أبعـد من غــزة وحمـاس.../ أنطوان شلحـت

أبعـد من غــزة وحمـاس.../ أنطوان شلحـت
لم يعد سرًا أن وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، كان "المهندس الرئيسي" للعدوان الوحشيّ على غزة [غداة بدء العدوان، في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008، نقل المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن مصادر عسكرية إسرائيلية قولها إن باراك أمر الجيش الإسرائيلي بالإعداد للعملية العسكرية في القطاع منذ أكثر من ستة شهور، وتحديدا عندما جرت الاتصالات مع مصر للتوصل إلى اتفاق التهدئة مع حماس، والذي دخل حيّز التنفيذ في 19 حزيران/ يونيو الفائت. وأوضح باراك في حينه لقيادة الجيش أنه على الرغم من أن التهدئة ستتيح لحماس إمكان تنظيم نفسها، فإنها ضرورية لإسرائيل أيضا من أجل الإعداد للعملية العسكرية. وأصدر تعليمات بجمع معلومات استخباراتية واسعة النطاق. وتم في هذا الإطار رسم صورة المواقع الأمنية كلها التابعة لحماس والفصائل الأخرى في القطاع، وبينها قواعد ثابتة ومخازن أسلحة ومعسكرات تدريب وبيوت قادة الفصائل المسلحة].
وباعتبار باراك كذلك فإن شبه الإجماع الذي بدأ يتشكل، في الآونة الأخيرة، بشأن غايته الرئيسية من وراء هذا العدوان، يتحدّد أساسًا في توكيد أن هذه الغاية تنطلق، على الأكثر، من إقامة حدّ فاصل بين "العملية العسكرية" وبين "الحرب". فـ "العملية العسكرية الإسرائيلية" في غزة، التي أعطيت اسم "الرصاص المسبوك"، هي بحسب باراك محدودة، على غرار "عملية عناقيد الغضب" في لبنان سنة 1996، والتي انتهت كما هو معروف بالتفاهمات بين إسرائيل وحزب الله. وذلك خلافًا لـ "الحرب" التي تتغيّـا، بطبيعة الحال، تحقيق حسم عسكري لا يقبل التأويـل. في الوقت نفسه من الأفضل أن تنتهي هذه العملية بـ "حلّ سياسي". وفي حال عدم تيسّر ذلك، فستكون "نقطة الحسم"، من وجهة نظر باراك، هي قوة الردع الإسرائيلية وما قد تؤول إليه. وقد صادفنـا أن كبير المعلقين السياسيين في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ناحوم برنيـاع والمراسل السياسي للصحيفة، شمعون شيفر، قد حرصـا على توكيد أن باراك تعلم من حرب لبنان الثانية أن القضية الحاسمة هي الردع. وبما أنه تمّ تحقيق بضعة إنجازات من العملية العسكرية حتى الآن، بينها أنها عززت قوة الردع الإسرائيلية، وأثبتت تفوق الجيش الإسرائيلي، وخصوصًا تفوقه الجوي، وأدّت إلى معالجة قضية الأنفاق وإلى تقطيع أوصال القطاع، فإن مصلحة إسرائيل تقتضي أن تسعى بنفسها إلى وقف إطلاق النار، خصوصًا وأن لديه في الوقت نفسه قناعة بأن المصريين سيحسنون أداءهم في مجال "محاربة عمليات تهريب الأسلحة إلى القطاع".

في واقع الأمر لا يعني الكلام السالف أن عملية "الرصاص المسبوك" افتقرت إلى غاية الحسم.
