كتاب إسرائيلي جديد يؤكد دفع رشاوى لمندوبي الأمم المتحدة للتصويت على قرار التقسيم

المؤرخ موريس يدعي أن ما يسميه "حرب الاستقلال" هي "حرب وجود ودفاع عادلة"، وأنها بالنسبة للعرب لم تكن صراعا على الأرض وإنما جولة جهاد أولى، ويشكك في حقيقة وجود شعب فلسطيني..

كتاب إسرائيلي جديد يؤكد دفع رشاوى لمندوبي الأمم المتحدة للتصويت على قرار التقسيم
يختلف بيني موريس عن غيره من مجموعة "المؤرخين الجدد" الإسرائيليين ليس فقط في تمسكه الثابت بالصهيونية فكرا وممارسة، وإنما أيضا في كتاباته التاريخية وآرائه السياسية التي تبزّ من حيث عدائها للفلسطينيين وللعرب وللمسلمين أشد المؤرخين الصهيونيين التقليديين تطرفا.

يطرح اليمين واليمين الصهيوني المتطرف منذ فترة، أن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والعربي - الإسرائيلي ليس صراعا سياسيا على الأرض؛ وإنما هو صراع ديني بين عالم إسلامي ظلامي وبين إسرائيل المتنورة التي تقف في طليعة العالم الحر المتنور في الصراع ضد الفلسطينيين والعرب الذين يخوضون حربا دينية ضد إسرائيل.

ويطرح هؤلاء أن لا حل لهذا الصراع سوى إلحاق الهزيمة بالفلسطينيين والعرب، وأن أي انسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة لا يقدم السلام قيد أنملة، وفقط بعد هزيمة الفلسطينيين والعرب الذين يخوضون حربا دينية إسلامية ظلامية ضد إسرائيل المتنورة، وفقط بعد أن لا يبقي في قلوبهم أي بصيص من الأمل في إمكانية هزيمة إسرائيل، فإنهم سيقبلون بوجود إسرائيل وسيكفون عن المطالبة بانسحابها من المناطق الفلسطينية والعربية المحتلة.

في هذا السياق صدر مؤخرا كتاب بيني موريس والذي يسعى فيه إلى إعادة كتابة تاريخ حرب 1948 من هذا المنظور



ففي مقابلة مع المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، أجرتها معه "يديعوت أحرونوت"، يكشف من خلال بحث، وصف بأنه واسع النطاق، عن وثائق نشرت في كتاب جديد "1948 – تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى"، تؤكد أن مندوبين في الأمم المتحدة حصلوا على رشاوى من أجل التصويت إلى جانب قرار التقسيم في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1947.

ويدعي موريس أن الحرب في عام النكبة (1948) لم تكن صراعا على الأرض، وإنما تدخل في إطار "الجهاد الأول"، وهي حرب لا تزال مستمرة حتى اليوم، وأنه من غير المؤكد أن إسرائيل ستنتصر فيها. بحسب موريس.

وبالعودة إلى الأجواء التي سبقت التصويت على قرار تقسيم فلسطين التاريخية، فإن توترا انتاب قادة الحركة الصهيونية، من جهة أن التصويت إلى جانب القرار يعني قيام "دولة إسرائيل"، وأن عدم التصويت سيشكل ضربة قاصمة للصهيونية، الأمر الذي دفع قادة الحركة الصهيونية إلى "عدّ الرؤوس"، وتبين أن نتائج التصويت لن تكون جيدة.

"في هذه النقطة قرر أحدهم أن الدبلوماسية النظيفة لا تكفي، ولأن الغاية تبرر الوسيلة، يجب الانتقال إلى وسائل ظلامية، بما في ذلك الرشوة وممارسة الضغوط". ويكتب موريس في هذا السياق أن "الاعتبارات المالية كان لها تأثير على تصويت مندوبي دول أمريكا الجنوبية.. بعثة من جنوب أمريكا حصلت على 75 ألف دولار مقابل التصويت على قرار التصويت.. كوستاريكا صوتت إلى جانب القرار رغم أنها لم تأخذ مبلغ 45 ألف دولار عرض عليها.. مندوب غواتيمالا أبدى حماسا زائدا في تأييده للصهيونية ووثائق بريطانية تؤكد أنه تلقى أموالا من منظمات يهودية أمريكية كما تشير تقارير لدبلوماسيين أمريكيين أنه كان على علاقة بفتاة يهودية.. ومن الممكن أن تكون هناك حالات أخرى ولكن لا يوجد وثائق تؤكد ذلك".

