّل على إجراءات عمليّة معتبرًا رغبة النظام في ذلك تأتي كاستمرار  لمسيرته " الإصلاحية" التي امتدّت خلال العقد الماضي. كما حمّل الحوار الوطني مسؤوليّة إزالة العقبات الدستورية والإجرائية التي تمنع تبلوره سواء فيما يتعلّق بمشروع قانون الانتخاب وقانون الأحزاب، فاتحًا الأفق الزمني إلى سنوات مقبلة لبلورة تعديل دستوري أو إنتاج دستورٍ جديد.

ابتعد الرئيس الأسد خلال خطابه عن الاعتراف بوجود أزمة في بنية نظامه السياسي، وأجمل الخلل الحاصل بشكل وصورة الواقع السياسي الثابت والذي امتدّ خمسة عقود.

لا تمرّ سورية في نظر  النظام بأزمة حقيقية إنّما حالة اختلطت فيها المطالب المعيشيّة والسياسية مع حالة تخريبية خارجية تستهدف الدولة ككيان. وهو ما يجعل الوضع في سوريا ينطوي على الكثير من المخاطر لجهة عدم الحسم في رجحان الحلّ السياسي على عداه من حلول، واستمرار التعاطي مع الحركة الاحتجاجية بأنها ظاهرة " خارجة عن القانون".

 

2. الخلط بين الأمني والعسكري مقابل انتفاء السياسي


 

من قراءة واقع المشهد العربي في ساحات التغيير المختلفة ( البحرين - اليمن- ليبيا- سوريا) نجد أنّ أنظمة الحكم العربية الديكتاتورية قد توصّلت إلى نتيجةٍ مفادها أنّ  السبب الرّئيس لنجاح الثورتين التونسيّة والمصريّة هو عدم استخدام العنف والقمع بالدرجة المطلوبة. وهو ما ساهم في إنتاج حشد شعبي في ميادينَ مختلفة ( التحرير - شارع الحبيب بورقيبة) كان له بالغ الأثر في  إيضاح صورة التأييد الشعبي المزعوم لهذه الأنظمة.

كما أنّ هذه الأنظمة أدركت أنّ حياد المؤسّسة العسكرية كان له الدور الأكبر في رجحان الكفّة لصالح حركات التغيير. لذلك وجدت أنّ قمع الحركة الاحتجاجية لا يتوقّف عند استخدام القوّة المفرطة من قبل أجهزتها الأمنية فحسب، بل بانخراط المؤسّسة العسكرية كطرفٍ إلى جانب النظام القائم. لذلك يمكن القول إنّ تلك الأنظمة لجأت إلى ما يسمَّى " الحلّ العسكري" وليس " الأمني" والمرتكز  على قاعدة قيمية  تعتبر أنّ المحتجّين " طرف" ضدّ الدولة ككيان. ونجم عن ذلك ظاهرة خطيرة تُماهي بين الدولة ككيان مع نظام الحكم القائم على خلاف ما وجدنا في الحالة التونسية والمصرية.

تدلّل المعطيات في النماذج السابقة على فشل الحلّ العسكري. إذ لم ينجح هذا الحلّ في منْع تجدّد التظاهرات الاحتجاجيّة في البحرين رغم نجاح درع الجزيرة المستحضر في قمعها كظاهرة واضحة. كما أفضى إلى انقسام المؤسّسة العسكرية في اليمن بعد تعذّر إجهاض زخم الثورة الشعبية ،والتي بدأت تقطف ثمار انطلاقاتها. أمّا في ليبيا وكنتيجة لشخصنة الدولة " بالقائد " تمّ إهمال دور الجيش الوطني  بسبب الاختلاف في ترتيب التحدّيات، وهو ما أنتج تصدّعاتٍ وانشقاقاتٍ في المؤسّسة العسكرية الهشّة عن نظام القذافي بعد انطلاق ثورة 17 فبراير ، لتظهر الكتائب الأمنيّة المرتبطة بالعائلة على أنها الضّامن العسكري للنظام الليبي في وجه المعارضة الشعبية المسلّحة.

 

"
من قراءة واقع المشهد العربي في ساحات التغيير المختلفة ( البحرين - اليمن- ليبيا- سوريا) نجد أنّ أنظمة الحكم العربية الديكتاتورية قد توصّلت إلى نتيجةٍ مفادها أنّ  السبب الرّئيس لنجاح الثورتين التونسيّة والمصريّة هو عدم استخدام العنف والقمع بالدرجة المطلوبة.
"
لا يوجد في الحالة السورية تشابهٌ مع ما سبق. فالنظام كما هو واضح متماسك وقويّ، وبنيته البيروقراطية خالية من أيّ تصدّع أو انشقاق، ولاتزال مؤشّرات الاقتصاد الكلّي الذي يستند إليه تتّسم بعناصر القوّة والسلامة اقتصادياً، ولاسيّما في المجال الأكثر حساسيةً وهو مجال سعر الصّرف الذي كان فلتانه من سيطرة مصرف سورية المركزي محدوداً. استنادًا إلى ذلك تنتفي حالياً  مؤشّرات وصول الحركة الاحتجاجيّة في سوريا إلى الحالة الثورية التي يوصّفها لينين بضرورة وجود تفكّك في بنية النظام القائم لإنتاج التغيير.

