كورونا: حصيلة الديون العظيمة

لتجاوز هذا الوضع الراهن المعطل، ينبغي لنا أن نسعى إلى إيجاد أشكال من إعادة هيكلة الديون والإعفاء تعزل الأنظمة الفاسدة

كورونا: حصيلة الديون العظيمة

الأمن المالي بات أولوية (توضيحية - أ ب)

في ظلّ ديون تتجاوز قيمتها 7.5 تريليون دولار أميركي مُستَحَقّة لدائنين خارجيين، أصبحت تكاليف خدمة الديون في الاقتصادات الناشئة مُـرهِـقة على نحو متزايد في وقت تحتاج فيه هذه الاقتصادات إلى أكبر حيز مالي ممكن لاحتواء أزمة مرض فيروس كورونا المستجد 2019 (كوفيد- 19). وعلى الرغم من الحجة القوية لصالح إلغاء قسم كبير من هذه الديون، يعارض كثيرون من "اللاعبين" الرئيسيين القيام بذلك، بحجة أنه من شأنه أن يحد من قدرة هذه البلدان على الوصول إلى الأسواق الدولية في المستقبل، فيقلل بالتالي من حجم الاستثمار والنمو.

الواقع أن الدليل على هذا الرأي ضعيف بعض الشيء، فبعيدا عن تعزيز الاستثمار والنمو على نحو يمكن التعويل عليه، سوف تسهم التدفقات المالية الدولية على الأرجح في استحثاث التقلبات في الأسواق الناشئة

الكاتب، أوغلو

والاقتصادات النامية. وحتى على الرغم من ذلك، افترضت الأوساط الأكاديمية ودوائر السياسة لفترة طويلة أن التمويل الدولي يساعد الاقتصادات الناشئة في بناء مؤسسات أكثر فاعلية، ما يمكنها من تطوير أنظمتها المصرفية وأسواق البورصة، على سبيل المثال، كما زعم معارضو الإعفاء من الديون أن الأسواق الناشئة تحتاج إلى "الانضباط" الذي توفره أسواق السندات الدولية، لأن التهديد المتمثل في هروب رؤوس الأموال يقيّد سوء الحكم من قِـبَـل الحكام المستبدين والشعبويين.

على هذا فقد أُثـني اليونانيون أثناء أزمة الديون الأوروبية عن التخلف عن سداد ديونهم للبنوك الأجنبية، خشية أن يدمر ذلك ملفهم الائتماني. وحتى بعد أن رفض الناخبون اليونانيون الشروط التي فرضتها ترويكا الدائنين الرسميين (المفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي)، اضطرت الحكومة اليسارية في اليونان في نهاية الطاف إلى إبرام صفقة، الأمر الذي دفع العديد من صناع السياسات إلى استنتاج مفاده أن انضباط السوق أدى وظيفته بنجاح.

لكن هذا السرد لم يعد ينمّ عن الحقيقة. فبعيدا عن ضبط سلوكيات الحكام المستبدين، كان التمويل الدولي يسهل مهمتهم. على سبيل المثال، في جنوب أفريقيا في الفترة الممتدة بين عامَي 2009 و2018، استمر تدفق الأموال الأجنبية إلى الداخل حتى بعد أن بات من الواضح أن حكومة الرئيس، جاكوب زوما، الفاسدة آنذاك، كانت تستنزف اقتصاد البلاد ومؤسساتها. وعندما طُـرِدَ زوما أخيرا من السلطة، كان ذلك لأن حزبه، المؤتمر الوطني الأفريقي، اتخذ خطوات لإقالته. ولم يكن للأسواق الدولية علاقة تُـذكَـر بتلك الواقعة.

بالمثل، على الرغم من أن هجمات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان ضد مؤسسات بلاده تزامنت مع تدهور الاستثمار ونمو الإنتاجية، فقد أنقذه المستثمرون الأجانب، فمع استمرار الأموال في التدفق إلى الداخل لتمويل عجز الحساب الجاري المتنامي ودعم الاقتصاد المتعثر، تمكن إردوغان من توطيد حكمه، حتى أنه أسس نظاما رئاسيا يُـخـضِع البرلمان والمحاكم له شخصيا. وكما كانت الحال مع زوما، لا يأتي أعظم قدر من المقاومة في مواجهة إردوغان من الأسواق المالية، بل من السياسة المحلية، ففي الانتخابات البلدية التي جرت في العام الماضي، هُـزِم حزبه في أغلب المدن الرئيسية في تركيا، مما جعل قبضته على السلطة أضعف إلى حد كبير.