وفي الإمكان أن نقرّر الآن أنها بدأت بقصد السير في اتجاه حسم مسألتين ذواتي صلة:
الأولى- وقف إطلاق الصواريخ من غزة على المستوطنات الإسرائيلية الجنوبية،
والثانية- تغيير الأوضاع الأمنية على الحدود الجنوبية، والتي تحيل بدورها إلى موضوع قوة الردع الإسرائيلية [تحت عنوان "هدف العملية" ورد في موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية على شبكة الانترنت ما يلي: إن الهدف من العملية العسكرية هو الدفاع عن سكان دولة إسرائيل من خلال تحسين الأوضاع الأمنية في جنوب البلاد ولمدة طويلة. لهذا فإن هدف العملية هو المساس وبشدة بالبنى التحتية "الإرهابية" المتعاظمة التابعة لحماس وبقدرة حماس نفسها، وكذلك بقدرة حليفاتها من المنظمات، على إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون باتجاه مواطني إسرائيل والقيام بعمليات "إرهابية" من أنواع مختلفة مثل اختطاف مواطنين إسرائيليين].
وكانت "الآمال" معقودة في البداية على أن ينجح سلاح الجوّ الإسرائيلي في أن يحسم هاتين المسألتين. وعندما أسقط في يد القيادة الإسرائيلية فقد عمدت إلى الانتقال إلى "العملية البرية المحدودة". غير أن هذه العملية لم تغيّر نتيجة العـدوان. وفي هذا الصدد لا بُدّ من أن نستعيد توكيد معلق الشؤون الإستراتيجية والاستخباراتية في صحيفة "هآرتس"، يوسي ميلمـان، أن وجود القوات العسكرية البرية الإسرائيلية في غزة أدى إلى إضعاف قدرة حماس على إطلاق الصواريخ، لكن ليس بصورة كبيرة للغاية. وبناء على ذلك فإن دخول القوات البرية لم يغيّر نتيجة العملية العسكرية، فيما يتعلق بتقليص إطلاق الصواريخ على إسرائيل. وعلى ما يبدو لن يحدث مثل هذا التغيير، ما دامت المؤسسة السياسية ترفض أن تصدر الأوامر إلى الجيش الإسرائيلي لاحتلال القطاع كله. ويظهر أنه لم تكن نية لديها في هذا الاتجاه.
بالاستناد إلى هذا ليس من المبالغة أن نستنتج أن الغاية القصوى للعدوان الإسرائيلي على غزة تمثلت، في نهاية المطاف، في إلحاق أضرار كبيرة بالقدرات التنظيمية والعسكرية لدى حماس، وإثـارة الانطبـاع بأن إسرائيل حققت انتصارًا ملموسًا عليها، يخدم قوة ردعها في المستقبل.
ولا ترتبط غاية استرجـاع قوة الردع الإسرائيلية بالأوضاع السائدة على الحدود الجنوبية لإسرائيل فقط.
وربما يتوجب أن نشير إلى عاملين جوهريين آخريـن:
الأول- مترتبـات حرب لبنان الثانية في صيف 2006. وفي مقدمها الاستنتاج الرئيسي، الذي خلصت إليه لجنة تقصي وقائع تلك الحرب [لجنة فينوغراد]، وفحواه ما يلي:
"لقد طرحت حرب لبنان الثانية مجدداً على بساط البحث والتفكير مسائل فضَّل المجتمع الإسرائيلي في جزء منه إقصاءها وتنحيتها جانباً: لا يمكن لإسرائيل البقاء في هذه المنطقة، ولن تستطيع العيش فيها بسلام أو حتى بهدوء، من دون أن يكون هناك فيها وفي محيطها من يؤمن أن دولة إسرائيل تملك قيادة سياسية وعسكرية، وقدرات عسكرية وقوة ومناعة اجتماعية، بما يمكنها من ردع كل من تسوّل له نفسه من بين جيرانها المسّ أو إلحاق الأذى بها، ومنعهم- ولو بالقوة- من تحقيق مبتغاهم. وهذه الحقائق غير خاضعة أو مرتبطة بهذا التوجه السياسي أو ذاك.
"صحيح أن إسرائيل ملزمة- سياسيًا وأخلاقيًا- بالتطلع إلى السلام مع جيرانها والتوصل إلى التسويات المطلوبة لهذا الغرض. غير أن محاولات تحقيق السلام أو التسوية ينبغي أن تأتي من موقع قوة عسكرية ومناعة اجتماعية وسياسية، ومن قدرة واستعداد للذود عن الدولة وقيمها وأمن سكانها".