لكن ومن خلال الغوْص في بنية المؤسسة العسكرية وآليّة عملها كهيكلية قائمة. ومن خلال تجارب تاريخية مماثلة، يصعب الحكم بنجاح قمع الحركة الاحتجاجية عسكرياً كونها تحتضن في انطلاقتها واستمرارها بعداً شعبياً سلمياً ولا تشكّل تمرداً مسلَّحاً بالمعنى الحقيقي .

وقد تجلّى فشل الحلّ العسكري في قمع الاحتجاجات القائمة في سوريا بشكلٍ واضح في الفترة الأخيرة من خلال عودة مناطق عديدة نُفّذت فيها عمليّاتٌ عسكرية كدرعا ودوما وتلكخ وتلبيسة ومعرة النعمان إلى التظاهر بصورةٍ أشدّ كثافةً ممّا كانت عليه من قبل .

بالتالي فإنّ الحلّ العسكري غير قادر على إزالة مسبّبات الحركة الاحتجاجيّة رغم نجاحه أحياناً في إفقادها الزخم التراكمي المكتسب والذي قد يتجدّد حال توافرت ظروف موضوعية مشابهة لنشأتها. الأمر الذي يعمّق الأزمة مع اكتسابها روافد جديدة ويفاقمها إلى درجة يصعب قمعُها كنتيجة للكلفة البشرية. ما يجعل عدم القدرة على قمعها يوازي " الحالة الثورية" لتفكّك بنية النظام على غرار ما حصل في المشهد الإيراني قبيْل عامٍ من نجاح الثورة .

3. نظرة أخرى في التدخل الخارجي

ما يميّز الواقع السياسي والاجتماعي في سوريا أنه وبسبب تعقيدات الوضع الجيو-بوليتيكي للدولة السورية شديد الحساسية لأيّ شيء خارج الحدود الوطنية، وذلك لخبرته في أسلوب التعامل الخارجي مع قضاياه الوطنية وخاصّةً فيما يتعلّق بالنظرة إلى إسرائيل. لذلك بالإمكان الوصول  مبدئياً إلى نتيجة مفادها أنّ غالبيّة الشّعب السوري ترفض التدخّل في القضايا الداخلية تحت أيّ مسمّى .

بيد أنه وخلال الحالة الليبية تمّ ملاحظة حصول تغيّر كبير في مؤشّرات الرّأي العام العربي لجهة التدخّل الخارجي بأشكاله المتعدّدة. فإذا ما تمّت المقارنة بين معطيات حرب العراق والتدخّل الأطلسي في ليبيا نجد اختلافاً جذرياً في اتّجاهات الرأي العام الذي بدأ ينظر إلى هذا التدخّل في الإطار العاطفي أو " المتعاطف" . إلى درجة طغى على البعد المصلحي الدافع لتحركات الدول. وما يكرّس الواقع السيّء أكثر  هو أنّ العديد من الحكومات والأنظمة العربية مقتنعة بذلك وقد تشجّعه أحياناً. الأمر الذي يمثّل الخطر الأكبر على المشهد السياسي العربي.

ضمن هذه المعطيات و بدلاً من أن تعترف السلطة برفض المجتمع وقوى المعارضة الوطنيّة لأفكار التدخّل الخارجي. ركّزت على تفسير قاصر يبرز الموقف الخارجي الروسي والصيني على أنه عاصمها  من التدخّل الخارجي وليس موقف مجتمعاتها منه. مع أنّ هذين الموقفين قد يخضعان للتغير حسب المصالح وموازين القوى .

وكما أفسح الخطاب السياسي ووسائل الإعلام الرسميّة الليبية مساحةً واسعةً وصلت إلى حدود "التغني" بموقف روسيا والصين المعارض للتدخّل الدولي  في بداية الثورة . يمكن ملاحظة المقاربة ذاتها في الخطاب الرّسمي السوري ووسائل إعلامه الرّسمية والمقرّبة. حيث أجمل الخطاب الإعلامي الرسمي نظرة الحركة الاحتجاجية للتدخّل الخارجي بمواقف بعض الأحزاب والشخصيات المعارضة في الخارج والتي تسعى إلى إنتاج هذا التدخّل انطلاقاً من فهمها المحدود لكيفية إنتاج التغيير و القائم على استعصاء إمكانيّة إحداثه داخليًّا.

