المخابرات الصهيونية: بدايات التجسس على العرب(4/4)../ د.محمود محارب

-

المخابرات الصهيونية: بدايات التجسس على العرب(4/4)../ د.محمود محارب
تضافرت مجموعة عوامل قادت رئيس الدائرة السياسية "للإدارة الصهيونية" في القدس، فريدريك كيش، إلى إقالة حاييم كالفاريسكي في كانون الثاني (يناير) من العام 1928 من منصبه، وحل "المكتب العربي" التابع "للإدارة الصهيونية" في القدس. كان من أهم هذه العوامل الهدوء النسبي الذي شهدته الحركة الوطنية الفلسطينية في أواسط العشرينيات، وازدياد النقد من جهات صهيونية عديدة على أسلوب عمل كالفاريسكي وكثرة الحديث عن تبذير كالفاريسكي الأموال على الرشاوى التي يقدمها للعرب بدون تحقيق الأهداف المرجوة، في وقت كانت الحركة الصهيونية بأمس الحاجة للأموال لاستيعاب موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين(41).

بيد أن حسابات البيدر لم تتناسب مع حسابات الحقل. فلم يمض عام على إقالة حاييم كالفاريسكي حتى عاد كيش ودعا "الخبير الوحيد" كالفاريسكي إلى العودة على عجل من باريس إلى القدس ليعيد بناء ويرأس "المكتب" المختص بالتجسس على العرب. فقد شهد العام 1929 حدثين هامين في ما يخص تطور الأحداث على الصعيدين اليهودي الصهيوني والنضال الوطني الفلسطيني. ففي هذا العام سعت المنظمة الصهيونية إلى تعزيز دور اليهود في العالم، غير المنخرطين عادة في نشاط المنظمة الصهيونية، أو الذين لم يعتبروا أنفسهم صهيونيين أو لم يرغبوا الظهور علناً كصهيونيين، في إقامة البيت القومي اليهودي في فلسطين.

ولتحقيق هذا الغرض، ولأسباب أخرى منها تمثيل اليهود أمام سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين، أقامت المنظمة الصهيونية، في العام 1929، "الوكالة اليهودية"(42). و قد انضم إلى الوكالة اليهودية رموز يهودية هامة في العالم كان أبرزهم الزعيم الاشتراكي الفرنسي ليون بلوم وعالم الفيزياء البرت اينشتاين والزعيم اليهودي الأميركي لوي مارشال.

وعلى صعيد النضال الوطني الفلسطيني اندلعت في خريف 1929 ثورة البراق في فلسطين التي فاقت بشموليتها واتساع نطاقها وحدتها، انتفاضتي العامين 1920 و 1921. لقد فوجئت القيادة الصهيونية وذهلت من نشوب الثورة، ونزل عليها حجم الخسائر اليهودية كالصاعقة. طلبت القيادة الصهيونية في لندن من فريدريك كيش، رئيس الدائرة السياسية للوكالة اليهودية تزويدها فوراً بمعلومات وتحليلات حول الثورة والحركة الوطنية الفلسطينية وقيادتها ودور الحاج أمين الحسيني الخ(43).

على أثر اندلاع ثورة البراق في العام 1929 في فلسطين، أصبح واضحاً للمؤسستين "القوميتين" في اليشوف اليهودي ( "الوكالة اليهودية" و "اللجنة القومية") أن عمل ونشاط كل منهما في " المسألة العربية " على حدة، هو هدر للطاقات. لذلك قررت هاتان المؤسستان في اجتماع لهما في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1929، توحيد جهودهما وإقامة "المكتب الموحد للمؤسسات اليهودية في فلسطين". ولكي يكون هذا الاتفاق شاملاً لجميع شرائح مجتمع المستوطنين والمهاجرين اليهود في فلسطين، اتفقت "الوكالة اليهودية" و "اللجنة القومية" إضافة ممثلين من الحزب الديني اليهودي غير الصهيوني "أغودات يسرائيل" إلى إدارة "المكتب الموحد للمؤسسات اليهودية في فلسطين"(44).

كذلك اتفقت هاتان المؤسستان على التعامل والتعاطي مع كل ما يتعلق بالعرب والسياسة تجاههم والتجسس عليهم من خلال "المكتب الموحد" فقط. وعينتا فريدريك كيش، ممثل الوكالة اليهودية ورئيس دائرتها السياسية رئيساً "للمكتب الموحد"، ويتسحاق بن تسفي ممثل "اللجنة القومية" والذي أصبح بعد قيام إسرائيل ثاني رئيس للدولة العبرية، نائباً لرئيس "المكتب الموحد". واتفقت المؤسستان مع حزب "اغودات يسرائيل" على تعيين مجلس استشاري يتألف من تسعة أشخاص، اثنان منهم عن حزب "اغودات يسرائيل"(45).

