المخابرات الصهيونية: بدايات التجسس على العرب(2/4)../ د.محمود محارب

-

المخابرات الصهيونية: بدايات التجسس على العرب(2/4)../ د.محمود محارب
في بداية العام 1920 شهدت فلسطين نضالاً وطنياً ضد الصهيونية، وضد السياسة البريطانية الداعمة للصهيونية. ففي أواخر شهر شباط (فبراير) من العام 1920 جرت في مدينة القدس، وفي مدن فلسطينية أخرى، مظاهرات احتجاجاً على السياسة البريطانية الموالية للصهيونية وضد النشاط الصهيوني الساعي لتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود.

وفي الأول من آذار (مارس) 1920، لم يكتفِ الفلسطينيون بالمظاهرات، بل طوروا نضالهم، حيث هاجم مسلحون فلسطينيون مستوطنتي "تل حاي" و"كفار جلعادي"، في شمال فلسطين. وتمكن المناضلون الفلسطينيون من احتلال المستوطنتين وقتل سبعة من المستوطنين الصهيونيين كان من بينهم يوسف ترومبلدور، أحد القادة الصهيونيين البارزين(16).

وبعد أسبوع من احتلال المستوطنتين، تجددت المظاهرات العربية الفلسطينية، وذلك بمناسبة إعلان استقلال سوريا، التي كانت تشمل سوريا وفلسطين ولبنان وشرق الأردن، وتنصيب الأمير فيصل ملكاً عليها. وفي الأول من نيسان (أبريل) 1920، اتجهت إلى مدينة القدس، مسيرات من المدن والقرى الفلسطينية المجاورة، للاشتراك في الاحتفالات والمهرجانات التي تجري في هذه المناسبة. وسرعان ما تحولت هذه المناسبة إلى مظاهرات وصدامات مع المستوطنين الصهيونيين، أدت إلى مصرع العديد منهم وجرح المئات.

في منتصف آذار (مارس) 1920 وفي هذه الأجواء المشحونة بالنضال الفلسطيني، زار حاييم وايزمان فلسطين، بعد أن كان قد اجتمع، وهو في طريقه إلى فلسطين، مع القيادة البريطانية في القاهرة. كان حاييم وايزمان يخشى أن لا تلتزم بريطانيا بوعد بلفور، القاضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، في ظل اندلاع المقاومة العربية الفلسطينية للصهيونية وللسياسة البريطانية المؤيدة للصهيونية، وفي ضوء تعاطف العرب عامة مع النضال العربي الفلسطيني ضد الصهيونية.

سعى حاييم وايزمان بكل قوة إلى شراء أو تزييف "مزابط" من بعض الفلسطينيين من أجل تقديمها إلى بريطانيا لإقناعها أنه بالإمكان تنفيذ المشروع الصهيوني بدون إيذاء الفلسطينيين وبدون معارضتهم(17).

انطلق وايزمان كمعظم القادة الصهيونيين في عصره، من منطلق صهيوني يرفض الإقرار بوجود شعب عربي فلسطيني أو شعب عربي في فلسطين. فقد أدرك وايزمان أن إقراره بوجود شعب عربي فلسطيني، يشكل عقبة كأداء أمام سعي الصهيونية إلى نفي الوجود الفلسطيني وتحويل فلسطين إلى دولة يهودية. كان وايزمان يعي أن إقرار الصهيونية بوجود شعب عربي فلسطيني يستلزم الإقرار بالحقوق القومية لهذا الشعب وفي مقدمة هذه الحقوق القومية حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره و إنشاء دولته الفلسطينية المستقلة، وهذا ينسف المشروع الصهيوني برمته. ومنسجماً مع منطلقاته الصهيونية ادعى حاييم وايزمان عدم وجود حركة وطنية فلسطينية؛ بيد أنه في الوقت نفسه سعى لإقامة بديل لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية وكذلك نشط بقوة لخلق خلاقات في صفوف الشعب العربي الفلسطيني وتأجيج الانقسامات وإثارة الفتن بين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين وبين سكان المدن والقرى والبادية وبين العائلات والحمائل والطوائف الفلسطينية.