 

"
استمرار عمر الأزمة برفض النظام التغيير وعدم بروز نتائج للحراك الاحتجاجي بتحقيق المطالب يشكّل عاملاً خطيراً ستنعكس تداعياته ليس فقط على الجانب السياسي من خلال انخراط عددٍ كبير من الفاعلين في الشأن السوري فحسب، بل وفي الواقع الاجتماعي والاقتصادي أيضاً
"
وبالتالي ترى ضرورة محاكاة نماذج لتدخل العنصر الأجنبي في التغيير " التجربة العراقية". ويمكن ملاحظة ذلك من خلال محاولة هذه العناصر  استعداء دولتها بالاستعانة بمؤسسات دولية تارةً كالمحكمة الجنائية الدولية أو  بوثائق تقدّم للقوى الدولية ( روسيا والصين) تناشدها تغيير نظرتها للتدخّل مشرعنةً التدخل الخارجي، وسائرةً في طريق الخلط المهلك بين مسائل السياسة والسيادة في الموقف من وطنها .

ساهم الخلط الإعلامي الرسمي في تعميق الهوّة بين النظام القائم والمحتجّين، حيث تُظهر سلوكيات المحتجّين أنّ النظام يمعن في قمع الاحتجاجات نتيجة معارضة روسيا والصين لإدانته في مجلس الأمن. ويستمرّ هذا التعاطي الرسمي مع الموقف الروسي حتى الآن، على الرغم من أنّ روسيا كدولة عُرفت خلال السنوات الأخيرة بتعاطيها الانتهازي في مواجهة  سياسات الغرب . وهي لم تستخدم " الفيتو" منذ عام  1991.

وكانت دائماً تلحق بالرّكب الغربي في لحظات معيّنة. ما يجعلنا ،وكنتيجة لغياب الحلّ السياسي واستمرار الحلّ العسكري، نخشى تبلور تدخّل دولي فعلي خاصةً في ظلّ الموقف الجديد لحكومة حزب العدالة والتنمية التي أعلنت أنها لن تعارض أيّ توجّه أممي لإدانة سورية، وأصدرت مؤشّراتٍ عديدةً على قابليتها لتدويل أزمة اللاجئين السوريّين عند مرحلةٍ معيّنةٍ إذا لم يقم الرئيس بشار الأسد بإجراء إصلاحاتٍ عميقةٍ وجذريّةٍ ملموسةٍ في سورية.  إضافةً إلى توافر معطياتٍ إنسانيةٍ مؤلمةٍ تصلح معطى محفّزاً لهذا التغيير في الرّأي العام العربي.

وبالتالي، فإنّ استمرار عمر الأزمة برفض النظام التغيير وعدم بروز نتائج للحراك الاحتجاجي بتحقيق المطالب يشكّل عاملاً خطيراً ستنعكس تداعياته ليس فقط على الجانب السياسي من خلال انخراط عددٍ كبير من الفاعلين في الشأن السوري فحسب، بل وفي الواقع الاجتماعي والاقتصادي أيضاً، حيث سيساهم ذلك في تضاعف خسارة الليرة السورية لقيمتها، وتناقص الاحتياطي المستخدم في دعمها، وإضعاف مؤشّرات استقرار الإطار الكلّي للاقتصاد السوري، ممّا ينعكس أثره على الفئات الفقيرة والضعيفة التي انخرط معظمها في الأرياف وهوامش المدن في حركات الاحتجاج، وفي انخفاض معدّل النمو الاقتصادي، وبالتالي ارتفاع وتيرة البطالة، وسيرفع ذلك مؤشّر" مخاطر الدولة" على الاستثمارات، وسيشكّل بيئةً نافرةً طاردةً للاستثمارات ورؤوس الأموال وهو ما سيترك تداعياته المباشرة على بنية النظام القائم المتمثّلة في تماسك النظام وقدرة الدولة على الاستمرار في وظائفها .

4. غياب المعارضة واللغط في تأثيرها

تقسم المعارضة السورية إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي:

المعارضة في الخارج:

 وتشمل جميع الأحزاب والتيارات السياسية من إسلامية ويسارية وليبرالية. تعود نشأتها إلى عقودٍ مضَتْ  أبرزها جماعة الإخوان المسلمين التي خاضت صراعاً مسلّحاً( 1976-1983) مع النظام في مرحلة الرئيس السابق حافظ الأسد انتهى بخروج قياداتها من الداخل.

 وعلى الرغم من إعلان الجماعة مشاركتها في الاحتجاجات التي يغصّ بها الشارع السوري، إلاّ أن هناك مبالغة في تأثيرها وقدرتها على تحريك الشارع المحتجّ نتيجة افتقاد القدرة على التواصل مع قاعدتها التي تلاشت كتنظيم خلال السّنوات السابقة كونها محظورة قانونيًّا بالقانون 49 الذي يجرّم المنتسب إليها بعقوبة الإعدام.