ورغم أن موريس لا يعتبر الوثيقة جيدة، إلا أن رسائل ومذكرات موظفين ومسؤولين بريطانيين تشير إلى وجود هذه القضايا بشأن عدد من الدول في أمريكا الجنوبية، والتي تم إقناع مندوبيها بواسطة الأموال بالتصويت إلى جانب قرار التقسيم.

كما يشير إلى حالات ابتزاز، حيث قامت جهات صهيونية بممارسة الضغوط وتهديد مندوب ليبيريا بعدم شراء المطاط. وتمت أيضا ممارسة ضغوط اقتصادية شديدة على عدد من الدول، وخاصة تلك التي رفضت أن تأخذ رشاوى مثل كوستاريكا، وصوتت في نهاية المطاف مع التقسيم. ويشير في هذا السياق إلى عدد من رجال الأعمال الصهاينة، مثل صامويل زموراي رئيس "شركة الفواكه الموحدة" وهي نقابة أمريكية كبيرة ذات نفوذ واسع وخاصة في دول الكاريبي.

وتلفت الصحيفة إلى أن هذه الحقائق لم تكن مفاجئة نظرا لوجود ما يشير إلى ذلك. كما سبق وأن أتى المؤرخ ميخائيل كوهين على ذكر ذلك، وأيضا كتب توم سيغيف عن ذلك من خلال ما كتبه عن تخصيص ميزانية مليون دولار لـ"عمليات خاصة".

تجدر الإشارة إلى أن موريس نفسه يعتبر هذه الوسائل "مشروعة"، انطلاقا من أن "قيام دولة إسرائيل كان على جدول الأعمال والغاية تبرر الوسيلة"، إضافة إلى ادعائه بأن الرشوة أفضل من الحرب العالمية الثالثة التي هدد بها العرب في حال قيام الدولة، بحسبه.

وفي كتابه الجديد يحاول موريس أن يجعل الصراع العربي – الإسرائيلي صراعا دينيا. حيث يدعي أن ما اعتبر حتى الآن أنه صراع جغرافي بين مجموعتين قوميتين، صراع سياسي ذو طابع عسكري، يجب أن ينظر إليه على أنه حرب جهاد".

ويجيب موريس في المقابلة أن الحرب (عام 1948) كانت ذات طابع ديني، بالنسبة للعرب على الأقل، وأن العنصر المركزي فيها هو دافع الجهاد، إلى جانب دوافع أخرى سياسية وغيرها. وبحسبه فإن الأهم بالنسبة للعرب هو "عنصر الكفار الذين سيطروا على أرض إسلامية مقدسة، ويجب اقتلاعهم منها. وأن الغالبية الساحقة في العالم العربي رأوا في الحرب حربا مقدسة أولا".

ويستند موريس في ادعائه هذا إلى وثيقة بريطانية بشأن فتوى لعلماء الأزهر، والتي تتضمن، بحسبه، الدعوة إلى الجهاد العالمي، موجهة لكل مسلم، بالتجند إلى الحرب المقدسة، وإعادة فلسطين إلى حضن الإسلام وإبادة الصهيونية.

ويقول موريس أيضا، إنه يجد صعوبة في عدم انتباه المؤرخين لذلك. وفي الوقت نفسه يفترض أنه ربما يكون قد أولى هذه الوثيقة أهمية أكبر ما تستحق، خاصة و"أننا نعيش في عصر يوجد فيه الجهاد على الطاولة.. هذا صراع بين عالم ظلامي إٍسلامي وعالم متنور.. وأنا أعتقد أنه في العام 48 كانت جولة الجهاد الأولى في العصر الحديث"، على حد تعبيره.