بعد إقامته وتعيين حاييم كالفاريسكي مديراً له، اختار "المكتب الموحد" مقراً جديداً في القدس، منفصلاً عن مقري "الوكالة اليهودية" و "اللجنة القومية" ليتسنى استقبال عملاءه بدون إثارة الشبهات. وقد ظل "المكتب الموحد" يعمل وفق الصيغة التي تأسس بموجبها حتى كانون الثاني ( يناير ) 1931، حيث انسحب مندوبو "اللجنة القومية" من "المكتب الموحد" في بداية العام 1931، فانفردت الدائرة السياسية للوكالة اليهودية في إدارته والإشراف عليه(46). وضع "المكتب الموحد" عند إقامته برنامج عمل واسع وطموح شمل الأهداف التالية(47):

1. الحصول على معلومات، بصورة منتظمة، حول ما يحدث في صفوف العرب، في الصحافة العربية، في المؤسسات والأحزاب والجماعات العربية في فلسطين.
2. جمع وتنظيم معلومات إحصائية حول جميع القضايا المتعلقة بحياة العرب ودراسة أثر النشاط الصهيوني على حياة العرب الاقتصادية والثقافية الخ.
3. تحضير المواد الضرورية لشرح الأهداف والأساليب اليهودية لدوائر عربية.
4. إقامة علاقات مع عرب لا يعارضون النشاط الصهيوني في فلسطين، ومساعدتهم في تنظيمهم وفي نشاطاتهم.
5. التعامل بشكل خاص مع الفلاحين ومع مشاكلهم الاقتصادية.
6. معالجة المسائل العالقة بخصوص مواقف اليهود والعرب في المجالس البلدية.
7. تطوير علاقات ودية بين المستوطنات اليهودية والقرى العربية.
8. إقامة علاقات مع الصحافة العربية في فلسطين والبلاد العربية المجاورة وتزويدها بالمواد.


ومن أجل تحقيق أهداف "المكتب الموحد" المتعلقة بجمع المعلومات عن العرب والتجسس عليهم واستقطاب وتنظيم عملاء عرب من فلسطين والبلاد العربية الأخرى، أنشأ "المكتب الموحد" بداخله جهازاً أطلق عليه "خدمة المعلومات"(شيروت يديعوت ) (48).

كان جهاز "خدمة المعومات" صغيراً للغاية، وأسسه حاييم كالفاريسكي وعمل معه نفر قليل من الأشخاص كان أبرزهم أهرون حاييم كوهين ويوسف حسون وهو يهودي من مواليد فلسطين. أنيط بالأول إعداد "بطاقات" حول الشخصيات والنشطاء العرب، أما الثاني فكان مسؤولاً في "خدمة المعلومات" عن ملف الصحافة العربية وقد أنيط به إعداد تقرير دوري حول القضايا التي تنشر في الصحف العربية، ذات الصلة بالاهتمام الصهيوني(49). واستند يوسف حسون في إعداده التقرير الدوري على جميع الصحف العربية الصادرة في فلسطين وعلى أهم الصحف العربية الصادرة في البلاد العربية المجاورة لفلسطين، حيث اشترك المكتب الموحد بها. وكان هذا التقرير الدوري من أوائل النشرات الداخلية التي توزع بصورة محدودة على المسؤولين القياديين الصهيونيين.

في بداية العام 1930 شرعت "خدمة المعومات" بإعداد "بطاقات" حول شخصيات عربية هامة، وذات تأثير أو نفوذ، من فلسطين ومن البلاد العربية المجاورة. تمحورت المعلومات في هذه " البطاقات" حول حسب الشخص، ووضعه المالي، وأملاكه وثقافته ومدى أهميته ومن هي الدائرة التي تحيط به ونشاطه في المجال العام والوطني ودوره. وما أن انتهى العام 1930 حتى شملت هذه البطاقات 800 شخص عربي من فلسطين وشرق الأردن وسورية والعراق ومصر واليمن. كذلك احتوى ملف "البطاقات" حينئذ 200 صورة لشخصيات وقادة عرب(50).

استعان "المكتب الموحد" و "خدمة المعومات" التابعة له، في جمع المعومات حول العرب بدافيد تدهر، وهو يهودي ولد في يافا في العام 1897 وعمل ضابطاً في الشرطة البريطانية في القدس منذ 1921 وحتى 1926 ثم سافر إلى مصر ليعمل "محققاً خاصاً". في أواخر العام 1929 باشر دافيد تدهر في جمع المعلومات عن النشاطات السياسية التي تدور في مصر المرتبطة بالقضية الفلسطينية، وأخذ يرسلها إلى المكتب الموحد وفي هذا السياق أرسل دافيد تدهر العديد من التقارير حول نشاطات اللجنة "السورية الفلسطينية" في مصر وحول أبرز نشطائها وعلاقاتهم مع الشخصيات الوطنية المصرية. كذلك جمع وأرسل دافيد تدهر معلومات وصور حول الصحافة العربية في مصر ودورها ومدى انتشارها ومواقفها ومعلومات متنوعة تتعلق بأصحابها ومحرريها(51).