الثانـي- ترى المؤسسة السياسية- العسكرية في إسرائيل أن الانفصال عن قطاع غزة (في صيف 2005) أوجد واقعاً جديداً على الأرض. وقد حث هذا الواقع الجديد على إقامة منطقة نفوذ واضحة ومميزة لحركة حماس في قطاع غزة. ونجحت حماس في تثبيت قوتها وتعزيزها على أرض الواقع وتحقيق مكاسب على الصعيد السياسي- الداخلي الفلسطيني، حيث فازت في الانتخابات العامة للمجلس التشريعي (خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2006) بأغلبية الأصوات وشكلت حكومة برئاستها (خلال شهر آذار/ مارس 2006). وفي وقت لاحق (خلال شهر حزيران/ يونيو 2007) فرضت حماس سيطرتها على قطاع غزة عنوةً، وعملت على تفكيك القوة العسكرية والسياسية لحركة فتح وأجهزة الأمن الفلسطينية، ثم أقامت في قطاع غزة كياناً إسلامياً- راديكالياً ("حماستان"). وهذا الكيان يتلقى دعما من إيران وسورية، ويدير سياسته الداخلية والخارجية، ثم يدير "منظومة إرهابية" ضد إسرائيل، وينفصل بشكل تام عن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، برئاسة محمود عباس (أبو مازن) وحركة فتح. وتدأب حركة حماس بخطوات حثيثة، خصوصًا خلال العام الأخير، على القيام بعملية تعاظم عسكرية [ورد هذا التقويم في أكثر من مصدر رسمي إسرائيلي. ومنها على سبيل المثال دراسة بعنوان "التعاظم العسكري لحركة حماس في قطاع غزة" أصدرها "مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب" في "مركز تراث الاستخبارات"، في 24 نيسان/ أبريل 2008، وأعاد تعميمها في أثنـاء العدوان الحالي].
وفي رأي البروفسور هيلل فريش، الباحث في "مركز بيغن- السادات للدراسات الإستراتيجية" في جامعة بار إيلان، فإن ما حدث مع حماس هو جزء من مستجدات إقليمية تثير قلق إسرائيل، وتصب كلها في محصلة تعزيز قوة معسكر الإسلام المتطرف وتعاظم الشعور بالنشوة لديه. وهو يشير، على نحو خاص، إلى استمرار إيران في دفع مشروعها النووي قدمًـا، وإلى حرب إسرائيل الفاشلة ضد حزب الله في سنة 2006. ويعتقد فريش أن من شأن إضعاف قوة حماس أن يستنسخ دلالات انتصارين عسكريين سابقين أحرزتهما إسرائيل:
الأول- انتصـار حرب حزيران/ يونيو 1967، الذي رسخ لدى الدول العربية الوعي بأنه يستحيل القضاء على إسرائيل بواسطة الحروب التقليدية.
والثاني- الانتصار الذي ترتب على حملة "السور الواقي" في الضفة الغربية سنة 1992، والتي أوضحت لفتـح والسلطة الوطنية الفلسطينية أن "الإرهاب" أيضًا ليس في إمكانه أن يقضي على إسرائيل.
يبقى السؤال: إلى أي حدّ ستظل قوة الردع الإسرائيلية بمثابة "السور الواقي" للدولة العبرية؟.
عقب حرب لبنان الثانية أجاب البروفسور أوري بار- يوسيف، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة حيفا، عن هذا السؤال بمقالة حملت عنوانـًا ذا دلالة خارقة هو "ليس بالقوة وحدها"، خلص فيها إلى القول: "إن إحدى العبر الأساسية التي ينبغي على إسرائيل أخذها من حرب 2006، هي أنه في المحيط الاستراتيجي المتكون الموجودة في خضمه، فإن استخدام الوسائل الدبلوماسية يمكن أن يفضي إلى نتائج إستراتيجية أفضل بكثير من استخدام القوة العسكرية وتحقيق الحسم العسكري".
