الصحافة اليومية المجانية تخلط أوراق الصحافة الإسرائيلية المكتوبة

-

الصحافة اليومية المجانية تخلط أوراق الصحافة الإسرائيلية المكتوبة
جاء في تقرير خاص صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار أعدّه الكاتب أنطوان شلحت، محرر ملحق "المشهد الإسرائيلي"، الذي يصدر عن المركز مرة كل أسبوعين، انه بدأت تصدر في إسرائيل، منذ الثلاثين من شهر تموز/ يوليو 2007، صحيفة يومية مجانية باسم "يسرائيل هيوم" (إسرائيل اليوم)، وذلك على مدار الأيام الممتدة من الأحد إلى الخميس. ويمتلك هذه الصحيفة الملياردير اليهودي الأميركي شيلدون أديلسون، المعروف بصلاته الوثيقة مع رئيس حزب "الليكود"، عضو الكنيست بنيامين نتنياهو.

وقد بدأ أديلسون يعدّ العدّة لإصدار هذه الصحيفة المجانية بعد أن نشب خلاف بينه وبين رجل الأعمال شلومو بن تسفي، بشأن ملكية أول صحيفة يومية مجانية إسرائيلية هي "يسرائيلي" (تعني إسرائيليّ، وهي تصدر تباعًا منذ مطلع العام 2006 عن مجموعة "هيرش ميديا"). وهناك صحيفة مجانية يومية ثالثة بدأت تصدر في إسرائيل هي "مترو يسرائيل"، ويمتلكها إيلي عزور ودودي فايسمان، وذلك منذ شهر آب/ أغسطس الماضي (2007)، متشجعة على ما يبدو من ظهور "يسرائيل هيوم".

وأعلن أصحاب "يسرائيل هيوم" أن الصحيفة لن تصدر، حاليًا على الأقل، في أيام الجمعة، التي تصدر فيها كما هو معروف معظم الصحف الإسرائيلية ضمن طبعات خاصة وموسّعة، لكن ذلك لا يعني أن لا تصدر في أيام الجمعة إطلاقًا، في وقت لاحق.

ويقول التقرير انه يتولى رئاسة تحرير هذه الصحيفة الجديدة- يسرائيل هيوم- الصحافي عاموس ريجف. وتضم هيئة تحريرها، بوجه خاص، الصحافي والمذيع التلفزيوني دان مرغليت، الذي سبق له أن عمل في صحيفة "معاريف" وقبل ذلك في صحيفة "هآرتس". ومباشرة بعد صدورها انضمت الصحيفة إلى "مجلس الصحافة الإسرائيلية"، ما يعني التزامها بـ"الميثاق الأخلاقي" لهذا المجلس، حسبما لفتت مصادر مطلعة.

ولا شك في أن تواتر صدور الصحف المجانية سينعكس عاجلاً أم آجلاً على خريطة الصحافة الإسرائيلية المكتوبة، وبشكل خاص على الصحافة القطرية التي باتت منذ فترة طويلة تنحصر في ثلاث صحف كبرى هي "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" و"هآرتس"، وبالذات على ضوء ما نشر أخيرًا بشأن الأزمة المالية التي تعصف بصحيفة "معاريف" وأدت حتى الآن إلى استقالة رئيس تحريرها، أمنون دانكنر وإلى مواجهة صعوبات جمّة في تعيين مدير عام.

هذا التقرير الخاص الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار يحاول أن يوسع دائرة الضوء بشأن آخر المستجدات التي طرأت على خريطة الصحافة الإسرائيلية المكتوبة، وأن يقف على التغيرات التي يتعرّض لها الإعلام الإسرائيلي على خلفية التطورات الاجتماعية والاقتصادية العامة.

بدأت ثورة الصحف المجانية في إسرائيل قبل أكثر من عام ونصف العام مع صدور صحيفة "يسرائيلي". لكن منذ ذلك الوقت واجهت هذه الصحيفة مصاعب مالية ونشبت خلافات كبيرة بين أديلسون وشريكه. وكانت خاتمة المطاف لهذه الخلافات هو إنشاء أديلسون لصحيفة "يسرائيل هيوم". وقبل ذلك حاول هذا الثريّ أن يشتري صحيفة "معاريف" لكن محاولاته باءت بالفشل. وبحسب تقارير صحافية متطابقة ينوي هذا الملياردير أن يستثمر نحو 180 مليون دولار في هذه الصحيفة المجانية في غضون الأعوام الثلاثة المقبلة. ويدور الحديث، في الآونة الحالية، عن صحيفة يومية تقع في 32- 40 صفحة، وتنصّ الخطة على زيادة عدد الصفحات في المستقبل وربما إصدارها في نهاية الأسبوع (أيام الجمعة).