 لذلك ونتيجة لافتقاد التأثير المباشر ،عملت الجماعة على بلورة خطوات سياسية في الخارج يمكن قراءتها في إطار الرغبة في إنتاج حضور إعلامي وسياسي يجملها في الحراك القائم كما هي الحال في مؤتمر إسطنبول ومن ثمّ أنطاليا وبروكسل الذي انضوى على حضور إخواني طاغٍ  رغم غياب القيادات السياسيّة للجماعة في إطار تكتيكها في المشاركة بشخصيّات وليس رسمياً. وتقدّمت الجماعة من خلال هذه الصيغة التي تسمح لها بحفظ خطّ الرجعة في سقف مطالبها على قوى المعارضة الداخلية من خلال الدعوة إلى استقالة الرئيس بشار الأسد وتسليم مهامّه لنائبه فاروق الشرع متجاهلا الآليّة التي من شأنها إحداث التغيير  في بنية النظام.

في الجانب الآخر تظهر مجموعةٌ من الأحزاب والشخصيات المعارضة خاصةً الليبرالية منها - معارضة واشنطن- والتي تعمل رموزها من خلال "بيوتات" بحث متّصلة بموظّفي السياسة المعنية بسورية. وهذه المعارضة تتقاطع مع الغرب ومصالحه وتظهر  على أنها المعادل الموضوعي للتيار الإسلامي، لجهة الاختلاف في التوجّهات والتقاطع في الهدف.  

ويمكن القول إنّ المعارضة السورية في الخارج لا تحظى بقبول وإجماع وطني في الداخل نتيجة سلوكها الانتهازي، وتمرّغ سمعة بعض أقطابها بتلقّي تمويل خارجي، والانغماس في أجنداتٍ خارجيةٍ تحت ذرائع إضعاف النظام، وافتقارها إلى البرامج الوطنية وابتعادها عن بلورة موقفٍ واضح من القضايا الوطنية الرئيسة وارتباطاتها بالمشاريع الغربية. وهي من أبرز الداعين إلى إنتاج تدخّل دولي في سورية على غرار الحالة الليبيّة أو العراقيّة .

معارضة الداخل التقليدية:

 

"
إنّ المعارضة السورية في الخارج لا تحظى بقبول وإجماع وطني في الداخل نتيجة سلوكها الانتهازي، وتمرّغ سمعة بعض أقطابها بتلقّي تمويل خارجي، والانغماس في أجنداتٍ خارجيةٍ تحت ذرائع إضعاف النظاماً
"
وتتجلّى في اتّجاه يمثّله مفكّرون وممارسون سياسيون ومؤثّرون في الرّأي العام إضافةً إلى بعض أحزاب المعارضة الوطنية المعروفة التي وُجدت سابقًا كالاتّحاد الاشتراكي العربي وحزب الشّعب الديمقراطي، والتي أعلنت في العام 1980 عن تشكيل" التجمّع الوطني الديمقراطي"، أو تلك التي تبلورت بعد تولّي الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم في سوريا وأبرزها إعلان دمشق والتجمّع الديمقراطي المعارض الذي تأسّس في عام 2005 .

 يطالب هذا الاتّجاه المعارضة بإنتاج تحوّل ديمقراطي في سوريا يبدأ بمفاوضات وحوار مع النظام القائم بما يساهم في تغيير سلوكياته والانتقال التدريجي إلى التعدّدية السياسية بمشاركة قوى النظام الحالي.

وتحظى هذه الشخصيات والأحزاب بقبول واحترام الشارع المحتجّ فكرياً في المنتديات وصفحات النقاش الجماعي في الفيس بوك وتويتر، رغم العديد من المآخذ التي يمكن إجمالها بغياب موقفٍ واضحٍ من النظام القائم وتصرفاته، وابتعادها عن المشاركة الفعلية في ضبط الشارع وانحرافاته واقتصارها على حراك نخبوي يأخذ في أغلب الأحيان بعدًا إعلاميًّا ويخلو من الجانب التنظيمي الذي انفردت به الأحزاب الكرديّة في المناطق الشمالية الشرقيّة من سوريا.

الحراك الجديد:

يشكّل هذا التصنيف بالمجمل نوعًا من المعارضة الشعبية الجديدة غير المؤطّرة حزبياً، وقد ظهر بداية الاحتجاجات في إطار ما يسمّى التضامنية الاجتماعية كما حصل في درعا ودوما. ثم توسّع بعد انتقال رقعة الاحتجاجات إلى مناطقَ جغرافية أخرى وتبلور شعارات الحركة الاحتجاجية. الأمر الذي ساهم في انخراط قسمٍ كبير من شباب المدن والقرى الكبرى في حمص وحماة وادلب ودير الزور وشَكّل شارعاً احتجاجياًّ غلبت عليه سمة العفويّة.