كما أكد خبير إسرائيلي آخر، هو البروفسور غابي شيفر، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس، أن إسرائيل لا تملك في واقع الأمر قوة ردع منذ ما قبل حرب حزيران/ يونيو 1967. فقد اندلعت هذه الحرب على الرغم من الإنجاز الإسرائيلي في الحرب التي سبقتها [حرب السويس في سنة 1956]. كما أن حرب الاستنزاف، في أواخر ستينيات القرن العشرين، اندلعت على الرغم من الإنجازات الإسرائيلية العسكرية في حرب حزيران. وينسحب هذا الحكم على حرب أكتوبر 1973، وعلى ما تلاها من حروب ومواجهات مع منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله، وصولاً إلى حرب لبنان الثانية. كما أنّ اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن لم تكونا حصيلة قوة الردع العسكرية الإسرائيلية، في رأي هذا الخبير. علاوة على ذلك كله "فإن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي لا يردع أعداءها" قطّ، على حدّ تعبيره.
ولعله ليس بغير دلالة أن نذكر أنه بعد أيام معدودة من منح الضوء الأخضر للإدارة الأميركية، في نيسان/ أبريل 2008، كي تعمّم على الملأ الصور عن "المفاعل النووي السوري"، الذي كان في طور البناء بمساعدة كوريا الشمالية، وزعمت إسرائيل أنها استهدفته في الغارة الجوية التي شنتها على سورية في أيلول/ سبتمبر 2007، اعتبر معلق الشؤون الأمنية في صحيفة "هآرتس"، أمير أورن، أنه في إثر ما كشف عنه المسؤولون الكبار في إدارة جورج بوش، في هذا الشأن، هناك شك كبير في مدى صدقية قيام إسرائيل بقصف المفاعل السوري، في ضوء كون سورية لا تزال بعيدة للغاية عن التزود بالسلاح النووي. وأضاف أن النتيجة المطلوب استخلاصها من ذلك هي أن مبادرة إسرائيل إلى مهاجمة المفاعل [السوري] حتى من قبل أن يتزود بالوقود ويبدأ العمل تزيد من ضعف قوة ردعها عامة وإزاء إيران خاصة.
ومضى موضحًا: إذا كانت إسرائيل قد سارعت إلى قصف مفاعل نووي في سورية قبل تفعيله، كما سبق أن فعلت في العراق [سنة 1981]، فهذا يعني أنها ترتدع، على نحو دائم، من مهاجمة مفاعلات بدأت تعمل، سواء أكان ذلك بسبب الخشية من حدوث إشعاعات نووية تلحق الضرر بالسكان الأبرياء، أو بسبب عدم الرغبة في توفير ذريعة قوية لمهاجمة ديمونه [المفاعل النووي الإسرائيلي]. وإذا كانت هذه هي السياسة الإسرائيلية ففي إمكان إيران أن تكون هادئة لا أن ترتدع، لأن مفاعلاتها النووية تعمل فعلاً.

ثمـة أمور عديدة حظيت بـ "إجماع إسرائيلي قومي" فيما يتعلق بالعدوان على غزة وشكلت عناصر تأجيجه في الوقت نفسه، في مقدمهـا أن فهم المراحل العسكرية المتدرجة لهذا العدوان بقي مرهونًا، أكثر شيء، بعدد الضحايا التي تسقط في صفوف الإسرائيليين. وفي هذا الشأن أشار كبير المعلقين السياسيين في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ناحـوم برنيـاع، إلى واقع أن إسرائيل تكبدّت، حتى اليوم الثامن عشر على بدء العدوان، الموافق في 13 كانون الثاني/ ينايـر 2009، ثلاثة عشر قتيلاً، تسعة منهم جنود وأربعة مدنيون، من دون أن يذكر عدد الجرحى، وأنه في إمكان المجتمع الإسرائيلي، إذا ما استمرت الحال على هذا المنوال، أن يتعايش مع هذا العدد وأن لا يخرج لمناهضة العدوان على نطاق واسع.