وخلاصة القول سعى حاييم وايزمان الى الحصول على تقارير ومعلومات مخابراتية من "مكتب المعلومات" لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية السياسية. وفي هذا السياق وأثناء زيارته إلى فلسطين التي كانت تنتفض ضد بريطانيا والصهيونية، وكان وايزمان لا يتجول في فلسطين إلا برفقة حارسين أحدهما رئيس "مكتب المعلومات" شنيئرسون(18)، أصدر وايزمان تعليماته إلى رئيس "مكتب المعلومات" بإدارة حرب سياسية بين صفوف العرب الفلسطينيين. ولتحقيق ذلك القي وايزمان على "مكتب المعلومات" ست مهام(19):

1. إثارة الفتن والمشاكل بين العرب المسيحيين والمسلمين.
2. شراء صحف عربية معادية للصهيونية والعمل على إقناعها أن تؤيد الصهيونية.
3. السعي لشراء بعض "الوجهاء" في منطقة نابلس وذلك بهدف العمل ضد الحركة الوطنية الفلسطينية الناشطة في مدينة نابلس، وكذلك تكليف هؤلاء "الوجهاء" بواسطة الرشاوي أو التنزييف أو كليهما، بجمع "مزبطات" تطالب بالانتداب البريطاني على فلسطين وتطالب أيضاً بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإقامة نادٍ يكون مقراً لمن يؤيد التعاون مع الصهيونية.
4. العمل على إقامة تحالف مع شيوخ شرق الأردن والسعي لضعضعة علاقتهم مع سوريا وإحباط دعمهم للحركة الوطنية الفلسطينية والحصول منهم على "مزبطات" تؤيد الصهيونية والهجرة اليهودية والانتداب البريطاني.
5. السعي لإقامة علاقات مع شيوخ البدو في النقب في محاولة لعرقلة العلاقات المتنامية بينهم وبين قادة الحركة الوطنية الفلسطينية.
6. العمل على إقامة نوادٍ مشتركة لليهود والعرب بغرض نشر الأفكار والدعاية الصهيونية من ناحية وللتحريض على الحركة الوطنية الفلسطينية وقيادتها من ناحية أخرى.

حاول "مكتب المعلومات" تنفيذ المهام التي ألقاها عليه وايزمان، وفي هذا السياق رتب مكتب المعلومات اجتماعاً لوايزمان مع أحد "الوجهاء" من مدينة نابلس، التي كان لها دور ريادي في النضال الوطني الفلسطيني. وقد منح حاييم وايزمان هذا "الوجيه" ألف جنيه إسترليني مقابل تنظيم وشراء "مزبطات" تدعم الصهيونية والهجرة اليهودية والانتداب البريطاني على فلسطين(20).

كذلك اتصل "مكتب المعلومات" بعدد من الشيوخ في شرق الأردن ودعاهم لمقابلة وايزمان في أريحا من أجل إقامة تحالف مع الصهيونية. ولبى هذه الدعوة عشرة من أهم الشيوخ في شرق الأردن(21). بيد أن حاييم وايزمان لم يتمكن من الوصول إلى أريحا بسبب اندلاع المظاهرات الفلسطينية والاشتباكات بين الفلسطينيين من ناحية والصهيونيين من ناحية أخرى(22).

كذلك نظم مكتب المعلومات اجتماعاً آخر لوايزمان مع عدد من شيوخ النقب في السادس من نيسان (ابريل) في مستوطنة "رحوبوت". ولكن لم يتمكن وايزمان من حضور هذا الاجتماع لانشغاله في الصدامات التي كانت جارية ذلك الأسبوع في مدينة القدس(23). وقد بلغت تكاليف الاجتماعين اللذين لم يحضرهما وايزمان 260 جنية استرليني صرفها "مكتب المعلومات" بين رشاوي ومصروفات إضافية وسفر(24).