ونتيجة لاستمراريّة الحركة الاحتجاجية بدأ هذا الشّارع في بلورة قيادات ساهمت ميدانيًّا في عملية تنظيم الاحتجاجات والشّعارات التي تطرح . وتجمّعت هذه القيادات الميدانيّة ووحّدت نفسها تحت مسمَّى " لجان التنسيق المحلية في سوريا"، حيث تلعب دوراً تنظيمياً وإعلامياً واضحاً في هذه الانتفاضة وتساهم في نقل تفاصيل المشهد الاحتجاجي عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مرفقة بالصور والفيديوهات وباللغات الأجنبية بما يؤمِّن التواصل والتّفاعل مع العالم الخارجي خاصةً في ظلّ التعتيم الإعلامي الذي فرضتْه السلطات في سوريا.

 وقد طرحت هذه التّنسيقيات رؤيتها الواضحة لمستقبل سوريا والتي تُعتبر بمثابة " خريطة طريق" تمّ التوافق عليها  وتنطوي على مرحلة انتقاليّة لانتقال تدريجي للسلطة خلال مرحلة محدّدة بالتوافق مع النظام ومؤسّساته وخاصةً المؤسّسة العسكرية التي تنيط بها دورًا كبيرًا في ضمان هذه العملية .

رغم ذلك، يمكن القول إنّ الحراك الاحتجاجي في سوريا ما زال يندرج تحت كثير من العفوية وقليل من التنظيم، نتيجة عدم تبلور هيئة وطنية واحدة تضمّ جميع قوى المعارضة يكون لها برنامجٌ محدّد وتستطيع أن تقدّم تصورًا نظريًا وإجرائيًّا لمستقبل سورية .

5. سيناريوهات في مستقبل الانتفاضة السورية: أفكار أوّلية

لا يمكن حتى الآن صياغة سيناريو واحد يمكن الاستدلال به على مسار المشهد الاحتجاجي في سوريا نتيجة المعطيات السابقة والتي تحمل في طيّاتها بعدًا لاستمرار الأزمة دون وصولها إلى نتائجَ حتميّة وفق السيناريو المصري والتونسي، نتيجة خصوصيّة دول المشرق العربي التي تتعدّد فيها الطوائف والمذاهب والتي تشكّل أيضاً روافد أخرى لعدم الحسم نتيجة الخوف من المستقبل وغياب منطق الدولة بالمعنى الإجرائي وسيادة منطق العصبيات التي غذّاها النظام على أرض الواقع، إضافةً إلى تبلور الظاهرة  "الأسرية" التي سادت هيكلية العديد من المؤسّسات وخاصةً المؤسّسات الأمنية. من هنا نجد في سوريا، سواء في كثير من هبات المدن الهامشية أو في طريقة تعاطي النظام، ظاهرة " خلدونية" تتجلى في رابطة "عصبية وشائجية" تحمل بعدًا تعاطفياً ينطوي على أبعادٍ خطيرة أبرزها غياب مفهوم الدولة بمعناه السّيادي والحضاري.

انطلاقًا من ذلك، ثمّة سيناريوهات متعدّدة تحكم مستقبل الحراك الاحتجاجي تتوقّف على سلوك وممانعة طرفين متقابلين هما الشارع المحتجّ ونظام الحكم ويمكن إجمالها بثلاثة سيناريوهات هي :

أولاً: القدرة على قمع الحركة الاحتجاجية

كما ذكرنا سابقاً ما زال نظام الحكم يعرِّف الحركة الاحتجاجية بأنها حالةٌ أمنيّة طارئة أو تمرّد مسلَّح ضدّ الدولة، متجاهلاً أسبابها السياسية والاجتماعية والتي فرضت انطلاقاتها متأثّرةً بالثورات العربية التي وصفها نفسه بـ" صرعات التغيير" والذي نأى بنفسه عنها باعتباره يقود مسيرةً إصلاحيّة لم يتمكّن الشارع السوري من تلمُّس نتائجها في الجانب السياسي وحتى في الجانب الاقتصادي . فرغم الانفتاح الحاصل الذي تمّ إنتاجه لمراعاة ظروفٍ مرحليّة وانحصر في إطار استثمار ريعي افتقد وجود دورة إنتاج متكاملة قادرة على رفْع مستويات التشغيل وخفْض منحنى البطالة المتصاعد والذي ترافق مع سياسات " إفقار" نتيجة تدهور أوضاع الطبقة الوسطى في سورية التي خسرت مكتسباتها بسبب واقع تحالفات بين رجال الأعمال الصاعدين والدائرة الأمنيّة المقرَّبة من النظام بغطاء سياسي من أركان مؤثّرة فيه الأمر الذي يفسّر تأخّر مدنٍ معنيّة عن إنتاج واقعٍ احتجاجي على غرار المدن الأخرى.