وقد يكون هذا السبب هو الرئيسي وراء القرار الإسرائيلي القاضي بعدم التوغل إلى مراكز مدن القطاع، وإن كانت الحجة الرسمية المعلنة هي "إعطاء الفرصة للجهود الدبلوماسية المصرية".
غير أن معلق الشؤون الأمنية في صحيفة "هآرتس"، أميـر أورن، رأى أن "التلكؤ" في التصديق على مرحلة التوغل إلى مراكز المدن عائد، أساسًا، إلى حرج الزمن السياسي الراهن. وقد أدت به رؤيته هذه إلى اعتبار التهديدات الإسرائيلية بتوسيع نطاق العملية العسكرية البرية غير جادّة بتاتًا، إذا ما تمّ الأخذ في الحسبان أنها تأتي قبل أسبوع واحد من أداء الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوبامـا اليمين الدستورية، وقبل أربعة أسابيع من الانتخابات الإسرائيلية العامة، التي ستجري في 10 شباط/ فبراير المقبل.

لا يعني هذا الكلام أنه كانت هناك نيات إسرائيلية للتخفيف من وطأة العدوان وما رافقه من أعمال قتل وتدمير، منذ أول أيامـه. بل كانت هناك نيـّات، وخصوصًا لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهـود أولمرت، تقضي بتصعيد وطأته من أجل الوصول إلى "نقطة حسم" في مواجهة حماس حتى من دون احتلال القطاع كله.

عند هذا الحدّ تجدر الإشارة إلى أن موقف أولمرت هذا قد حظي بدعم القيادة العسكرية الإسرائيلية، التي ظلت تطالب بعدم الاعتماد على أي جهة أخرى، وتقصد مصر تحديدًا، وبالذات فيما يتعلق بمنع عمليات تهريب أسلحة إلى القطاع عبر الأنفاق المحفورة تحت محور فيلادلفي، والذي بات على ما يبدو الهدف الأبعد للعدوان، وتؤكد أن "في إمكان إسرائيل أن تعتمد على جيشها فقط" في هذا الشأن.
لكـن على صلة بموضوع العلاقة الطردية بين استمرار العدوان على غزة وعدم تململ الرأي العام الإسرائيلي جراء ذلك وهيمنة الإجماع شبه المطلق على مواقفه، لا بُدّ من ملاحظة ما يلي:
(*) عمدت إسرائيل إلى فرض تعتيم إعلامي صارم على مجريات العدوان، من أجل تحقيق هدف مركزي يتمثل في استمرار التأييد الشعبي الإسرائيلي له، إلى حين اتخاذ قرار بوقفه. وقد ظلت الاحتجاجات الشعبية عليه منحصرة في الفلسطينيين في الداخل وفي قوى يهودية قليلة تنضوي تحت تيار اليسار الراديكالي، المحدود التأثير أصلاً. في حين أن أداء حركة "السلام الآن" الإسرائيلية المناهضة للاحتلال والاستيطان بقي قاصرًا، على غرار أدائها في أثناء حرب لبنان الثانية في سنة 2006، إذ أنها لم تخرج عن صمتها وتأييدها غير المباشر للعدوان إلا يوم 10 كانون الثاني/ ينايـر 2009، بواسطة المبادرة إلى مظاهرة أقيمت في تل أبيب تحت شعار "التحذير من الغوص في المستنقع الغزي".
