ستون عاما على النكبة: ترحيل الفلسطينيين؛ الجذور والممارسة../ د.محمود محارب

-

ستون عاما على النكبة: ترحيل الفلسطينيين؛ الجذور والممارسة../ د.محمود محارب
في العام 1948 قامت القوات العسكرية الصهيونية بطرد غالبية الشعب العربي الفلسطيني من وطنه فلسطين وفق خطة عسكرية معدة سلفا. انبثقت فكرة طرد الشعب العربي الفلسطيني وابعاده عن وطنه، من صلب الحركة الصهيونية، ورافقت هذه الفكرة تطور المشروع الصهيوني في فلسطين منذ نهاية القرن الماضي وحتى يومنا هذا. وما كان للهدف المركزي للصهيونية، والمتمثل بإنشاء دولة يهودية في فلسطين، ليتحقق دون طرد الفلسطينيين أو معظمهم من فلسطين. فمجرد وجود الشعب العربي الفلسطيني في وطنه تناقض مع الصهيونية وهدفها الأساسي في فلسطين، والساعي إلى انشاء دولة يهودية من عنصر واحد.

ونكاد لا نجد مفكرا أو قائدا صهيونيا في القرن المنصرم إلا واعتبر وجود الشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين، عقبة كأداء أمام إنشاء دولة يهودية، وطالب بطردهم من فلسطين.

تعج الارشيفات الصهيونية بالكثير جدا من الوثائق لخطط وقرارات وكتابات وأقوال لقادة ومفكرين صهيونيين دعوا إلى تهجير الفلسطينيين وربطوا تحقيق إقامة الدولة اليهودية في فلسطين بمقدار نجاح الصهيونية في تهجير الفلسطينيين. وقد كانت هذه الوثائق في حينه سرية ولكن بعد مرور العقود تم كشفها للباحثين. وكذلك قامت العديد من المؤسسات الاسرائيلية بنشر الكثير من "مذكرات" و"يوميات" القادة الصهيونيين، والذين يكشفون فيها عن مواقفهم الداعية إلى طرد الفلسطينيين. فمثلا،ا عندما كان يضع الخطوط العريضة للبرنامج الصهيوني الهادف إلى انشاء دولة يهودية في فلسطين، كتب مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية ثيودور هرتسل في "يومياته" في العام 1895، حول موقف الصهيونية من العرب الفلسطينيين: "سنحاول نقل الشرائح الفقيرة إلى ما وراء الحدود، بهدوء ودون إثارة ضجة بمنحهم عملا في الدول التي سينقلون إليها. لكننا سوف لن نمنحهم أي عمل في بلادنا".

حذا حذو هرتسل معظم قادة الحركة الصهيونية في دعوتهم وسعيهم إلى تهجير الفلسطينيين. فمثلا، طرح حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، في العام 1930 خطة لترحيل الفلاحين الفلسطينيين إلى شرق الأردن والعراق. وقدم خطته هذه إلى وزارة المستعمرات البريطانية.

خطط للترحيل ولجان للطرد

مع تصاعد المقاومة الفلسطينية ووصول الصراع الفلسطيني الصهيوني إلى إحدى ذراه، إبان ثورة 1936- 1939، طرح قادة الحركة الصهيونية في فلسطين مسألة طرد الشعب الفلسطيني كأحد أهم التحديات التي تواجه الحركة الصهيونية. وسرعان ما تشكل إجماع صهيوني "قومي" يدعو إلى العمل لتهجير الفلسطينيين، ولم يعد هذا الموضوع يطرح في الغرف المغلقة أو بالهمس والإيماء، وإنما أصبح يناقش، ومن ثم يتمم تبنيه رسميا، من قبل الأحزاب والمؤسسات الصهيونية. وضم هذا الإجماع الصهيوني الداعي إلى ترحيل الفلسطينيين جميع الأحزاب الصهيونية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار الصهيوني شاملا حزب "مباي" وحزب "مبام" وحزب "الصهيونيين العموميين" و"الحركة التصحيحية" والمنظمات العسكرية الصهيونية واللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية.