يفرّق التفكير الأمني لقيادات معنيّة في النظام بين هذه المدن التي تعتبر بمثابة " المركز" والمدن الطرفيّة الأخرى. فعادةً ما يتمّ التعامل مع الاحتجاجات الموضعيّة بطرقٍ أقلّ قمعيّة لعدم إنتاج حنق اجتماعي ضدّه، على خلاف المدن الأخرى التي أمعن فيها في استخدام وسائل القمع كافّة بما فيها  "العسكري". وتبدو استراتيجية النظام الأمنيّة واضحةً لجهة الرغبة في وَأْدِ الانتفاضة لا حلّها . من ثمّ الدخول في مسار إصلاحي شكلي تدريجي وبطيء يبتعد عن الدائرة الفاعلة في النظام .

إنّ قدرة النظام على قمع الحركة الاحتجاجية ككلّ أمرٌ غير واقعي في ظلّ معطيات المشهد الاحتجاجي المتجدّدة، والتي تفرض نفسها كأمر واقع لا مفرَّ منه. لذلك فإنّ الخيار القمعي للنظام في الفترة الحالية يندرج في إطار الحيلولة دون تبلورها كظاهرة واضحة ذات بعد تنظيمي مستمرّ بحيث تكون قادرةً على إنتاج الزّخم الطبيعي لتطوّرها إلى وضع ثوري يهدّد بنيته.

نجح النظام آنياً في ذلك من خلال فرْض واقع غير طبيعي بوجود المدرّعات والدبّابات في المدن والشوارع العامّة . بيد أنّ ذلك يحمل نتائجَ عكسيةً تأتي من انتفاء القدرة على الوجود الدائم على غرار ما يحصل في درعا والرستن وتلبيسة وحمص، وبالتالي عودة الاحتجاجات بزخم أكبر وبشعارات أقسى تقطع أيّ نقطة التقاء يمكن التّفاوض عليها .

وللوجود العسكري مخاطرُ على النظام بذاته، تتمثّل في أنّ الجيش  ليس متهيّئاً لمهام الشرطة في حال اضطراره للردّ، و أنّ اختلاط العسكريّين بالمدنيّين يساهم في افتقاد التحكّم في الطّرف الأوّل بالشكل المطلوب نتيجة سيادة حالة عامّة "تآلفية" بين الجيش والناس في حالة عدم وجود ما يستدعي الردّ، الأمر الذي يُفقِد النظام واقع القدرة على القمع المطلوب . وهذا المعطى بدا واضحاً في المشهد السوري من خلال انتفاء تصادمات حقيقيّة بين الأهالي والجيش باستثناء قوّات النخبة " الفرقة الرابعة" التي لها مهام قمعية في زمن محدّد ،تحدث وقيعة نفسيّة ما تلبث أن تتلاشى بعد تخفيف الوطأة الأمنيّة ليصار إلى المشهد التآلفي كما بدا واضحاً في دوما ومدن ريف دمشق التي عادت بزخم أكبر إلى أطلس الاحتجاجات .  

ثانياً: نجاح الحركة الاحتجاجية وسقوط النظام

 

"
من أكثر المسلّمات الواقعيّة بعد انقضاء ثلاثة أشهر على انطلاق الحركة الاحتجاجيّة التي أفرزت قيادات وتنسيقيات من طراز جديد تكون في عمليّة التغيرات وليس في حلقات الأحزاب التقليدية ومؤسّساتها، أنّ سورية لا يمكن أن تعود إلى ما قبل تاريخ 15 آذار/ مارس 2011، وأنّ التحوّل الديمقراطي أضحى مَطلباً ونتيجة في ذات الوقت
"
توحّدت الشّعارات الاحتجاجيّة خلال الشهر الأخير منذ منتصف شهر نيسان/أبريل الماضي تحت شعار  "إسقاط النظام". وتمّ رفع هذا الشعار كردّة فعل على الواقع الأمني والعسكري الذي انتهجه النظام، لكن  رُفع دون التفكير إذا ما كانت المعطيات الاحتجاجيّة التي تتبلور في الساحات المختلفة قادرة على تعطيل تفاعلاته بشكلٍ يدفعه إلى السّقوط . خاصةً في ظلّ شريحة مؤيّدة له وتتماهى معه بأشكالٍ مختلفة وانتقاء حصول اختلالات كبيرة في بنيته البيروقراطية أو المؤسّساتية كما توافرت للثّورتين التونسية والمصرية .

