31/10/2010 - 11:02

"يعقوبيان" في الرواية الإسرائيلية/ أحمد أبو حسين

-

لا نتناول هنا عملاً أدبياً يتعلق "بعمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني الرواية التي "كسرّت الدنيا"، كما يحب أهل مصر وصف الأعمال الناجحة من باب المبالغة العربية، ولا نخوض فيها حنيناً لمجتمع عصري ومدني "وسط البلد" أيام زمان، ولا تتناول سلوكيات شخوص سكان عمارة من أمثال الدسوقي وطه الشاذلي وبثينة السيد وحالات الفساد والرشوة والشذوذ. إنما نتناول هنا رواية إسرائيلية لها حبكتها المخابراتية الخاصة كما رواها يوسي ميلمان أحد المختصين في شؤون الجاسوسية الإسرائيلية عن قبورق يعقوبيان المصري الأرمني الذي زرعته المخابرات المصرية في إسرائيل.

لا نعرف عن قبورق يعقوبيان شيئاً سوى أنه عاد إلى مصر يوم 29 مارس 1966 بموجب اتفاقية تبادل أسرى أشرفت عليها الأمم المتحدة في حينه. ولا نعرف أيضاً عن أية علاقة بينه وبين العمارة وصاحبها، فالرواية الإسرائيلية تقول أن قبورق يعقوبيان إبن لعائلة فقيرة، وصاحب العمارة في رواية صديقنا علاء الأسواني مليونير أرمني بناها في ثلاثينيات القرن الماضي، وعاش فيما بعد خارج مصر، وكنت قد سألت الدكتور علاء الأسواني إذا كان قد سمع عن قبورق يعقوبيان خاصة انه جمع المعلومات عن عائلة صاحب العمارة وعاش وعمل في "وسط البلد". أجاب أنه لم يسمع عنه من قبل.

لا نبغي هنا تصديق الرواية الإسرائيلية عن يعقوبيان، إنما نكتفي بنقلها وتكذيبها طالما أن المخابرات المصرية لم تكشف حتى الآن عن شخصية الرجل، وفي الوقت نفسه لا بد أن نشير إلى أن انتشار كتب الجاسوسية و"بطولات" المخابرات "الشاباك" و"الموساد"، أصبح واسعاً في السنوات الأخيرة مع تعميق النزعة والهاجس الأمنيين، فالمكتبة الإسرائيلية غنية بهذه الموضوعات حتى أن رؤساء الشاباك والموساد رووا تجاربهم في كتب تتميز أغلبيتها بـ"فن الكذب" والمبالغة.

يروي ميلمان بالمشاركة مع ايتان هابر الصحفي في "يديعوت احرونوت" ومستشار رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق في كتابهما "الجواسيس" والصادر عن يديعوت احرونوت في العام 2003، حكاية يعقوبيان كما حصلا عليها من ملفات المخابرات الإسرائيلية وقد خصصا لها فصلاً كاملاً ، تقول الرواية الإسرائيلية عن يعقوبيان...

ولد قبورق يعقوبيان في العام 1938 لعائلة أرمنية عاشت في القاهرة وسط البلد، ولم يكن ناجحا في دروسه. أكمل دراسته الثانوية وتوفي والده وهو في العشرين من عمره. تحمّل متاعب الحياة، وعمل في التصوير من الصباح حتى المساء، لكن أجرته كانت بالكاد تكفيه هو وأمه الأرملة، الأمر الذي جعله يستعمل أساليب النصب والاحتيال لكسب المال، وفي النهاية ألقي به في السجن. وحكمت علية المحكمة بالسجن لمدة ثلاثة شهور.

وخلال فتره مكوثه في السجن في ديسمبر العام 1959، وبعد أن قضى شهراً في السجن جندته المخابرات المصرية مقابل شطب إدانته، لم تحك له المخابرات المصرية في حينه عن مهماته المستقبلية .. وافق يعقوبيان فوراً وبدون شروط.

إعتبرت المخابرات المصرية يعقوبيان شخصية ملائمة للتجسس في إسرائيل، كانت له قدرة فائقة وموهبة غير عادية في تعلم اللغات، تكلم الانكليزية والفرنسية والعربية والاسبانية والتركية، كان يعقوبيان قصير القامة طوله 165 سم، شعره وعينيه بلون بني فاتح، ووجهه واسع.

تدرب يعقوبيان سنة كاملة لانجاز مهمته، حيث تعلم أسس العمل السري، إستعمال الرسائل الخفية، تصغير الصور والاختفاء من الملاحقة وغيرها من دروس الجاسوسية. كانت المهمة صعبة أهمها تقمصه لهوية أخرى معقدة. تقمص شخصية يهودي مصري لدرجة انه أجريت له "عملية طهور" . واضطر يعقوبيان أن يذهب إلى الكنيسة اليهودية الكبرى في القاهرة، ليتعلم العادات والتقاليد والصلاة. تعلم العبرية وقرأ الصحف الإسرائيلية.