أما الصحيفة المجانية الثالثة فهي تابعة لرجلي الأعمال إيلي عزور، وهو أحد أصحاب "تشارلتون" و"جيروزاليم بوست" ودودي فايسمان، أحد أصحاب شبكة المحلات التجارية "هريبواع هكاحول" (المربع الأزرق) ومحطات الوقود "دور ألون". وكلاهما يصدر أسبوعية "أناشيم" (أشخاص) ويمتلك قسمًا من أسهم الإذاعة المناطقية "راديو دون توقف" (منطقة تل أبيب)، وتوزع هذه الصحيفة المجانية في المحلات التجارية ومحطات الوقود التابعة لفايسمان وتطبع في مطبعة يمتلكها عزور، الأمر الذي يخفض تكلفتها، علاوة على تخفيض تكلفة التوزيع بسبب انحصاره في الأماكن المحددة أعلاه.

وثمة شائعات قوية بأن في الأفق صحيفة مجانية إسرائيلية رابعة سيشارك في إصدارها رجلا الأعمال الإسرائيليان نوحي دانكنر ونوني موزس (الثاني من عائلة موزس، مالكة صحيفة "يديعوت أحرونوت") وستوزع في شبكة المحلات التجارية "شوبرسال" التي يمتلكها دانكنر.

غير أن من الواضح أن الحيّز الأكبر من الاهتمام بالصحف المجانية وتداعياتها على سوق الصحافة الإسرائيلية المكتوبة تستقطبه أكثر شيء صحيفة "يسرائيل هيوم".

لماذا؟
هناك عدة أسباب تقف خلف ذلك نذكر منها ما يلي:

أولاً: أن شيلدون أديلسون هو ثريّ كبير وهو الأكثر غنًى بلا منازع بين المذكورين من رجال الأعمال. ويكفي أن يستثمر جزءًا من أرباحه حتى يكون في وسعه أن يموّل صحيفة مجانية لفترة غير محدودة دون أدنى حاجة إلى قروض أو إعانات يحتاج إليها غيره. وتبرز في إطار مشاريعه وأعماله المتعددة في العالم شبكة الفنادق التابعة له في جزيرة ماكاو والتي يعمل فيها لوحدها 30 ألف موظف.

ثانيًا: لا تتمثل الغاية الرئيسة لأديلسون في جني الأرباح، وإن كان من الصعب القول إن مثل هذه الغاية ساقطة من حسابه إطلاقًا. في حين أن الغاية الرئيسة للآخرين الذين يتهافتون على إصدار صحف مجانية هي جني الأرباح. ويقول مقربون منه إنه علاوة على غاية التنافس مع شريكه السابق في صحيفة "يسرائيلي"، رجل الأعمال شلومو بن تسفي، والذي تنظر المحاكم الإسرائيلية في دعوى قضائية بعشرات ملايين الشواقل بينهما، فإن أديلسون يرغب في أن يصبح عنصرًا مؤثرًا في سوق الصحافة الإسرائيلية، الأمر الذي يتيح له إمكان مدّ جسور الصلة مع الرأي العام الإسرائيلي، وهو ما سيعود بالنفع على صديقه بنيامين نتنياهو كذلك. ويؤكد هؤلاء المقربون أن أديلسون لديه أجندة سياسية خاصة تتعلق بصورة رئيسة بماهية النظام الديمقراطي وسلطة القانون، ورويدًا رويدًا سيحاول أن يمرّر هذه الأجندة من خلال الصحيفة المجانية.

تجدر الإشارة هنا إلى أن العدد الأول من الصحيفة أعلن أن أجندتها الوحيدة هي "قول الحقيقة"، أمّا عنوان الخبر الرئيس فقد جاء فيه ما يلي: "تنشر للمرّة الأولى- خطة محاربة الفساد"، واشتمل على خطة أعدّها المحاسب الرئيس في وزارة المالية، يارون زليخا، المقرّب هو أيضًا من نتنياهو. وفي وقت لاحق نوّه ناحوم برنياع، كبير المعلقين في "يديعوت أحرونوت"، بأنّ هذه الخطة سبق لزليخا أن عممها على الصحافة في 15 آذار/ مارس 2007.