لكن رغم ذلك أنتجت الحركة الاحتجاجيّة مدخلات عديدة لامست شرعيّته ومشروعيته القانونية في الداخل والرأي العام العربي وحتى المواقف الدولية . وبالتالي فرضت عليه حالة من الانغلاق الانكفاء شبه الكامل على نفسه، نتيجة افتقاد أطراف إقليمية وعربية كانت تشكّل البوّابة للولوج بشكل كبير إلى السّاحة الدولية . وبالتالي فإنّ سيناريو "إسقاطه" قد يكون واقعيًّا إذا ما أجبرت الحركة الاحتجاجيّة النظام على التراجع عن قمع الانتفاضة و وأْدِها والدّخول في توليفات إصلاحيّة لا تستطيع بنيته المغلقة الحاليّة التجاوب والتعاطي معها بالشكل المطلوب وهو ما سيساهم في تعطيل آليّات تفاعلاته خاصّةً في ظلّ افتقاده البعد العربي والإقليمي اللازم لمرونة الحركة . وبالتالي فإنّ نجاح هذا السيناريو يتطلّب انتفاء السيناريو الأوّل وهو أمر مستبعدٌ على المدى القصير .

ثالثاً: سيناريو الفوضى والمجهول

يقوم هذا السيناريو على ركيزة أساسية تتمثّل في عدم قدرة أيّ من الجانبين على تحقيق نتائج خطّه ومساره السّياسي، لذلك قد تتحوّل حالة تغييب الدولة أو " غيابها "  إلى ظهور استقطابات حادّة تلامس أحيانا أبعاداً طائفيّةً خاصّة في ظلّ تنشيط العصبيات الطائفيّة من قبل قنوات ومعطيات إعلاميّة تطرح في الخطاب السياسي على السّاحة، إضافةً إلى حدوث ثغراتٍ في شعارات الحركة الاحتجاجيّة كتلك الشعارات التي تمّت ملاحظتها والتي تنطوي على أبعاد تقسيميّة وطائفيّة مقيتة تسقط الطابع المدني للحركة الاحتجاجيّة . هذا السيناريو يكتسب روافدَ عديدة وخاصّةً ظهور بنية إقليميّة أنتجت مواقف متقدّمة تجاه الحركة الاحتجاجيّة التي يغلب عليها لون نسيج مجتمعي معيّن . الأمر الذي يجعل انزلاق الوضع إلى مواجهات أهليّة ممكناً لكنه غير حتمي، خاصّةً وأنه خلال الفترة الماضية لم تحدثْ أيّ احتكاكات واضحة المعالم رغم غياب أجهزة الدولة ووجود مسارٍ تحريضي واضح سواء في الخطاب الإعلامي الخاصّ القريب من السلطة أو من قبل بعض القنوات ذات التوجّه الديني الطائفي .

رابعاً: تغيير النظام

من أكثر المسلّمات الواقعيّة بعد انقضاء ثلاثة أشهر على انطلاق الحركة الاحتجاجيّة التي أفرزت قيادات وتنسيقيات من طراز جديد تكون في عمليّة التغيرات وليس في حلقات الأحزاب التقليدية ومؤسّساتها، أنّ سورية لا يمكن أن تعود إلى ما قبل تاريخ 15 آذار/ مارس 2011، وأنّ التحوّل الديمقراطي أضحى مَطلباً ونتيجة في ذات الوقت، وهو السيناريو الأكثر عقلانيّة على اعتبار أنه يجنّبها مسار الانزلاقات باتجاهات فرعيّة كما سيجنّب مخاطر أيّ تدخّل خارجي تؤيّده قوى دوليّة كبرى . واقع الأمر أنّ الثورات العربية التي كُلّلت بالنجاح لم تصل إلى معطى إسقاط النظام، إنما تمّ إقصاء القوى التي كانت ترفض الإصلاح، وأجبرت الدولة على التمايز ما بين مؤسّساتها ونظام الحكم القائم .

هذا السيناريو له حظوظٌ في سوريا كونه يأتي في مرحلة يفشل النظام في قمْع الانتفاضة والعودة إلى الحالة القديمة القائمة على طاعة مرغمة . وبالتالي فمن مصلحة النظام الانخراط في إنتاج هذا التحوّل من خلال السّماح بحرية التظاهر حتى يتمّ إنتاج القيادات الوطنية الشّبابية التي تتسلّح ببرنامج وطني للمرحلة القادمة .

 ويكون هذا البرنامج محلّ تفاوضٍ عبر مؤتمر حوار وطني علني وواضح يضمّ مختلف القوى السياسية الممثّلة على الأرض في الداخل والخارج . ويكون هدفه السّير بالبلاد إلى مناخ التعدّدية والتداول السّلمي للسلطة، وتعزيز المشاركة السياسيّة وإرساء المناخ الديمقراطي الذي يشكّل حاضنًا لبروز الاختلافات تحت السّقف الوطني ويمنع الانحرافات . الأمر الذي يبنى عليه القدرة على إنتاج واقع سياسي جديد من خلال هيئة دستورية تكون مهمّتها صياغة دستور جديد على أسس مدنيّة وديمقراطية وتزيل كافة المميزات الدستورية التي أفرزتها المرحلة السابقة وفي مقدّمتها المادّة 8 التي تخوّل حزب البعث العربي الاشتراكي قيادة الدّولة والمجتمع .

