إعادة إنتـاج عقلية تلقين الفلسطينيين درسًا.../ أنطـوان شلحـت

إعادة إنتـاج عقلية تلقين الفلسطينيين درسًا.../ أنطـوان شلحـت
جرت العادة، في كل مرة تشن إسرائيل خلالها حربًا دموية على الفلسطينيين أو العرب، أن يعلن الكتاب العبريون موقفًا منها، باعتبارهم "حراس شرف الكلمة". وتتجه أنظار الرأي العام، على وجه التخصيص، إلى ما بات يعرف بـ "الترويكـا" الأدبية الإسرائيلية المؤلفة من أبرز ثلاثة كتاب، وهم عاموس عوز وأبراهام ب. يهوشواع ودافيد غروسمان.
في إبان حرب لبنان الثانية، في صيف 2006، تحركت هذه "الترويـكا" معًا ونشرت، في يوم 6 آب/ أغسطس من ذلك العام، أي بعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على اندلاع الحرب، نداء في صحيفة "هآرتس" دعت فيه إلى أن توافق حكومة إيهود أولمرت على "اتفاق متبادل لوقف إطلاق النار".
وجاء في ذلك النداء ما ترجمته الحرفية التالية:
"استوجبت عدوانية منظمة حزب الله أن تقوم إسرائيل بعملية عسكرية واسعة النطاق للدفاع عن نفسها، سواء ضد هذه المنظمة ذاتها أو ضد السلطة اللبنانية التي تقدّم الحماية والدعم الكاملين لهذه المنظمة الإجرامية، التي تؤيد إبادة إسرائيل.
"إن هذه العملية العسكرية عادلة ومبرّرة في نظرنا من الناحية الأخلاقية، وتلائم الشرعية الدولية بشأن الدفاع عن النفس في وجه عدوانية دولة عدو. وعلى الرغم من أنه جرى، في أثناء هذه العملية، المسّ بمدنيين كثيرين من دولة العدو فإن هدفها لم يكن بتاتًا قتل المدنيين لمجرّد ذلك، خلافًا لمنظمة حزب الله التي عمدت، في ظلّ حماية السلطة اللبنانية لها، إلى إطلاق آلاف القذائف والصواريخ على بلدات في إسرائيل وقتل عشرات المدنيين، يهودًا وعربًا على حد سواء.
"في هذه المرحلة من الحرب ندعو الحكومة إلى الموافقة على اتفاق متبادل لوقف إطلاق النار. وذلك من منطلق الافتراض بأن الأهداف المعقولة والممكنة لهذه العملية العسكرية قد تحققت، ولا مبرّر للتسبب في معاناة وسفك دماء إضافية للطرفين من أجل أهداف ليست ممكنة ولا تستحق هذه المعاناة. لا حق للشعب اللبناني في المطالبة باحترام سيادته إذا ما تلكأ في بسط مسؤوليته الكاملة على جميع مواطنيه وعلى جميع أراضيه. إن إصرار إسرائيل على الدفاع بحزم عن حدودها ومواطنيها تم توضيحه كفاية برأينا إلى الشعب اللبناني، ولذا لا حاجة لزيادة آلامه وآلامنا أكثر فأكثر. ومع كل التأييد المبدئي من قبلنا للعملية العسكرية الإسرائيلية، فإننا ندعو إلى الموافقة الفورية على وقف متبادل لإطلاق النار".
وعلى ما يبدو فإن الحرب على غزة لم تنجح في أن تجمع بين أضلاع هذه "الترويكـا" مرة أخرى، غير أن كلاً منهم لم يتلكأ في نشر موقفه على حدة. كان البادئ غروسمان، الذي قتل نجله الأصغر في آخر أيام حرب لبنان الثانية، بواسطة مقال ظهر في صحيفة "هآرتس" يوم 30 كانون الأول/ ديسمبر 2008، وتلاه عوز بمقال في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 2008، ومن ثم أبراهام يهوشواع بمقال في صحيفة "معاريف" يوم 6 كانون الثاني/ يناير 2009.