ثالثًا: على ضوء ما تقدّم في وسع صحيفة "يسرائيل هيوم" فقط أن تحدث هزات أو قلاقل في سوق الصحافة الإسرائيلية المكتوبة. وتؤكد التقارير الصحافية أن الأثر البالغ لصدور هذه الصحيفة المجانية سينعكس على صحيفة "معاريف"، وهي ثاني الصحف الإسرائيلية اليومية من حيث عدد الاشتراكات والقراء بعد صحيفة "يديعوت أحرونوت" وقبل صحيفة "هآرتس"، إذ أنه منذ أول أيام صدورها تجاوز عدد قرائها عدد قراء "معاريف". وينتظر أن يتفاقم هذا التأثير في ضوء الأزمة العصيبة التي تعصف "بمعاريف".

وكان تقرير مطوّل نشرته صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، التابعة لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، قد ذكر أن أزمة مالية خانقة وخطيرة تعصف بصحيفة "معاريف" الإسرائيلية، ونجم عنها ترك كبار الإداريين والصحافيين لعملهم، فيما تبحث الصحيفة عن مدير عام ورئيس تحرير جديدين.

ويقول التقرير إنه على الرغم من ازدياد حجم الإعلانات في الصحافة والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في هذه المرحلة، على ضوء النشاط الاقتصادي المتنامي باستمرار، فإن صحيفة "معاريف" أعلنت عن تراجع حاد في مداخيل الصحيفة في الربع الثاني من العام الجاري (2007)، مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي، 2006.

وحسب التقرير فإن التراجع بلغت نسبته 12%، في حين أن الصحيفة لا تستطيع خفض مصاريفها، التي شهدت ارتفاعا في الآونة الأخيرة.

وجاء أيضا في تقرير "ذي ماركر" أن قدرة "معاريف" على زيادة مداخيلها باتت محدودة، فمع أن الاقتصاد يشهد نموًا بوتيرة عالية، وبلغ في النصف الأول من العام الجاري نسبة 1ر6%، إلا أن المنافسة بين الصحف على مساحات الإعلانات تعاظمت هي الأخرى، بعد أن انضمت إلى سوق الصحافة، صحيفة "يسرائيل هيوم".

أضف إلى هذا المبادرات التي لا تتوقف لدى صحيفة "يديعوت أحرونوت"، التي توسع مساحتها بشكل مستمر، وهذا يخلق عرضا أكبر من مساحات الإعلانات في الصحافة اليومية المطبوعة، ويؤدي إلى هبوط ملحوظ في مداخيل صحيفة "معاريف"، رغم أن مساحة الإعلانات لم تتراجع فيها، إلا أنها خفضت الأسعار في الصفقات مع مكاتب الإعلانات.

وتستند "ذي ماركر" إلى تقرير "معهد يفعات الإعلامي"، الذي أفاد أن مساحة الإعلانات في صحيفة "معاريف" لم تتراجع أو ترتفع منذ مطلع العام 2006، وبقيت على حالها حتى هذه الفترة، فيما يعترف تقرير لشركة "هخشرات هييشوف" التي تملكها عائلة نمرودي، مالكة الصحيفة، بأن أسعار الإعلانات في الصفقات الإعلانية الكبيرة قد تراجعت.

ويقتبس التقرير الصحافي صاحب مكتب إعلانات كبير في إسرائيل بقوله إن السبب الكامن وراء عدم تراجع مساحة الإعلانات، هو أنه لم يعد مكان للإعلانات في القنوات التلفزيونية، لأنها مزدحمة بالإعلانات، ولذا فإن المعلنين يتوجهون بداية إلى "يديعوت أحرونوت" ومن ثم يتوجهون إلى "معاريف". وهو يقول إن "معاريف" تحصل على فتات الإعلانات بعد "يديعوت أحرونوت".

يُذكر في هذا السياق أن صحيفة "يديعوت أحرونوت" تعتبر الصحيفة الأولى من دون منافس في إسرائيل، وأن أكثر من 60% من قراء الصحف يقرأونها بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعدها صحيفة "معاريف" في حدود 24%، أما الصحيفة الثالثة فهي صحيفة "هآرتس" ونسبة قرائها هي 8% أو أكثر بقليل. وعلى الرغم من تلاشي الفوارق السياسية بين "يديعوت أحرونوت" و"معاريف"، إلا أن هناك انطباعا سائدا في إسرائيل بأنّ صحيفة "يديعوت أحرونوت" تعبّر عن موقف الوسط، و"معاريف" تعبر عن موقف اليمين، فيما تعبر "هآرتس" عن موقف اليسار الصهيوني.