واستنادا إلى "نظريته" تلك، يصل موريس إلى نتيجة مفادها أن الحديث هو عن "أمور مطلقة، بمعنى أنها لا تحتمل الصلح". ويضيف، على سبيل المثال، أنه لن يكون هناك صلح بين حماس وإسرائيل.. قد تحصل تسويات تكتيكية، ولكنها ليست أساسية.. فهم لن يتقبلوننا، لأن الأرض بالنسبة لهم إٍسلامية، وأن الله أمرهم بتدميرنا، وهذا ما يتوجب عليهم فعله".

ويتابع أنه "في العام 48 كان الفهم الإسرائيلي التلقائي بأن جميع العرب قرويون سذج لا يفقهون شيئا، وهذا غباء.. مثلما حصل في العام 2006 عندما صوتوا لحركة حماس.. عندها قال الإسرائيليون إن السبب يعود إلى قيام حماس بتوزيع الهدايا والحليب مجانا، ولكن هذا خطأ أيضا، فهم يعرفون لمن هم يصوتون، مثلما كان يعرف العرب في العام 48.. الدين بالنسبة لهم مهم جدا، وإبادة الصهيونية مهمة جدا".

وردا على سؤال حول اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن، يجيب بأن هناك "سلاما باردا... العالم العربي لم يتعايش مع هذا السلام، ولا مع وجود إسرائيل، والعنصر الديني في الصراع يتصاعد مع مرور السنوات، وهو قائم أيضا لدى جماهير واسعة من الجانب اليهودي".

ولا يغفل موريس التأكيد على أن ما يسميه بـ"حرب الاستقلال" هي "حرب وجود ودفاع عادلة".

إلى ذلك، يتضمن الكتاب تطرقا إلى ممارسات الجنود الإسرائيليين خلال الحرب، فيشير إلى 12 حالة اغتصاب قام بها جنود إسرائيليون. من بينها قيام 3 جنود باغتصاب فتاة فلسطينية من مدينة عكا، وذلك بعد قتل والدها أمام ناظريها، ثم قاموا بقتلها في نهاية المطاف، وحكم عليهم بالسجن لمدة 3 سنوات فقط. كما تتضمن حالة اغتصاب فتاة من مدينة يافا لم يتجاوز عمرها 12 عاما. في المقابل يشير إلى حالة واحدة جرت فيها محاولة لاغتصاب مجندة إسرائيلية في "الهاجاناه" من قبل من الجيش العربي إلا أن الضابط المسؤول عنهما أطلق عليهما النار، وأنقذ المجندة.

وبحسبه فإن الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون عام 48 تفوق تلك التي ارتكبت في حروبات أخرى. ويقول "كان هناك كثيرون ممن تركوا غرائزهم تتحكم بهم.. بعضهم جاء من معسكرات الإبادة في أوروبا مصابين بعدواها، وسعوا للانتقام من الأغيار.. بعضهم حارب سنة كاملة لأن العرب أجبروهم على القتال.. بعضهم أراد الانتقام لمقتل أصدقاء لهم.. لكل شعب هناك نقاط سوداء في تاريخه، والأعمال الظلامية التي وقعت في هذه الحرب هي نقطة سوداء في تاريخنا يجب استخلاص العبر منها".

وردا على سؤال بشأن تخصيص الكاتب جزء واسع من الكتاب لمجزرة دير ياسين، يقول موريس إنه بالنسبة لليهود فإن أهم ما حصل في دير ياسين هو أنها كانت المسرّع لهروب العرب من البلاد. ويضيف أن العرب تحدثوا عن دير ياسين في البث الإذاعي وجرى تضخيم المجزرة التي وقعت، ما دفع سكان حيفا ويافا إلى الاعتقاد بأن "الإيتسيل" قادمون لارتكاب مجزرة مماثلة. أما بالنسبة للعرب فإن ديرياسين تمثل ما حصل عام 48، وتمثل "الشر اليهودي".

ويضيف أن ديرياسين لم تكن المجزرة الوحيدة، حيث وقعت أعمال قتل كثيرة، مثل اللد حيث قتل 250 شخصا غالبيتهم لم يكونوا مقاتلين، وقتلوا أسرى في داخل المسجد. كما وقعت مجزرة أخرى في يافا يكشف عنها الكتاب. وبحسبه فإنه بعد سيطرة "الهاغاناه" على يافا تم العثور على 12 جثة، عثر في ثياب أصحابها على بطاقات هوية شخصية إسرائيلية، الأمر الذي يؤكد أن المجزرة وقعت بعد سيطرة "الهاغاناه" على المدينة وتوزيع البطاقات الزرقاء على ما تبقى من السكان.