ويصبح يعقوبيان حسب خطة المخابرات المصرية إبن عائلة يهودية جاءت من تركيا إلى اليونان ومن ثم إلى مصر. وفي الشهادات التي استصدرت له كتب أنه من مواليد سالونيكي في اليونان في العام 1935 وأن إسمه هو اسحاق كوتشوك. ترك والده البيت إلى مكان مجهول وسافرت الأم إلى مصر وماتت هناك ليبقى كوتشوك وحيداً. واعطيت ليعقوبيان صورة لقبر أمه في إحدى المقابر اليهودية في القاهرة، وهذا الأسلوب معروف في عالم الجاسوسية للتغطية على الوكلاء. "يخفون" أو "يقتلون" أقارب الجاسوس كي تضيع المستمسكات.

واستصدر كوتشوك شهادات من لجنة الجالية اليهودية والحاخامات في القاهرة، كلها زيفتها المخابرات المصرية بأسلوب تقني عال.

في ربيع 1961 هاجر كوتشوك-يعقوبيان إلى البرازيل بعد أن انتظر طويلاً. ليصل إلى جينوا عن طريق الإسكندرية ومن هناك أبحر بسفينة "كوسان روكي" الاسبانية إلى البرازيل. وفي السفينة التقى شابا إسرائيليا يدعى ايلي ارغمان من مستوطنة في النقب. كان ارغمان يصطحب زوجته وابنتيه في زيارة عائلية للبرازيل.

قدم كوتشوك نفسه لارغمان كيهودي من مواليد تركيا، يتيم بعد أن رحلت أمه من الدنيا، قرر الرحيل ليبني مستقبلاً في إحدى دول أمريكا اللاتينية، بعد أن وصل إلى قناعات انه لا يوجد مستقبل لليهود في مصر. تصاحب كوتشوك وارغمان وقضيا وقتاً جميلاً على متن السفينة. وخلال اللقاءات بينهما أخرج كوتشوك –يعقوبيان صورة قبر أمه وكشفها لارغمان، فتعاطف الاخير معه، ولم يكشف كوتشوك لصديقه الجديد عن نواياه السفر لاسرائيل. إذ انتظر الإقتراح من ارغمان وهذا ما حصل فعلاً، فقد قال له هذه فرصة أن تعود إلى "أرض الآباء" في الذكرى الـ13 لاستقلال إسرائيل.

يقول ارغمان : كان جاكي كوتشوك مؤدباً معي إلى أقصى الحدود، وساعدني بحمل حقائبي وكان كريماً وعنيداً وأبى في كل مرة نسهر فيها إلا أن يدفع الحساب.

هناك في البرازيل واصل الحياة في أوساط الجالية اليهودية وتعرف أكثر على ارغمان وعندما غادر ارغمان ريو دي جينيرو "عائدا" إلى إسرائيل، جاء جاكي ليودعه. بعدها التقى يعقوبيان بسالم عزيز السعيد ممثل الغرفة التجارية في مصر والذي كان بالفعل ممثلاً لإدارة المخابرات المصرية، وبناء على تعليماته غيّر يعقوبيان عنوانه إلى سان باولو وحصل على بطاقة هوية برازيلية. وكتب في بطاقة الهوية أن ديانته يهودية، وعاد بعدها إلى ريو ليعمل في ستوديو للتصوير.

أواخر العام 1961 تقدم جاكي كوتشوك بطلب إلى مكاتب الوكالة اليهودية للهجرة إلى إسرائيل. لم يمض وقت طويل ووافقت الوكالة على طلبه. حزم يعقوبيان أمتعته متوجها إلى جينوا في ايطاليا ليلتقي مرة أخرى سالم عزيز السعيد الذي وصل خصيصا من القاهرة. وكانت تنص التعليمات على أن يعمل يعقوبيان بالتدريج وببطء كي يتجند في الجيش الإسرائيلي.

أواسط ديسمبر 1961 أبحرت السفينة التي يسافر بها اسحاق او جاكي كوتشوك من جينوا لتصل يوم 20 ديسمبر إلى ميناء حيفا، كان عمره آنذاك 27 عاما بناء على المستندات المزيفة. ومن حيفا إتصل جاكي بصديقه ارغمان الذي يسكن في كيبوتس في النقب، إستضاف ارغمان صديقه واقترح عليه دورة تقوية باللغة العبرية في كيبوتس مجاور. هناك تعلم العبرية لكنه سرعان ما قرر أن يتركه لأنه أراد أن يسكن لوحده. إضطر كوتشوك إلى مغادرة الكيبوبتس وبعد أن تدخل صديقه ارغمان وتحدث مع الوكالة اليهودية بدأ يتعلم العبرية في معهد في كيبوتس "نغبا"، وهناك ساور سكرتير الكيبوتس الشك في أن يعقوبيان كان يعرف العبرية قبل مجيئه إليه، لم يهتم أبداً، كانت الكاميرا الفريدة التي يحملها وبنات الكيبوتس شغله الشاغل. هناك وقعت فتاه في حبه و كان عمرها 17 عاما، قتل الجيش المصري والدها في العام 1948. فكّر يعقوبيان أن يتزوجها لكن أهلها لم يوافقوا.