لكن على الرغم من هذه "الفُرقة"، التي لم نتعثر بأسبابها الحقيقية بعد، ظلت المفارقة الرئيسة كامنة في مساحة الالتقاء بين المقالات/ المواقف الثلاثة. ومن ناحية أخرى هناك الوحدة في رؤية الهدف المرغوب إسرائيليًا. ثمة اختلاف لكنه شكليّ، لا يمس الجذور الحقيقية للموقف الإسرائيلي التقليدي إزاء الإنسان الفلسطيني. أمّا البديل الذي يطرح تغييرا جذريا لمحتوى العلاقات بين الطرفين، وقد يكون إيذانًا بحدوث اختراق، فلا يزال من نصيب فئات قليلة من الكتاب الإسرائيليين اليهود، ليست مؤثرة في المشهد الثقافي العام، على الرغم من رصانة خطابها، وكونه من ناحية منطقية الأكثر مدعاة للتعاطف.
تلتقـي المقالات الثلاثة في العناوين الرئيسية الآتية:
- أن المقاومة هي المسؤولة عن تدهور الأوضاع في غزة، فلولا قيامها بإطلاق الصواريخ على إسرائيل لما كانت هناك حاجة إلى عملية عسكرية؛
- الدعوة إلى أن تبادر إسرائيل إلى وقف إطلاق النار، والاكتفاء بما ألحقته العملية العسكرية الإسرائيلية من قتل ودمار بغزة وأهلها إلى الآن؛
- السعي إلى تسوية المشكلة مع "حماس" سياسيًا. وقد زاد يهوشواع على ما قاله عوز وغروسمان في هذا الشأن بأنه لا مهرب من التحادث معها في نهاية المطاف.
وتتسق مع موقف "الترويكـا" الأدبية مواقف أدبـاء إسرائيليين آخرين كثيرين، برز من بينها بيان صدر عن "ثنائي أدبي" من جيل الأدبـاء الإسرائيليين الأصغر سنًا، هما الزوجان إتغـار كيرت وشيرا غيفـن، وظهر في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم 8 كانون الثاني/ يناير 2009، داعيًا رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى "استثناء الخيار، الذي قد ينطوي على مخاطر قتل أطفال فلسطينيين بعدد روّاد روضة واحدة، من مجمل الخيارات السياسية والعسكرية المتاحة أمامه لإدارة الحرب في غزة" من تلك اللحظة فصاعدًا. وذلك بهدف "عدم منح أعدائنا فرصة إملاء عالم قيمهم وأخلاقهم علينا". ونقول من تلك اللحظة فصاعدًا، لأن البيان قد جاء عقب مقتل عدد كهذا من الأطفال الفلسطينيين في إحدى المدارس التابعة لوكالة غوث اللاجئين.
إذا كان في الإمكان، لدوافع أخلاقية وإنسانية محضة، أن نبدي قدرًا من التفهم لواقع أن إطلاق الصواريخ الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية، يبهـظ هؤلاء الأدبـاء ويثير حفيظتهم، فلا يجوز تجاهل جوهر ما تنطوي عليه مواقفهم من سعي مفرط في تجرّده لإبراز التفوق الأخلاقي على الفلسطينيين، حتى في الوقت الذي لا تنفك الآلة الحربية الإسرائيلية تطحنهم مع تراب الأرض. خاصة وأنه من طراز "التفوّق الأخلاقي" الذي يجعلهم لا يربأون التسليم، بداهة، ومن دون أدنى مساءلة أخلاقية، بضرورة تلقين الفلسطينيين درسًا قاسيًا أولاً، بما يضطرهم إلى أن يخروا صاغرين أو أن يزحفوا إلى طاولة مفاوضات أقصى غايتها إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد، على حدّ قول البروفسور أورن يفتاحئيل، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع.