في كانون الثاني (نوفمبر) من العام 1937 شكل موشيه شرتوك (شاريت) رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، والذي أصبح بعد قيام إسرائيل وزيرا للخارجية ومن ثم رئيسا للوزراء، "لجنة ترحيل السكان". وضمت هذه اللجنة شرتوك نفسه والعديد من قادة الصف الأول الصهيونيين، علاوة على مجموعة من الصهيونيين الذين قادوا أو نشطوا في الأجهزة المختصة بالشؤون العربية كجهاز المخابرات، والمؤسسات التي لها الخبرة في الاستيلاء على الأراضي العربية مثل "الكيرن كاييمت" (الصندوق القومي) و"شركة هخشرات هيشوف" والتي كانت تعرف باسم شركة تطوير أراضي فلسطين.

وقد أنيط بهذه اللجنة مهام عديدة، تتمحور حول إيجاد أفضل الطرق لترحيل الفلسطينيين، وفي هذا السياق قامت اللجنة بإجراء دراسات حول أوضاع الفلسطينيين وعددهم وعدد قراهم ومدنهم ومستوى معيشتهم والعلاقات الداخلية الفلسطينية. كذلك أجرت دراسات حول تكلفة نقل الفلسطينيين إلى كل من شرق الأردن والعراق وسورية. وقدم العديد من أعضاء "لجنة ترحيل السكان" الخطط لترحيل الفلسطينيين كان أبرزها خطتان ليوسف فايتس، مدير دائرة الاستيطان واستثمار الأراضي في "الكيرن كاييمت"، والذي قدم فيهما مشروعا مفصلا لتهجير الفلسطينيين إلى شرق الأردن وسورية والعراق. كذلك قدم الناشط في شركة "هخشرات هيشوف" سيلغ سوسكين خطة في العام 1937 لترحيل قسري للعرب الفلسطينيين، وأوضح بصورة صريحة أن تهجير الفلسطينيين هو شرط لا بد منه لقيام الدولة اليهودية. وفي تموز (يوليو) من العام 1938 قدم خبير "لجنة ترحيل السكان" الفرد بونيه خطة إلى دافيد بن غوريون تحت عنوان "ترحيل السكان العرب"، شرح فيها آراءه حول ضرورة تهجير الفلسطينيين، وقدم حسابا مفصلا حول التكلفة المالية لترحيل الفلسطينيين وإعادة توطينهم في شرق الأردن والعراق.

في العام 1942 قام موشيه وشرتوك بتشكيل اللجنة الثانية للترحيل مضيفا إليها العديد من القادة الصهيونيين والمختصين بالشؤون العربية ومشددا على ضرورة وضع الخطط العملياتية تمهيدا لتنفيذ الترحيل في الوقت الملائم.


قادة الترحيل

في العام 1947 وعشية صدور قرار الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، والقاضي بتقسيم فلسطين، كانت القيادة الصهيونية قد رسمت الخطط ووضعت استراتيجية شاملة لاقتلاع الفلسطينيين وإبعادهم من الدولة العبرية المزمع انشاؤها. وقد وقف على رأس هرم القيادة الصهيونية، والتي نفذت عملية الإبعاد، دافيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية، والذي أصبح أول رئيس للوزراء ووزيرا للدفاع بعد قيام إسرائيل. وكذلك موشيه شرتوك رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية والمسؤول عن مخابرات القسم العربي في الوكالة اليهودية.

أمسك دافيد بن غوريون بجميع الخيوط التي تقود المؤسسات والأطر الصهيونية لمجتمع المستوطنين والمهاجرين اليهود في فلسطين ليس فقط بحكم موقعه الرسمي وإنما أيضا بسبب الزعامة الكريزماتية التي تمتع بها في مجتمع المستوطنين اليهود. فقد كان بن غوريون قائد ومهندس عملية إنشاء الدولة اليهودية.