ويقول التقرير الصحافي إنه حتى الآن لم يتم الإعلان عن تراجع في توزيع الجريدة، لكن من جهة أخرى فإن مصاريف الجريدة تزداد باستمرار، وإنّ ملاءمة المصروفات مع حجم المداخيل هو أيضا محدود في "معاريف" بسبب المنافسة الشديدة بين الصحف، وأيضا لأن "معاريف" أقدمت قبل فترة على إقالة عدد من العاملين لديها وتقليص مصروفات حيوية يحتاجها العمل الصحافي.

وأعلن مجلس إدارة صحيفة "معاريف" عن إقامة لجنة خاصة يرأسها مدير عام الصحيفة، مالك الجريدة الفعلي عوفر نمرودي، للبحث عن مدير عام جديد للصحيفة، بعد أن فشل نمرودي في إيجاد مرشح لهذا المنصب على مدى عام كامل.

كذلك فإن الصحيفة لم تجد بعد رئيس تحرير جديدا بدلا من رئيس التحرير المستقيل أمنون دانكنر.

يذكر في هذا السياق أن واحدًا من ألمع الكتاب السياسيين في الصحيفة، دان مرغليت، أعلن هو أيضا عن استقالته من الصحيفة، إضافة إلى استقالة نائبي المدير العام، ورئيس تحرير الموقع الإلكتروني للصحيفة، NRG، حيليك شارير.

رابعًا: لا بُدّ من الالتفات، في هذا الصدد، إلى "عادات قراءة الصحف" في إسرائيل. ووفقًا لسيناريو معيّن، بالإمكان اعتباره ذا صدقية، فإن معظم القراء في إسرائيل يطالعون صحيفتين يوميتين، وبصدور صحيفة يومية مجانية من المتوقع أن يتنازل هؤلاء عن إحدى هاتين الصحيفتين لصالح الصحيفة المجانية. هذا الأمر سيلحق الضرر البالغ، أساسًا، بصحيفتين هما "معاريف" و"هآرتس"، اللتين يوجد إجماع على كونهما في عداد "الصحيفة الثانية" التي يقرأها الإسرائيليون في حين تحتكر صحيفة "يديعوت أحرونوت" مكانة "الصحيفة الأولى"، مع مراعاة أن الضرر الذي سيلحق بـ"معاريف" سيكون أكبر لكون "هآرتس" تتوافر على شريحة من القراء قد لا تتنازل عن قراءتها بسبب هويتها الفكرية العامة.
في مقابل ذلك ثمة من يؤكد أن الضرر يتهدّد أيضًا صحيفة "يديعوت أحرونوت" التي تملك 150 ألف مشترك، ولكنها تعاني أيضًا من تراجع إعلاناتها التجارية. وتحدثت بعض التقارير عن وجود "خطة أدراج" لدى عائلة موزس، مالكة الصحيفة، تقضي بإصدار صحيفة يومية مجانية أخرى تحوي مضامين من موقع "واينت" الإلكتروني الذي تمتلكه. كما تحدثت عن وجود خطة مماثلة لدى عائلة نمرودي، مالكة صحيفة "معاريف".

تجدر الإشارة هنا إلى أن الصحافة اليومية المجانية باتت تحتل حيزًا كبيرًا في خريطة الصحافة المكتوبة في العالم أجمع. وفي العام الفائت أعلنت شركة "مترو" السويدية، وهي الشركة العالمية الأكبر المتخصصة في الصحف المجانية والتي تشرف على إصدار حوالي 70 صحيفة كهذه في أنحاء العالم المختلفة، أنها بدأت تجني أرباحا من عملها بعد 11 عامًا من النشاط المستمر.

لا يمكن الفصل بين موجة صدور الصحف اليومية المجانية وبين سيرورتين أساسيتين يتعرّض لهما المجتمع الإسرائيلي في الآونة الأخيرة.

تتمثل السيرورة الأولى في اللبرلة الاقتصادية.