6. ملاحظات على هامش الانتفاضة السورية

  1. إنّ تغيير " سلوكيات" النظام هو المضمون الجوهري لإسقاطه، خاصّةً وأنّ الحركة الاحتجاجيّة نشأت بغرض تحقيق غايتها في الدولة المدنيّة الديمقراطية.
     
  2. إنّ النظام بشكلة الحالي غير قادر على الاستمرار، حتى لو تمكّن من قمع الحركة الاحتجاجيّة، كونه سيواجه عوائق استمراره خاصةً فيما يتعلّق بالشرعيّة الشعبية في واقع عربي تستحيل معه أدوات القمع .
     
  3. إنّ على النظام الاختيار بين تغيير نفسه وإنتاج التحوّلات الديمقراطية المطلوبة، أو أن يقود البلاد إلى مسار من الفوضى ستشكّل الخطر الأكبر عليه كونه سيفتقد التحكّم نتيجة الاهتزازات الكبيرة التي تعرّض لها، ورغم أنّ هذه المرحلة ستُحاط بجملة مخاطر " أهلية" ذات بعد تقسيمي، إلاّ أنّ المجتمع السوري بما يكتنز من قيم مدنيّة سيكون قادراً على تخفيف تداعيات هذا البعد على المدى المتوسّط .
      
  4. تعرّضت سورية في تاريخها الحديث لاختبارات عديدة فيما يتعلّق بتكاملها الوطني، ترافقت هذه الاختبارات مع تدخّل أجنبي وبُعدٍ تحريضي داخلي على غرار ما يحصل اليوم . لكنها استطاعت دائماً إعادة تعريف هويّتها الوطنيّة على أساس جامع يثري التنوّعات ويحفظها وينيط بها دورًا فاعلاً في إغناء الهويّة الوطنية .
     
  5. إنّ وجود الاستقطابات الفرعيّة في تفاصيل المشهد الاحتجاجي السوري هو نتيجة طبيعيّة يُمْليها غيابُ الأسس المدنيّة الحاكمة والناظمة لسورية خلال عقودٍ عديدة، وبالتالي فإنّ ظهورها في المشهد الحالي قد لا يكون ذا بعدٍ سلبي فقط بل يحمل في طيّاته أبعادًا إيجابيّة كبرى تتجلّى في أنّ " وجود" الإشكالية ومعايشتها بشكل يومي أحد أبرز العوامل التي تدفع إلى إنتاج الظّروف لمقاربتها بطريقة مختلفة عن توجّهات النظام الذي عمل على فرض "الوحدة الوطنية" شكلياً، وتجنّب بناء هويّة وطنيّة جامعة ذات بعدٍ حضاري .
     
  6. إنّ بروز الاستقطابات الحاليّة يمكن أن يردّ إلى ظاهرة غياب أقطاب المعارضة الوطنية الموجودة في الداخل، باستثناءات محدودة وعدم انخراطها في المظاهرات رغم تبنّيها مطالب المتظاهرين. إضافةً إلى أنّ افتقاد التراث الاحتجاجي المدني خلال العقود الماضية قد يجعل بعض هذه الانحرافات تعبّر عن نفسها .
     
  7. إنّ هذه الانحرافات غير مؤهّلة للاستمرار وهي آنية نتيجة افتقاد القيادة، وقد لوحظ خلال يوميّات المشهد الاحتجاجي زوالها، عندما تمّ تسليطُ الضّوء عليها، كما ساهمت بعضُ قيادات المعارضة في الداخل في إزالتها عند قيادتها للتظاهرات والاعتصامات، كما فعل رئيس حزب الشعب الديمقراطي جورج صبرا خلال مشاركته الدائمة في مظاهرات قطنا في ريف دمشق والمدن والقرى المجاورة واعتصاماتها.
     
  8. إنّ تغيير النظام يتطلّب في هذه المرحلة خطاباً مدنياً معتدلاً محفّزاً لانخراط مختلف الشّرائح والطوائف، يمكن لهذا الخطاب أن يبدّد الهواجس والخوف على المستقبل، ويسمح بطرح مصطلحات مدنيّة يشكّل عامل تكرارها الجامعي قوّةً لإرسائها في المستقبل .
     
  9. إنّ تغيير النظام يجب أن يترافق مع إنتاج برنامج وطني بديل، يجيب عن جميع أسئلة الفراغ الدستوري والسّياسي والاقتصادي والاجتماعي في حال حصل التغيير.
     
  10. إنّ تغيير النظام هو نتيجة حتميّة، لأنّ سورية هي جزءٌ من الواقع العربي الذي تبلور فيه الشّعوب خياراتها، وعلى الأنظمة الاستجابة لطموحات الشّعب، أو الاحتراب معها في محاولة لتأخير تغييرها الحتمي.

التعليقات