اعتمد "المكتب الموحد" و"خدمة المعومات" التابعة له على مجموعة متنوعة من المصادر في جمع المعلومات، كان جزء منها علنياً وآخر سرياً. وشملت مصادر المعلومات :
أولاً : الصحافة العربية في فلسطين. فقد اشترك المكتب الموحد في جميع الصحف العربية الصادرة في فلسطين وحلل محتوياتها.
ثانياً : الصحافة العربية الصادرة في البلاد العربية المجاورة، حيث اشترك في أهم الصحف العربية في البلاد المجاورة لفلسطين.
ثالثاً : المخبرون العرب سواء في فلسطين أو في البلاد العربية.
رابعاً : اليهود في فلسطين الذين كانت لهم علاقات اقتصادية أو اجتماعية مع العرب.
خامساً : اليهود الذين كانوا يعملون في أجهزة الدولة المنتدبة في فلسطين وخاصة أجهزة الشرطة والإدارة.
سادساً : اليهود في الدول العربية المجاورة وخاصة في سورية ولبنان ومصر والعراق.
سابعاً : التصنت على المحادثات الهاتفية للعديد من قادة النضال الوطني الفلسطيني, من خلال التصنت على "سنترال" تلفونات القدس بواسطة موظفين يهود يعملون في سنترال التلفونات.فمثلاً، منذ أوائل تشرين الأول (أكتوبر ) 1929 بدأت "خدمة المعومات" بالتصنت على هاتف المقر المركزي للهيئة الإسلامية العليا في القدس واستمر ذلك لعدة سنوات (52).
منذ وقوع فلسطين تحت الاحتلال البريطاني في العام 1918 أولت القيادات الصهيونية أهمية كبيرة للتجسس على العرب، فأقامت جهاز المخابرات لوضع المعلومات والدراسات والتحليلات عن العرب أمام متخذي القرار الصهيوني، علاوة على القيام بمهام هامة أخرى كتجنيد المخبرين والعملاء وزرع الفرقة وبث الفتنة بين العرب على أسس طائفية وجهوية وحمائلية. وسعت المخابرات الصهيونية منذ البداية إلى إقامة علاقات مع النخب والصحف العربية في فلسطين والبلاد العربية المجاورة هادفة استقطابها أو شرائها أو تحييدها أو تخفيف عدائها للمشروع الصهيوني.

ورغم طاقاتها المالية المحدودة وقلة عدد العاملين فيها، خاصة في العقد الأول ونيف من تأسيسها، أحرزت المخابرات الصهيونية العديد من النجاحات، وخاصة في علاقاتها مع بعض النخب والصحف العربية. لقد استفادت المخابرات الصهيونية في نشاطها بين العرب من الفرضيات الخاطئة والمجتزأة عن اليهود والصهيونية، التي كانت منتشرة بين العرب، واكتسبت خبرة في استثمارها، وخاصة في علاقاتها مع النخب العربية. فالفرضيات الخاطئة بأن الصهيونية واليهود يسيطرون على العالم وعلى سياسة الدول العظمى وأنهم يملكون أموالاً طائلة وأن هناك مصالح مشتركة بين النخب العربية والحركة الصهيونية لا تتناقض مع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، قادت إلى تعزيز سطوة ونفوذ المخابرات الصهيونية لدى الكثيرين ممن كانوا يؤمنون بهذه الأفكار.
(41) حول الوضع المالي وظروف اقالة كالفاريسكي انظر إلى تقرير كيش إلى محاسب الأدارة الصهيونية في لندن في 12 كانون الثاني (يناير) 1928, 3066/S25، الأرشيف الصهيوني المركزي.

(42)صبري جريس , تاريخ الصهيونية (الجزء الثاني) نيكوسيا: مركز الأبحاث الفلسطيني، 1986، ص 201.

(43) ملف 9115 / S25 الأرشيف الصهيوني المركزي.

(44)Col.F.H.Kisch, Letter To The Chairman of the Political Commission, XVIIth Zionist Congress, and the Chairman of the Political Commission IInd Assembly of the Jewish Agency for Palestine. Accompanied by a Report on the Report on the work of the Joint Bureau for Arab Relations, 1931, p.22

(45) المصدر نفسه.

(46) المصدر نفسه، ص 24

(47) المصدر نفسه.

(48) تقرير حول نشاطات المكتب في العام 1930 ملف 3554 / S25، الأرشيف الصهيوني المركزي.

(49) المصدر نفسه.

(50) ملف 4158 / S25، الأرشيف الصهيوني المركزي

(51) ملف 3263 / S25، الأرشيف الصهيوني المركزي، للمزيد حول نشاط دافيد
تدهر راجع كتابه: بشيروت هاموليديت (1912-1960) (في خدمة الوطن 1912-1960) تل ابيب، ب ت.

(52) تقارير التصنت على الهيئة الأسلامية العليا موجودة في ملف 22329 / S25، الأرشيف الصهيوني المركزي.


نشرت أيضا في مجلة "المستقبل العربي" عدد 357 الصادرة في بيروت

التعليقات