أنفق "مكتب المعلومات" مبالغ كبيرة أخرى لإثارة الفتن بين العرب المسلمين والمسيحيين في مدينة القدس وأماكن أخرى من فلسطين(25). كذلك أنفق "مكتب المعلومات" مبلغ 125 جنية إسترليني في شراء صحيفة عربية في مدينة يافا وغير محررها من أجل جعل هذه الصحيفة وسيلة إعلام صهيونية(26).

أدرك حاييم وايزمان أن دمشق باتت، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، مركزاً هاماً للنشاط القومي العربي ولفعاليات الحركة الوطنية الفلسطينية، التي كانت تلعب دوراً هاماً في النشاطين السوري العام والقومي العربي في دمشق، عشية وبعد إعلان استقلال سوريا. لذلك، قام حاييم وايزمان في أيلول (سبتمبر) 1919 بإرسال الدكتور شلومو بلمن إلى دمشق(27).

أوكل وايزمان للدكتور شلومو بلمن القيام بمهمتين. كانت المهمة الأولى علنية حيث عمل الدكتور شلومو بلمن ممثلاً غير رسمي للمنظمة الصهيونية لدى الملك فيصل في دمشق(28). أما المهمة الثانية فكانت سرية حيث كلفه وايزمان القيام بالتجسس على ما يدور في دمشق والأراضي السورية لصالح وايزمان و"مكتب المعلومات" التابع إلى "اللجنة الصهيونية" في القدس(29).

قام الدكتور شلومو بلمن بالمهمتين منذ مباشرة عمله في أيلول (سبتمبر) 1919 وحتى سقوط حكومة فيصل واحتلال الجيش الفرنسي دمشق في تموز (يوليو) 1920. دأب شلومو بلمن، في نشاطه التجسسي في دمشق، على جمع المعلومات وإرسالها إلى حاييم وايزمان و"اللجنة الصهيونية" في القدس بصورة منتظمة. وشمل عمله التجسسي هذا جملة واسعة من القضايا، كان أبرزها : العلاقات بين الجنرال "النبي" ولورانس من ناحية والملك فيصل من ناحية أخرى، الرسائل التي كان يرسلها فيصل إلى دمشق أثناء مكوثه في باريس لحضور مؤتمر السلام، العلاقات السورية الفرنسية، العلاقات السورية البريطانية، نشاطات الأحزاب والجمعيات السورية والفلسطينية والعلاقات في ما بينها، نشاطات الجمعيات السرية، التجنيد إلى الجيش السوري ومتابعة الصحافة السورية الخ.

وقد لاحظ شلومو بلمن ازدياد الانتقادات الموجهة إلى الملك فيصل بخصوص موقفه المهادن للصهيونية. واقترح بلمن على وايزمان، في احد تقاريره، شراء صحف سورية ورشوة أصحاب صحف وصحفيين ونشيطين سوريين من أجل أن يتحولوا من معادين ومعارضين للصهيونية إلى مؤيدين وداعمين لها(30). أما بخصوص نشاط شلومو بلمن العلني، كممثل غير رسمي لوايزمان والمنظمة الصهيونية لدى الملك فيصل في دمشق، فقد تابع العلاقات وتطوراتها بين فيصل ووايزمان وأجرى الاتصالات وأوصل رسائل وايزمان إلى الملك فيصل. وكذلك أجرى مفاوضات طويلة حول منح المنظمة الصهيونية قرضا إلى حكومة فيصل التي كانت تعاني من أزمة مالية خانقة.

وتمحورت المفاوضات حول شروط القرض وضمانات استعادته والثمن السياسي الذي سيقدمه الملك فيصل وحكومته مقابل هذا القرض، حيث طالب وايزمان أن يؤيد الملك فيصل وحكومته المطامع الصهيونية في فلسطين من هجرة واستيطان وإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين(31).