ويبدو أن هذه الحركة، التي سبق أن كانت وراء إخراج مئات الآلاف إلى المظاهرة التاريخية في "ميدان ملوك إسرائيل" في تل أبيب في سنة 1982، احتجاجا على مجزرة صبرا وشاتيلا، لم تكن رسمية وممأسسة أكثر مما هي عليه في الوقت الحالي خلال فترة حكومة أولمرت. وتكـاد أجندتها السياسية أن تكون جزءًا من الإجماع. وربمـا يحيل هذا الأداء إلى الجوهر الحقيقي لهذه الحركة، التي انهمكت أساسًا ولا تزال في إبراز ثمن الحرب وفوائد السلام فحسب، لا في إشهار الموقف المبدئي المعارض للاحتلال وللسيطرة على شعب آخر.
(*) يعاني حزبا "العمل" و"ميرتس" من عملية انحسار وأفول (الأول شريك في التحالف الحكومي ويترأسه وزير الدفاع، إيهود باراك، الذي يعتبر "المهندس الرئيسي" للعدوان على غزة، والثاني في المعارضة الخجولة). وقد كفّ هذان الحزبـان، منذ وقت بعيد، عن كونهما من أحزاب "اليسار" الواضح والجليّ، على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فهما يصطفان الآن في المركز السياسي للخريطة الحزبية، مع ميل واضح إلى يمين الوسط. وإذا كان الحزبان في الماضي- البعيد جداً- قد انتميا إلى ما يمكن وصفه بـ "المعسكر الاشتراكي- الديمقراطي المعتدل"، فإن هذا المعسكر، وعقب ضعف هذين الحزبين، بات الآن أقرب إلى الاندثار من الخريطة السياسية في إسرائيل تمامًا.
وفي رأي البروفسور غابي شيفر، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس، فإن التواري التدريجي للاتجاه الاشتراكي- الديمقراطي في إسرائيل مرتبط أولاً وقبل أي شيء بالتغييرات الجذرية التي طرأت على المفاهيم والمواقف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للحزبين، وبالأخص مواقف زعمائهما الذين تبنوا في معظمهم وجهات نظر ومواقف يمينية جداً من الناحية السياسية، ومواقف ليبرالية جديدة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية. وفي ضوء الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة حاول عدد من رؤساء الحزبين في الواقع تخفيف حدة النزعة الليبرالية الجديدة التي وسمتهم لغاية الفترة الأخيرة، لكن توجههم الأساسي لم يشهد أي تغيير. فمجرد استعدادهم للانخراط في ائتلاف مع حزب "كاديما"، الذي يعتبر حزب وسط يمين واضحا، وتحدثهم على إمكان توحيد حزبي "كاديما" و"العمل" في حال تعرضهما لخسارة ملموسة في الانتخابات المقبلة، إنما يدل على التوجه الأيديولوجي، على الأقل لدى حزب "العمل".
في واقع الأمر فإن هذه الأجواء الإسرائيلية تعيد إلى الأذهان صيرورة توحّد خطاب المركز السياسي في إسرائيل الممثل في حزبي "الليكود" و"العمل"، في أعقاب اندلاع الانتفاضة الثانية سنة 2000.
وفي حينه عزا البعض توحّد خطاب المركز السياسي إلى الوصف الإسرائيلي المشوّه لما حدث في قمة "كامب ديفيد"، خلال صيف 2000، ولعملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية برمتها، لا سيما منذ صعود بنيامين نتنياهو إلى سدة الحكم في إسرائيل في سنة 1996. وبموجب هذا الخطاب فإنه بسبب "خيانة" الفلسطينيين لمبدأ السلام لم يبق أمام إسرائيل سوى محاولة حل المشكلة (مشكلة النزاع) عن طريق القوة. وبالروحية البراغماتية نفسها، التي وسمت حزب "مباي" التاريخي، فإنه لم يتم التعبير عن هذا الموقف بشكل مباشر، بل تم التظاهر (الكاذب) بوجود استعداد للانخراط في أي جهد أو مسعى يهدف إلى حل النزاع بالطرق الدبلوماسية، غير أن السياسة الإسرائيلية حرصت على أن تصوّر القوة، من الناحية العملية، باعتبارها الطريق الأفضل لإنهاء النزاع.

(نشر في "النهـار"- بيروت)

التعليقات