ما من شكّ في أن "تلقين الفلسطينيين درسًا" هو "مبدأ أصيل" في الفكر الإسرائيلي المؤدلج بالصهيونية، ينمّ عن عقلية كولونيالية راسخة، بحسب ما يؤكد الصحافي والمؤرخ الإسرائيلي الجديد توم سيغف، الذي كان واحدًا من الأصوات الإسرائيلية القليلة التي سمّت الأشياء بأسمائها الحقيقية، فور أن بدأت المدافع دويّهـا. فقد كتب في زاويته الأسبوعية في صحيفة "هآرتس"، يوم 28 كانون الأول/ ديسمبر 2008، يقول: إسرائيل تسدّد الضربات إلى الفلسطينيين من أجل "أن تلقنهم درسًا". وهذه هي إحدى الفرضيات الأساسية، التي ترافق المشروع الصهيوني منذ بدايته. فنحن- اليهود- مندوبو التقدّم والحضارة، الحنكة العقلانية والأخلاق، والعرب هم رعاع بدائيون ذوو نزعات عنيفة وهوجاء، جهلة لا بُدّ من تربيتهم وتعليمهم الفهم الصحيح بطريقة "العصا والجزرة"، على غرار ما يفعل المكاريّ مع حماره. ويفترض بقصف غزة أن "يقضي على سلطة حماس"، وفقًا لفرضية أخرى ترافق الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، وبموجبها في الوسع أن نفرض على الفلسطينيين قيادة "معتدلة" تتنازل عن تطلعاتهم القومية. إن التبرير الإسرائيلي للحرب على غزة، والأهداف التي وُضعت لها هي بمثابة إعادة لفرضيات أساسية ثبت بطلانها مرارًا وتكرارًا، غير أن إسرائيل تعيد إنتاجها من حرب إلى أخرى.
ولقد سبق لمؤرخ إسرائيلي آخر، هو شلومو زاند، مؤلف كتاب "متى وكيف اُخترع الشعب اليهودي؟"، أن اعتبر الكلمات "حجرًا أساسيًا في اختراع القومية اليهودية الجديدة". وعلى ما يبدو فإنها تعيد إنتاج ذاتها ومقولاتها، على نحو خاص، بين "مفترق طرق" وآخر، كما هي الحال الآن إزاء "مفترق" الحرب العدوانية على غزة.
بيد أن ما يقف في عمق هذا التكرار وإعادة الإنتاج هو الانغلاق تجاه الألم الفلسطيني، ربما لأن التماثل مع هذا الألم يجعل صاحبه في مستوى واحد مع العرب، كما قال ذات مرة الشاعر إسحق لاؤور. لكن يبدو لي أن دافع هذا الانغلاق كامن أيضًا في ما سبق أن أورده يهوشواع على لسان "نعيم"، بطل روايته الشهيرة "العاشق"، في ثمانينيات القرن الفائت:
قال نعيم: ينبغي بنا، نحن [يقصد العرب في الداخل] الذين نكاد نقضي اليوم كله إلى جانبهم [يقصد اليهود]، أن نكون حذرين للغاية. كلا، إنهم لا يكرهوننا. إن الذي يعتقد أنهم يكرهوننا يرتكب خطا فادحـًا. فنحن خارج نطاق كراهيتهم، نحن أشبه بظـلال بالنسبة لهـم.
مع ذلك فإن يهوشواع نفسه، الذي قد يكون ما وضعه على لسان "بطله العربي" قد شفّ عما ساوره من شعور شخصي آنذاك، يعود ليؤكد الآن أن العرب ليسوا كائنات ميتافيزيقية، وإنمـا كائنـات بشرية تتعرّض للتغيير على غرار ما نتعرّض نحن له. بناء على مجرّد ذلك في وسعنا القول إن إصرار الإنسان العربي على حضوره في الحكاية ساهم، بكيفية ما، في زحزحة بعض القيم وربما في حلول قيم أخرى، قد تكون مغايرة، محلها. غير أنه لم يزلزل وضعًا قائمًا بعد، وعلى ما يظهر لن يزلزله في المستقبل المنظور.


[نُشر أيضًا في "الحيـاة"]

التعليقات