وفي إجابته على سؤال الصحيفة عما إذا كان من الممكن إجراء مقارنة بين "طرد وهروب الفلسطينيين من البلاد" وبين "مغادرة اليهود للدول العربية"، يجيب موريس بأنه يفضل أولا استعمال كلمة "هفرحاه" أي "دفع العرب إلى الهرب"، وبحسبه فإن "الهروب" هو الشكل العام، وبعد ذلك جرى تدمير قراهم ولم يسمحوا لهم بالعودة، أما عمليات الطرد الحقيقية فقد حصلت في مواقع معدودة فقط.

ويضيف ثانيا أن الحرب أدت إلى نشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين، وبنفس الدرجة أدت الحرب إلى "دفع اليهود إلى الهرب" من الدول العربية، بعد أن تم نهب ممتلكاتهم. ويدعي في هذا السياق أيضا أن الأرقام كانت مماثلة. ويسوق موريس في هذا السياق قول موشي شاريت، عام 49، بأن ما حصل هو "تبادل سكان". ويعقب موريس بأنه يوجد منطق في ذلك، وأن الاختلاف هو أن "اللاجئين اليهود" تم استيعابهم في إسرائيل، في حين أن العرب لم يقوموا باستيعاب "اللاجئين الفلسطينيين" وظلت قضيتهم قائمة.

كما يدعي موريس في كتابه، الذي يتضمن أيضا معطيات حول ميزان القوى وكميات السلاح، أن الإسرائيليين كانوا قلائل بحوزتهم كميات قليلة من السلاح، مقابل جيوش عربية كثيرة ومجهزة بالعتاد والذخيرة. ويتابع أن عدد المقاتلين العرب تناقص تدريجيا خلال الحرب، وبعد الجولة الأولى حاول الأردنيون الخروج من الحرب، وبعد ما حصل في اللد والرملة خرجوا نهائيا، وبعد فترة معينة توقف السوريون عن القتال بسبب نقص السلاح، وبقي المصريون حتى الجولات الأخيرة في كانون الأول/ ديسمبر 1948، على حد قوله.

ويستدرك موريس فيضيف أن الجيوش العربية كانت قليلة العدد نسبيا، بالمقارنة مع نسبة التجنيد من "الييشوف" اليهودي، فيشير إلى تجنيد ما يقارب 100 ألف جندي من بين 650 – 700 ألف يهودي.

وإضافة إلى ذلك، يشكك موريس بمدى صحة حقيقة وجود شعب فلسطيني في العام 1948، بادعاء أن الوعي السياسي القومي كان ضعيفا في وسط الفلسطينيين، وعدم قدرتهم على إقامة جيش قطري بدلا من حالة وجود عدد من المقاتلين في كل مدينة وقرية.

ويختتم الكتاب بقوله: "كان هناك انتصار في العام 48، ولكن ذلك لا يضمن بقاء دولة إسرائيل. فقيام الدولة في العام 48 أثار ردود فعل رافضة في وسط العرب وغريزة شديدة للانتقام. العالم العربي يرفض تقبل وجودنا. وحتى لو تم التوقيع على اتفاقيات سلام، فإن رجل الشارع والمثقف والجندي يرفضون الاعتراف بإسرائيل. وإذا لم يكن هناك حل سلمي بين الشعبين، فإن النهاية ستكون مأساوية لواحد منهما".

ويخلص في نهاية المقابلة إلى القول بأنه من الصعب أن يكون لديه أسباب للتفاؤل بشأن احتمالات إسرائيل، حيث أن العالم العربي، وبمساندة العالم الإسلامي، يزداد قوة ومن الممكن أن يكون لديهم سلاح نووي. كما أنه لا يوجد في الأفق ما يشير إلى احتمال التوصل إلى تسوية في السنوات الخمسين القادمة، وحتى يحصل ذلك يجب إضعاف العالم العربي، الأمر الذي لن يحصل إلا بعد نضوب النفط، والذي لن يكون قبل 50 -100 عام.