عمل تحت إمرة دافيد بن غوريون في تنفيذ عملية الطرد مجموعة واسعة من قيادات الهاغاناة، وكان أشهرهم يغئال يدين وموشيه ديان ويتسحاق رابين ويغئال الون ويسرائيل غاليلي وغيرهم، كذلك قادة أجهزة المخابرات وأبرزهم رؤوبين شيلواح وأيسر بئيري وايسر هارئيل وعزرا دانين، والياهو ساسون وتيدي كولك ويعقوب هرتسوغ، وخبراء الشؤون العربية في المؤسسات الصهيونية أمثال يوسف فايتس ويوسف نحماني وجاد مخنيس وموشيه مخنيس.

كان دافيد بن غوريون القائد الأعلى والمحرك لعملية الطرد. ومما مكن القوات الصهيونية من تنفيذ عملية الطرد أن ميزان القوى العسكري في فلسطين كان يميل لصالحها بشكل واضح. ففي بداية العام 1948 كان لدى المنظمات العسكرية الصهيونية الثلاثة أكثر من 70 ألف مقاتل ومقاتلة. وفي نهاية العام 1948 بلغ عدد قوات الجيش الإسرائيلي أكثر من 95 ألف جندي وضابط. وهذه القوات كانت أكثر بكثير ليس فقط من عدد المقاتلين الفلسطينيين الذين لم يزد عددهم على عشرة آلاف مقاتل وحامل للسلاح في أية مرحلة من مراحل الحرب، وإنما أيضا أكثر من ضعفي عدد الجيوش العربية، التي لم يكن هدفها منع قيام الدولة اليهودية أو تقليص المساحة المخصصة لها وفق قرار التقسيم، وإنما كانت تتنافس وتتصارع فيما بينها على وضع يدها على المنطقة المخصصة للدولة العربية الفلسطينية وفق قرار التقسيم.

كانت استراتيجية القيادة الصهيونية عشية إصدار الأمم المتحدة قرار التقسيم في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، تسعى لتحقيق هدفين أساسيين ارتبط الواحد بالآخر ارتباطا وثيقا لا ينفصم، وهما: إقامة دولة يهودية في أكبر مساحة ممكنة من فلسطين وطرد الفلسطينيين من المنطقة الفلسطينية التي تقام عليها الدولة اليهودية.

بعد صدور قرار التقسيم شنت القوات العسكرية الصهيونية عمليات عسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين في المدن الرئيسية مثل يافا والقدس وحيفا وطبريا وصفد واللد والرملة، وضد عشرات القرى الفلسطينية. واستهدفت هذه العمليات الإجرامية إيقاع أكبر خسائر ممكنة بين المدنيين الفلسطينيين. وفي هذا السياق ارتكبت القوات الصهيونية عشرات المجاز الصغيرة في المدن والقرى الفلسطينية على طول فلسطين. وجاءت هذه المجازر على شكل عمليات تفجير في الأسواق والأماكن العامة المقتظة بالمدنيين وعمليات ضد الحافلات ووسائل النقل وتدمير منازل وقتل من فيها. وكان هدف هذه العمليات الصهيونية إرهاب العرب الفلسطينيين المدنيين وترويعهم لحملهم على الرحيل.

ولتوضيح نوعية هذه المجازر "الصغيرة" نورد واحدة من عشرات المجازر التي نفذت في الشهور التي تلت قرار التقسيم. ففي الأول من كانون الثاني (يناير) 1948 ألقت مجموعة مسلحة صهيونية القنابل في شارع عربي مزدحم بالناس في مدينة القدس فقتلت 15 مدنيا عربيا وأصابت 42 آخرين بجروح بليغة.