إلى جانب هذه الأمثلة، هناك أيضا أدلة متزايدة تشير إلى أن التمويل الدولي عمل صراحةً على تسهيل الفساد والأنشطة الإجرامية في الأسواق الناشئة، كما حدث في حالة تورط بنك "غولدمان ساكس" المزعوم في فضيحة احتيال 1MDB في ماليزيا التي شملت 700 مليون دولار أميركي. لا ينبغي لأي من هذه الحالات أن تأتي كمفاجأة. فما الذي قد يمنع المؤسسات المالية الدولية من اغتنام الفرص للإقراض بشروط جذابة لحكام مستبدين، أو زيادة أرباحها من خلال مساعدة حكام فاسدين وشركات محتالة على تضبيط الدفاتر واستغلال الملاذت الضريبية؟

لتجاوز هذا الوضع الراهن المعطل، ينبغي لنا أن نسعى إلى إيجاد أشكال من إعادة هيكلة الديون والإعفاء تعزل الأنظمة الفاسدة. تتمثل إحدى الأفكار في إنشاء هيئة دولية محايدة لوضع قواعد ممارسات الإقراض العادلة من قـبَـل البنوك الدولية، وتستطيع المؤسسة ذاتها عندئذ أن تحدد ما إذا كانت ديون الدولة الحالية تراكمت في ظل حكومات ديمقراطية، وما إذا كانت هذه الديون إرثا لانغماس لصوصي واحتيالي في الاقتراض، وما إذا كان سدادها أو خدمتها من شأنه أن يفرض معاناة لا داعي لها على السكان.

أما البلدان التي اقترضت في ظل حكومات ديمقراطية، فيمكن إعادة هيكلة ديونها الخارجية بشروط سخية، كما يمكن تقديم خيارات مماثلة لأصحاب الديون الطويلة الأجل وأولئك الذين قاموا بإجراء استثمارات مباشرة أجنبية في العالم الناشئ (لأن أشكال الإقراض هذه من غير المحتمل بذات القدر أن تنتهي إلى جيوب حكام مستبدين). بالنسبة للبلدان في المجموع الثانية، يجب شطب "الديون البغيضة" التي تراكمت في ظل حكومات استبدادية أو فاسدة سابقة. فلا ينبغي للمواطنين العاديين أن يتحملوا عواقب صفقات أُبرمت بين مؤسسات مالية وساسة لم ينتخبوهم. ولا ينبغي للمستثمرين الذين أبرموا صفقات مشبوهة مع حكام مستبدين أن يستفيدوا من الحماية الدولية.

أما عن المجموعة الثالثة؛ الحكومات التي تواجه تكاليف سداد أو خدمة ديون لا تطيقها اجتماعيا، فالحجة واضحة لصالح عدم إجبار هذه البلدان على الانزلاق إلى مستنقع أعمق من الفقر، حتى لو كانت تكبدت ديونها في ظل حكومات منتخبة ديمقراطيا. الواقع أن الافتراض بأن جولة ضخمة من إعادة هيكلة الديون والإعفاء منها قد يعني نهاية تدفق رؤوس الأموال الوفيرة إلى الأسواق الناشئة لا يقوم على أساس سليم. فحتى لو رفضت هذه البلدان إعادة الهيكلة أو الإعفاء، فإن أعباء الديون المتراكمة عليها من شأنها أن تمنع المزيد من الاستثمار في البنية الأساسية، وتخفيف حدة الفقر، والتكنولوجيات الجديدة.

على ذات القدر من الأهمية، فإن إلغاء "الديون البغيضة" كفيل بتحسين الحوافز التي تحكم عمل الأسواق المالية الدولية، لأن المقرضين سيكون لزاما عليهم أن يفكروا مرتين قبل أن يدعموا أنظمة استبدادية وفاسدة. وهذا التغيير من شأنه أن يوفر قوة دافعة لتصميم إطار جديد للتكامل المالي العالمي.

لن ينجح هذا النهج إلا إذا لم يتحول إلى إدانة شاملة للتمويل الدولي، فلا تزال العديد من البلدان النامية في احتياج إلى الموارد للاستثمار وتشييد البنية الأساسية، ولا يزال هناك وفرة من التدفقات المالية الدولية المسؤولة المنظمة التي يمكنها الاستفادة منها. لا يجوز لنا أن خلق وضعا حيث تُـتـرَك الأسواق الناشئة والبلدان النامية دون أي قدرة على الوصول إلى التمويل على الإطلاق.

لتحقيق هذه الغاية، يجب أن تُـصـاغ عمليات إعادة الهيكلة وإلغاء الديون بشكل واضح كإجراء ضروري وقادر على التمييز بين المؤسسات التي تصرفت على النحو اللائق وتلك التي دخلت في صفقات مع حكومات فاسدة وسلطوية. ونحن في احتياج إلى هيئة دولية جديدة ليس فقط للإشراف على قواعد الارتباطات المالية المستقبلية ومراقبة ورصد المخالفات المالية، بل لدعم إطار عالمي جديد من القواعد والمعايير أيضا. هذا فقط من شأنه أن يضمن شرعية النظام في أعين البلدان النامية والمؤسسات المالية الدولية على حد سواء.


* أستاذ علوم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والمؤلف المشارك مع جيمس روبنسون، في كتاب "الممر الضيق: الدول، والمجتمعات، ومصير الحرية".

يُنشر هذا المقال في موقع "عرب ٤٨" في إطار التعاون مع "بروجيكت سينديكيت".

ترجمة: مايسة كامل

اقرأ/ي أيضًا | مدن ما بعد الوباء

التعليقات