ويقول الكاتب أنطوان شلحت إن بيني موريس هو من أوائل "المؤرخين الإسرائيليين الجدد" أو "الما بعد صهيونيين"، الذين أخذوا في أبحاثهم الصادرة منذ ثمانينيات القرن الفائت يلتفتون، من جهة، إلى ما ترتب على المشروع الكولونيالي الصهيوني من آثام وخطايا بحق الشعب العربي الفلسطيني، ومن جهة أخرى يستأنفون على الرواية التاريخية الصهيونية التي اعتمدت على الكذب وقلب الحقائق رأسًا على عقب.

ويمكن القول إن موريس كشف الكثير فيما يتعلق بفظائع الاحتلال وطرد الفلسطينيين في سنة 1948 في كتابه الأهم وهو "ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947- 1949"، ومن ثم في كتابه "تصحيح خطأ". لكن موريس يختلف عن غيره من هؤلاء المؤرخين بحقيقة أن أبحاثه لم تكن من موقع مناهضة الصهيونية وطابعها الكولونيالي واحتلالها فلسطين بل من موقع المتحمس لها ومن منطلق "ضرورة تجميلها"، فضلاً عن أنه ظلّ محتفظًا بمواقف عنصرية إزاء أهل البلد الأصليين، كشف عنها بصورة سافرة بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سنة 2000، ولا سيما في سياق مقابلة مع صحيفة "هآرتس" قال فيها من جملة أشياء أخرى "إن الدولة اليهودية ما كانت لتقوم من دون اقتلاع وطرد الـ 700 ألف فلسطيني.. لذلك، كانت هناك ضرورة لاقتلاعهم من أجل تنظيف العمق وتنظيف المناطق الحدودية".

وأكد أيضا أن "هناك ظروفا في التاريخ تبرّر التطهير العرقي.."، مضيفًا "إن عدم استكمال الترانسفير (على يد دافيد بن- غوريون في سنة 1948) كان خطأ". ولم يكتف موريس بالحديث عن الماضي، بل "تطلع" أيضا إلى المستقبل بقوله: "إذا شارفت إسرائيل على وضع ينشأ فيه تهديد مصيري، كما حدث في سنة 1948، فمن المحتمل أن تضطر إلى العمل كما عملت في ذلك الوقت"!.

ويؤكد المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه، المناهض للصهيونية وصاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين"، والذي يُدرج اسمه سوية مع موريس وغيره في إطار تيار "المؤرخين الجدد"، أن موريس أطلعه، خلال أول لقاء بينهما في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، على وجهات نظره الحقيقية التي وصفها بابه بأنها "وجهات نظر عنصرية بغيضة تجاه العرب عامة وتجاه الفلسطينيين على وجه الخصوص". ولهذا السبب نجد أن بابه يستشيط غضباً إزاء الادعاء القائل إنه وموريس من أنصار اليسار، على الرغم من الاختلاف في المنهج والسياسة. ويتهم بابه موريس بأنه "انتهازي".

من ناحية أخرى، يؤكد كثيرون أن كتاب موريس الأصلي عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المُشار إليه أعلاه "كُتب تمشيًا مع الاتجاه الذي هبت فيه الريح في إبان تلك الفترة، أي تمشيًا مع روح المرحلة، وكانت وجهة نظره وقتئذٍ حول التاريخ بأن التطهير العرقي في فلسطين لم يتم نتيجة لخطة رئيسة". لكن بعد فوز زعيم حزب الليكود اليميني بنيامين نتانياهو في انتخابات سنة 1996، "كان من الصعب الحصول على درجة البروفسورية في جامعة إسرائيلية. من هنا بدأ التحول، حيث وجد- موريس- أنه سيكون من السهل أكثر الحصول على عقد عمل ثابت ودرجة البروفسور إذا ما قام بتهوية وتلميع وجهات نظره التي آمن بها أصلاً". وبناء على ذلك فإنه في الطبعة الجديدة (الإنكليزية) لكتاب موريس هذا تحوّل التطهير العرقي إلى خطة رئيسة، ووجه نقده إليها "لأنها لم تكن ناجعة بدرجة كافية!".