بعد أن أنهى تعليمه توجه يعقوبيان بطلب مساعدة مادية من الوكالة اليهودية للسكن. حصل على قرض قيمته 30 ليرة إسرائيلية، ووجهته لشركة عميدار واستأجر بيتا جديداً مع مهاجر يهودي من المغرب يدعى البرت عمونائيل في عسقلان التي تبعد فقط سبع كيلومترات عن قطاع غزة.

يقول عمونائيل : "كان جاكي صديقاً وفياً وأخلاقياً، حدثني عن معاناته الطفولية، واقترح علي أن أتقدم لدورة الضباط في الجيش".

في نوفمبر العام 1962 تجند جاكي يعقوبيان في صفوف الجيش الإسرائيلي. هناك أرسل إلى سلك النقل، فخاب ظنه، إذ أراد أن ينضم إلى سلاح أكثر أهمية وإفادة لمهمته. تعلم السياقة وأصبح سائقاً شخصياً لضابط كبير برتبة جنرال في قيادة الجيش يدعى شمعيا بكنشتين. كان ينقله من حي افيكا شمال تل ابيب إلى يافا . بعد فترة وجيزة وبالتحديد في اكتوبر من العام 1963 ترك الجيش بعد أن اكتشفت المخابرات المصرية أن مهنته كسائق لهذا الجنرال لا تفيد بشئ. فراح يبحث عن عمل جديد كمصور، وهناك في عسقلان –اشكولون عمل في "فوتو موني" الذي كان مالكه من أصول مصرية أيضا. ويقول أهل الحي الذي سكنه كوتشوك : كان يصوّر كل شيء، يستمع للراديو كثيرا. يستمع للمحطات العربية، "ربما كانت هذه إحدى نقاط ضعفه" كما يروي أحد جيرانه.

لم يعرف الجيران أنه كان يستقبل الشيفرة من خلال نشرات "صوت العرب".

في ديسمبر العام 1963 حضرت الشرطة ومعها وحدة مخابرات خاصة برئاسة ابراهام شالوم الذي أصبح فيما بعد رئيسا للشاباك، أجروا تفتيشاً دقيقاً ووجدوا رسائل كتب عليها بالحبر السري وأقلاماً مخابراتية ترسل الشيفرات.

بعد أيام جاءت صديقته من الكيبوتس تزوره في شقته فلم تجده وفوجئت أن "الشاباك" قد اعتقل صديقها. تعاون يعقوبيان مع محققيه وقدم اعترافاته وتحدث عن لقاءاته مع حسن عبد المجيد رئيس أجهزة المخابرات المصرية العامة في غرب أوروبا. تفاجأ المحققون من المهمات الملقاة على عاتق يعقوبيان منها شراء الصحف العبرية وإرسالها إلى صندوق بريد في ايطاليا. وتصوير معسكرات للجيش.

راهنت المخابرات المصرية على يعقوبيان أن يتقدم في حياته الإجتماعية في إسرائيل كي يستطيع أن يصل إلى المعلومات المطلوبة، إلا أنه خيّب ظنهم كما تقول الرواية الاسرائيلية.

في اوائل العام 1964 حكمت المحكمة المركزية في القدس الغربية بالسجن 18 عاماً على قبورق يعقوبيان. وفي اكتوبر من العام 1965 استأنف للمحكمة العليا وردّت استئنافه.

بقي يعقوبيان في السجن حتى اوائل 1966 وعاد إلى مصر بموجب اتفاقية تبادل أسرى مع إسرائيليين اعتقلتهم مصر بعد أن اجتازوا الحدود.

بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد حاول بعض الصحفيين الإسرائيليين الوصول إلى يعقوبيان ليكشفوا حكايته كما يرويها هو، إلا أن المخابرات المصرية "أخفته" عن عيونهم.

هذه رواية "يعقوبيان" كما جاءت في "أدبيات" المخابرات الإسرائيلية وإن كانت تختلف كلياً عن الرواية الجميلة التي كتبها علاء الأسواني عن "عمارة يعقوبيان". ومن اللافت أن صحيفة "هآرتس" قد تطرقت قبل عدة شهور في مقالة نقدية مطوّلة لرواية عربية جديدة إسمها "عمارة يعقوبيان " تكسّر الدنيا في أم الدنيا.

ربما سيجد الإسرائيليون ضرورة لترجمة "عمارة يعقوبيان" مثلما ترجموا في السابق روايات نجيب محفوظ وغيرها من الكتب التي ترصد الحراك الإجتماعي في الشارع المصري، لكن يعقوبيان (الجاسوس المصري في إسرائيل) يظل عالقاً في ذهن إسرائيل المتباهية ببطولات مخابراتها وحبكات رواياتها!!



التعليقات