استخدمت القيادة الصهيونية هذه المجازر التي نفذتها على طول فلسطين في حربها النفسية ضد الفلسطينيين من خلال إذاعة "الهاجاناه" التي كانت تبث باللغة العربية ومن خلال آلاف المنشورات التي دستها في المدن والقرى الفلسطينية، والتي هوّلت من قوة اليهود وما ستقوم به القوات العسكرية الصهيونية ضد العرب في حالة بقائهم في مدنهم وقراهم، لدفعهم على الرحيل.

خطة "دالت" (دال):

في آذار (مارس) من العام 1948 دخلت الحملة العسكرية الصهيونية طورا جديدا وأكثر خطورة عندما شرعت قيادة الهاجاناه بتنفيذ "توخنيت دالت" أي "خطة د"، التي كانت قد وضعت أول مرة في العام 1942 وأدخلت فيها تعديلات عدة،خلال السنوات، لتتجاوب مع تحقيق الهدفين الصهيونيين المركزيين والمتمثلين بإقامة الدولة اليهودية وطرد العرب الفلسطينيين منها. وقد نصت "الخطة د" على القيام بـ"حرق" و"نسف" و"تدمير" القرى العربية و"طرد السكان العرب المحليين إلى خارج الحدود...".

وفي الفترة الممتدة من العاشر من آذار (مارس) 1948 وحتى قيام إسرائيل في 15 أيار (مايو) 1948 شرعت الهاجاناه و"اتسل" و"ليحي" بتنفيذ "خطة دالت"، فقامت باحتلال القرى والمدن العربية الفلسطينية وطرد سكانها وتدميرها وارتكاب المجازر البشعة بحق المدنيين الفلسطينيين، كان أشهرها مجزرة دير ياسين التي اقترفتها اتسل (عصابة الأرغون) وليحي (عصابة شتيرن) بمساعدة ودعم الهاجاناه.

وبعد قيام إسرائيل استكمل الجيش الإسرائيلي تنفيذ "خطة دالت" واستمر في عمليات ترحيل الفلسطينيين بقوة السلاح وعبر ارتكاب عشرات المجازر التي ذهب ضحيتها الاف الفلسطينيين الآمنين. وابرز المجازر التي تشير لها أيضا الوثائق الإسرائيلية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، كانت مجزرة الدوايمة في جنوب فلسطين ومجزرة اللد في وسط فلسطين والتي راح ضحيتها أكثر من 400 مدني فلسطيني، ومجزرة الطنطورة بالقرب من حيفا ومجزرة الصفصاف في شمال فلسطين وغيرها الكثير.

استمرت حملة إسرائيل في التنكيل بالفلسطينيين وأبعادهم طيلة العام 1948 وحتى بداية العام 1949. وقد أسفرت هذه الحملة المنظمة عن طرد أكثر من 750 ألف فلسطيني وتدمير أكثر من 530 قرية ومدينة.

ولكي تؤكد تصميمها وإصرارها على عدم السماح إلى اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى مدنهم وقراهم قامت إسرائيل بتدمير القرى الفلسطينية تدميرا كاملا وتوطين المهاجرين اليهود في المدن العربية الفلسطينية بعد أن طردت سكانها العرب منها.

وفي ما يخص الفلسطينيين الذين تمكنوا من البقاء في المنطقة التي أقيمت عليها إسرائيل، وكان عددهم يبلغ 150 ألف نسمة في العام 1949، سعت الحكومة الاسرائيلية إلى التخلص منهم. ففي الفترة الممتدة من العام 1949 وحتى العام 1956 قامت إسرائيل بقوة السلاح بترحيل سكان مدينة المجدل في العام 1950، وسكان أكثر من 24 قرية عربية أبرزها عملية ترحيل سكان قرية زكريا في العام 1950، وترحيل سكان قريتي كراد الغنامة وكراد البقارة في العام 1956، الواقعتين قرب بحيرة الحولة في شمال فلسطين، والبالغ عددهما 5000 نسمة.

التعليقات