من المعلوم أن الإعلام الإسرائيلي يمر منذ عدة أعوام بتحولات عميقة وتطورات واسعة، كالخصخصة واللبرلة الاقتصادية والدمقرطة السياسية والتعددية في الإنتاج والبث التلفزيوني والإذاعي، وتعدد المالكين وازدياد حدة التنافس في مجال الصحافة والإعلام ودخول أصحاب شبكات الصحف اليومية (الكبرى) الخاصة (يديعوت أحرونوت، معاريف، هآرتس) إلى مجالات البث التلفزيوني والكوابل والإنترنت التي تدر أرباحاً عالية بتكاليف غير كبيرة. هذه التحولات والتغييرات التي انعكست على مبنى الإعلام وكمية القنوات الإعلامية الإلكترونية، تعكس أيضاً، حسبما أكد د. أمل جمّال في مؤلفه "الصحافة والإعلام في إسرائيل" [صدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار في أيار/ مايو 2005] سقوط نماذج "فرن- بوتقة- الصهر" الثقافي في الدولة العبرية، و"تصاعد هيمنة رأس المال الذي يرى في الإعلام مصدر ربح يمكنه استغلال الدمج بين الأيديولوجية القومية التعبوية، من جهة، والثقافة الترفيهية، من جهة أخرى، من أجل تعميق تحكمه بآليات سوق الاستهلاك الإعلامي وضمان الانصياع السياسي في الوقت نفسه".

وقد أشار أكثر من باحث، في معرض التعليق على إسقاطات صدور الصحف المجانية، إلى أنّ الصحافة الإسرائيلية المكتوبة القديمة لم تدع فرصة سانحة إلا واغتنمتها في سبيل الدعوة إلى اللبرلة الاقتصادية، وبكلمات أخرى الدعوة إلى تعزيز قوى السوق وتقليص التدخل الحكومي وتشجيع المنافسة الحرّة واللهاث وراء نسبة المشاهدة (الريتينغ). وبطبيعة الحال فإن مكانة الصحافيين الإسرائيليين وأوضاعهم المعيشية والتشغيلية لم تكن بمنأى عن إسقاطات وتأثيرات هذه التحولات والتطورات الواسعة.

من ناحيته يشدّد البروفيسور دان كاسبي، رئيس قسم الإعلام ورئيس "مركز بوردا للإعلام المتجدّد" في جامعة بن غوريون في بئر السبع، على أنه نشأ أيضًا نوع من التواطؤ الصامت بين مالكي وسائل الإعلام المختلفة وبين معظم السياسيين في إسرائيل، إذ أنّ هؤلاء الأخيرين باتوا يخشون من تعرضهم لحملات التعتيم أو الإقصاء، من قبل وسائل الإعلام، فيما لو تجرأوا على توجيه النقد إلى الممارسات الفاسقة في سوق الإعلام الإسرائيلي. كما يشدّد على أن المعارضة التي يبديها مالكو الصحف التقليدية للصحف المجانية ليست ناجمة عن قيم سامية متأصلة لديهم، وإنما هي ناجمة أساسًا عن مخاوف من مغبة الخسائر الاقتصادية التي ستلحق بهم علاوة على تآكل هيمنتهم على الخطاب العام. وأكد كاسبي أن "بارونات الإعلام" القدامى وقعوا ضحية النهج الذي سبق لهم أن كانوا من أشدّ المتحمسين له، وهو نهج فتح سوق الإعلام أمام المبادرات الاقتصادية الحرّة الذي أتاح المجال أمام دخول أصحاب الشهية الاقتصادية والسياسية، من إسرائيل والعالم. ولو لم يكونوا شركاء في ذلك لكان من حقهم أن يتوقعوا تدخل الحكومة في سبيل حماية مصالحهم بواسطة دفع مخصصات دعم (سوبسيديا) أو بواسطة فرض رقابة وقيود صارمة على المبادرين الجدد الذين يقتحمون سوق الإعلام.

أمّا السيرورة الثانية، التي ترتبط بالسيرورة الأولى من حيث المبنى والمعنى، فتتمثل في التسليع المتواتر للإعلام الإسرائيلي بما في ذلك الحكوميّ، والذي أدّى بلغة أحد الباحثين إلى خرق التوازن بين واجب خدمة الجمهور العريض وبين الحاجة إلى تحقيق الربح، لصالح الحاجة الأخيرة ولا شيء سواها. وبالتالي ينشأ تناقض ما بين الحق في حرية الصحافة، التي ينبغي أن تكون مكفولة للجمهور العريض، والحقّ في الربح الذي يحرص عليه أصحاب رؤوس الأموال.

التعليقات