ويقول المؤرخ والأستاذ الجامعي د. مصطفى كبها إنه ليس من جديد في كتاب بيني موريس الجديد سوى سعيه الدؤوب لتبرير ردته وجنوحه نحو الكتابة التاريخية الأيديولوجية بشكل أصبح فيه أكثر محافظة وإيديولوجية من مؤرخي المؤسسة.

ففي منهجية كتابته لم يحد موريس عن آلية تقديس الوثيقة وعدم مقابلتها مع أي مصدر آخر، خاصة المصادر الشفوية التي من شأنها أن تلقي الضوء على ما تم تغييبه من حقائق في الوثائق الإسرائيلية التي اعتمدها موريس أساساً لبحثه. ولعل إحداها قضية الأعداد وحجم القوات التي يتصدى لها موريس ويحاول من خلالها تثبيت أسطورة "القليلون مقابل الكثيرون" أو "مجتمع مدني ناشئ مقابل سبعة جيوش".

تبدو محاولة موريس هذه محاولة بائسة لأن الرواية الرسمية التي صدرت في كتاب ألفه جملة من الضباط السابقين والمؤرخين العسكريين الإسرائيليين، وصدرت عن الجمعية الإسرائيلية للتاريخ العسكري وبمساعدة من قسم الـتأريخ في الجيش الإسرائيلي عام 1999 تنفي ذلك، وتؤكد على التفوق العددي والنوعي للقوات اليهودية في الحرب.

وثمة ملاحظة مهمة تتعلق بحجم هذه القوات قياساً بالقدرات العسكرية العربية في حينه ، فمن الضروري التأكيد بان حجم القوات العربية التي دخلت فلسطين في الخامس عشر من أيار 1948 لم يواز قرابة ال20% من القدرات العربية العسكرية الحقيقية في حينه، فقد كان مجموع ما دخل فلسطين ليلة الخامس عشر من أيار أو تواجد فيها قبل ذلك (قوات المتطوعين ) هو 23000 مقاتل توزعوا على النحو التالي: الجيش المصري 10000 مقاتل (منهم 2000 من المتطوعين )، الجيش الأردني 4500 مقاتل (بعضهم كان قد تواجد في فلسطين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية)، الجيش العراقي 3000 مقاتل (منهم 1500 تواجدوا في فلسطين قبل ذلك وعملوا ضمن وحدات جيش الإنقاذ)، الجيش السوري 3000 مقاتل (منهم 1500 خدموا في وحدات جيش الإنقاذ )، الجيش اللبناني 1000 مقاتل والجيش السعودي 1500 مقاتل (عملوا تحت إمرة القيادة المصرية). علماً بأن هذه القوات غير المتناسقة افتقدت إلى قواعد عمل جدية وإلى آليات إمداد ناجعة وباستثناء الجيش الأردني (وبشكل معين الجيش العراقي) الذي كان حسن التجهيز والتدريب، وذلك لاشتراك بعض وحداته في الحرب العالمية ضمن المجهود الحربي لقوات الحلفاء.

وكانت باقي الجيوش غير مهيأة للقتال الفعلي، ولم تشترك معظم وحداتها بالقتال بشكل فعلي من قبل، هذا فضلاً عن سوء التسليح وفساد الذخيرة (الذي عانى منه الجيش المصري على وجه الخصوص) الشيء الذي جعل النجاح بالمهام العسكرية المناطة بهذه الجيوش أمراً يشابه المستحيل. في الحلقات القادمة سنستعرض ما قامت به هذه الجيوش من مهام عسكرية رغم كل القيود والقسريات التي وضعت فيها.

وفي حديثه مع عــ48ـرب عن حقيقة العثور على 12 جثة في رمال يافا، يؤكد د.كبها أن الكشف ليس جديدا، وإنما الجديد هو توثيقها للمرة الأولى.

وهنا يشير إلى أنه هذه القضية كانت قد أثيرت في وسائل الإعلام في ستينيات القرن الماضي، إلا أنها ما لبثت أن هدأت بسرعة.

وبحسبه فإن الجثث تعود لأشخاص من عرب يافا، تم قتلهم ودفنت جثثهم في الرمال.

التعليقات