علاوة على الجاسوس بلمن في دمشق، كان لوايزمان، في هذه الفترة، جاسوسًا يهوديا آخر في بيروت هو الصحفي جاك قالمي، الذي بدأ العمل لصالح وايزمان والمنظمة الصهيونية في نيسان (ابريل) 1920. وقد زود جاك قالمي وايزمان بالمعلومات حول الأوضاع في لبنان وسوريا وحول العلاقات الفرنسية العربية. وقد عمل جاك قالمي منسقاً بين "اللجنة الصهيونية" في القدس والسلطات الفرنسية في لبنان (32).

أيضا، استعان حاييم وايزمان و"اللحنة الصهيونية" في القدس بالعديد من اليهود البيروتيين للتجسس، وكان أبرزهم الصحفي كاليف الذي قام بتزويد وايزمان و"اللجنة الصهيونية" في القدس بمواقف الصحف السورية وتغطيتها لأحداث فلسطين وتطورات الأحداث في سوريا(33).

(16) اوري ميلشثاين, بدام فاإيش يهودا , (بالدم والنار يهودا) تل أبيب: ليفين ابشتاين (الطبعة الثانية) ، 1974 ، ص44.

(17) Neil Caplan, Futile Diplomacy : Early Arab-Zionist Negotiation Attempts 1913-1931(Volume One),London:Frank Cass1983, p.63

(18)يواب جيلبر شورشي هاحفتسيليت ... مصدر سبق ذكره,ص32 .

(19) انظر رسالة "اللجنة الصهيونية في القدس إلى الادارة في لندن – طلب ميزانية", 5 ايار (مايو) , 1920 , ملف 2800 Z 4/ , الارشيف الصهيوني المركزي.

(20) هيلل كوهين، تسفا هاتسلاليم، (جيش الظلال)، القدس: عفريت, 2004, ص21.

(21) يوآب جيلبر, شورشي هاحفتسيليت ... مصدر سبق ذكره ص34.

(22) المصدر نفسه.

(23) المصدر نفسه.

(24) المصدر نفسه.

(25) المصدر نفسه.

(26) المصدر نفسه.

(27) نقديمون روغيل"رجل وايزمان في دمشق – حول مسألة ايفاد الدكتور شلومو بلمن إلى بلاط فيصل، أيلول (سبتمر) 1919 – تموز (يوليو) 1920" في الصهيونية (تسيونوت) الجزء الثامن, ص294-295.

(28) المصدر نفسه ص296. في 3 نيسان (ابريل) 1919 اخبر وايزمان اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية أنه اجتمع مع فيصل وأنه هو والأمير فيصل اتفقا أن ترسل المنظمة الصهيونية العالمية ممثلا دائما لها في دمشق لدى حكومة فيصل, المصدر نفسه, ص279.

(29) المصدر نفسه ص 294.
(30) كتب شلومو بلمن اثناء عمله التجسسي في دمشق 15 تقريرا مفصلا باللغة الفرنسية. وهي موجودة في الارشيف الصهيوني المركزي في القدس في ملفات:
L 4/52 و L 3/278 و Z 4/14427 و Z 4/2332 و Z 4/16078 وقام نقديمون روجيل بترجمتها إلى العبرية ونشرها في الصهيونية الجزء الثامن ص308-353.

(31) نقديمون روجيل, رجل وايزمان في دمشق , مصدر سبق ذكره ص 297-298

(32) انظر رسالة إلى وايزمان، بتاريخ 29 نيسان (ابريل) 1920 في ملف 4/1336 Zفي الارشيف الصهيوني المركزي.

(33) رسالة قالمي إلى وايزمان 6 حزيران (يونيو) 1920 ملف S25/9907 في الارشيف الصهيوني المركزي.


* نشرت أيضا في مجلة "المستقبل العربي" عدد 357 الصادرة في بيروت

التعليقات